الغدير ـ الجزء السادس ::: 111 ـ 120
(111)
17
كل أحد أفقه من عمر
    دخل علي على عمر وإذا امرأة حبلى تقاد ترجم فقال : ما شأن هذه ؟ قالت : يذهبون بي ليرجموني.
    فقال : يا أمير المؤمنين ! لأي شئ ترجم ؟ إن كان لك سلطان عليها فمالك سلطان على ما في بطنها ، فقال عمر : كل أحد أفقه مني ـ ثلاث مرات ـ فضمنها علي حتى وضعت غلاما ثم ذهب بها إليه فرجمها.
    أخرجه الحافظ محب الدين الطبري في الرياض النضرة 2 ص 196 ، وذخاير العقبى ص 81 فقال : هذه غير تلك ـ القضية السابقة ـ لأن اعتراف تلك كان بعد تخويف فلم يصح فلم ترجم وهذه رجمت. وذكره الحافظ الكنجي في الكفاية ص 105.
18
رأي الخليفة في الحائض بعد الافاضة
    قال ابن المنذر : قال عامة الفقهاء بالامصار : ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت : أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضا لطواف الوداع ، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الافاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها ، ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال : طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر وتطوف البيت. قال : وقد ثبت رجوع ابن عمر (1) وزيد بن ثابت عن ذلك ، وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة ، يشير بذلك إلى ما تضمنته أحاديث (2) هذا الباب ، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد : إن الصحابة كانوا يقولون : إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت إلا فإنه كان يقول : يكون آخر عهدها بالبيت (3).
1 ـ أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحج باب إذا حاضت المرأة عن ابن عباس إنه رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت قال : وسمعت ابن عمر يقول : إنها لا تنفر ، ثم سمعته يقول بعد : إن النبي رخص لهن. وأخرج البيهقي عن زيد بن ثابت ما ظاهره رجوعه عن رأيه.
2 ـ أخرجها البخاري في صحيحه في كتاب الحيض في باب المرأة تحيض بعد الافاضة وفي كتاب الحج باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت ، ومسلم في صحيحه ، والدارمي في سننه 2 ص 68 ، وأبو داود في سننه 1 ص 313 ، والترمذي في صحيحه 1 ص 177 ، وابن ماجة في سننه 2 ص 251 ، والبيهقي في سننه 5 ص 162 ، والبغوي في مصابيح السنة 1 ص 182.
3 ـ فتح الباري 3 ص 462.


(112)
    وعن الحارث بن عبد الله بن أوس قال : أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض ؟ فقال : ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت قال الحارث : فقلت كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فقال عمر : تبت يداك أو ثكلتك أمك سألتني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيما أخالفه (2).
    م ـ وأخرج أبو النضر هاشم بن القاسم الليثي المتوفى 207 المتسالم على ثقته بإسناد رجاله كلهم ثقات عن هاشم بن يحيى المخزومي : إن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ألها أن تنفر قبل أن تطهر ؟ قال عمر : لا.
    فقال له الثقفي : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في هذه المرأة بغير ما أفتيت به.
    فقام إليه عمر يضربه بالدرة ويقول : لم تستفتني في شئ قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إيقاظ الهمم للعمري الفلاني ص 9 ) ].
    قال الأميني : أنا لا أدري كيف ذهب على عمر ما عرفته الصحابة أجمع ـ ويزعم موسى جار الله أنه أعلمهم ـ فخالفوه في الفتيا وتبعتهم علماء الأمصار ، وأما زيد وابن عمر فوافقوه ردحا من الزمن ولا أدري أكان فرقا من درته ؟
    أو موافقة له في رأيه ؟ ولا أدري متى عدلا عن ذلك أبعد موته ؟ أم أبان حياته ؟ وإن تعجب فعجب إنه لم يعدل عن رأيه بعد ما وقف على السنة لكنه خاشن الحارث بن عبد الله وضرب الثقفي بدرته لما أخبراه بها ، واستمر على مذهبه الخاص به خلاف السنة المتبعة ، لماذا ؟ أنا لا أدري.
    ورأى ابن عباس أن لهذه السنة أصلا في الكتاب الكريم قد عزب عن الخليفة أيضا ، أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 5 ص 163 عن عكرمة أن زيد بن ثابت قال : تقيم حتى تطهر ، ويكون آخر عهدها بالبيت. فقال ابن عباس : إذا كانت قد طافت يوم النحر فلتنفر. فأرسل زيد بن ثابت إلى ابن عباس إني وجدت الذي قلت كما قلت قال : فقال ابن عباس : إني لأعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء ولكني أحببت أن أقول بما في كتاب الله ثم تلا هذه الآية ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق )
1 ـ يعني على خلاف ما أفتى به عمر.
2 ـ سنن أبي داود 1 ص 313 ، مختصر جامع العلم لأبي عمر ص 227.


(113)
فقد قضت التفث ووفت النذر وطافت بالبيت ، فما بقي ؟
19
جهل الخليفة بالسنة
    م أخرج ابن المبارك قال : حدثنا أشعث عن الشعبي عن مسروق قال : بلغ عمر : إن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليها ففرق بينهما وعاقبهما وقال : لا ينكحها أبدا وجعل الصداق في بيت المال وفشا ذلك بين الناس فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال : رحم الله أمير المؤمنين ! ما بال الصداق وبيت المال ؟ إنهما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة قيل : فما تقول أنت فيها ؟ قال : لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ، ولا جلد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول ثم تكمل العدة من الآخر ، ثم يكون خاطبا. فبلغ ذلك عمر فقال : يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة. وروى ابن أبي زائدة عن أشعث مثله وقال فيه : فرجع عمر إلى قول علي. أحكام القرآن للجصاص 1 : 504 ].
    وفي لفظ عن مسروق : أتي عمر بامرأة قد نكحت في عدتها ففرق بينهما وجعل مهرها في بيت المال وقال : لا يجتمعان أبدا ، فبلغ عليا فقال إن كان جهلا فلها المهر بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ، فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب. فخطب عمر وقال : ردوا الجهالات إلى السنة. فرجع إلى قول علي.
    وفي لفظ الخوارزمي : ردوا قول عمر إلى علي. وفي التذكرة : فقال عمر : لولا علي لهلك عمر.
    وأخرج البيهقي في سننه عن مسروق قال : قال عمر رضي الله عنه في امرأة تزوجت في عدتها : النكاح حرام ، والصداق حرام ، وجعل الصداق في بيت المال وقال : لا يجتمعان ما عاشا.
    وأخرج عن عبيد بن نضلة ( نضيلة ) قال : رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تزوجت في عدتها فقال لها : هل علمت أنك تزوجت في العدة ؟ قالت : لا. فقال لزوجها : هل علمت ؟ قال : لا. قال : لو علمتما لرجمتكما فجلدهما أسياطا وأخذ المهر فجعله صدقة في سبيل الله قال : لا أجيز مهرا ، لا أجيز نكاحه. وقال : لا تحل لك أبدا.


(114)
    صورة أخرى للبيهقي.
    أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة تزوجت في عدتها فأخذ مهرها فجعله في بيت المال وفرق بينهما وقال : لا يجتمعان. وعاقبهما ، فقال علي رضي الله عنه : ليس هكذا ولكن هذه الجهالة من الناس ، ولكن يفرق بينهما ، ثم تستكمل بقية العدة من الأول ، ثم تستقبل عدة أخرى ، وجعل لها علي رضي الله عنه المهر بما استحل من فرجها ، قال : فحمد الله عمر رضي الله عنه وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة (1)
    قال الأميني : لماذا جلدهما الخليفة ؟ ولماذا أخذ المهر ؟ وبأي كتاب أم بأية سنة جعل الصداق في بيت المال وصيره صدقة في سبيل الله ؟ ولم وبم حرم المرأة على الرجل ؟ أنا لا أدري فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
    وليت الخليفة لا ينسى نفسه ويأخذ بقوله : ردوا الجهالات إلى السنة. قبل قضاءه بالأقضية الشاذة عن الكتاب والسنة.
    م ـ وإن تعجب فعجب قول الجصاص في أحكام القرآن 1 : 505 : وأما ما روي عن عمر إنه جعل المهر في بيت المال فإنه ذهب إلى إنه مهر حصل لها من وجه محظور فسبيله أن يتصدق به فلذلك جعله في بيت المال ثم رجع فيه إلى قول علي رضي الله عنه ، ومذهب عمر في جعل مهرها لبيت المال إذ قد حصل لها ذلك من وجه محظور يشبه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشاة المأخوذة بغير إذن مالكها قدمت إليه مشوية فلم يكد يسيغها حين أراد الأكل منها فقال : إن هذه الشاة تخبرني إنها أخذت بغير حق فأخبروه بذلك فقال : أطعموها الأسارى. ووجه ذلك عندنا إنما صارت لهم بضمان القيمة فأمرهم بالصدقة بها لأنها حصلت لهم من وجه محظور ولم يكونوا قد أدوا القيمة إلى أصحابها. ا ه‍.
    أعمى الجصاص حب الخليفة فرام أن يدافع عنه ولو بما يسمه بسمة الجهل ، ألا مسائل هذا المدافع الوحيد عن المال المحصل من وجوه الحظر متى كان سبيله
1 ـ السنن الكبرى للبيهقي 7 ص 441 ، 442 ، الموافقات لابن السمان ، كتاب العلم لأبي عمر 2 ص 187 ، الرياض النضرة 2 ص 196 ، ذخاير العقبى ص 81 ، مناقب الخوارزمي ص 57 ، تذكرة السبط ص 87.

(115)
أن يتصدق به حتى يتخذه الخليفة مذهبا وإن لم يكن الموضوع من مصاديقه ؟ ولماذا لا يرد إلى صاحبه ولا يحل مال امرء إلا بطيب نفسه ؟ ثم ما وجه الشبه بين مال استحقت به المرأة بما استحل من فرجها ، وبين شاة حللته اليد لرسول الله ، وسوغت له التصرف فيها ؟ غيران حسن الوقوف عند الشبهات وإن علمت من غير طريق عادي دعاه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكف عنها ، من دون ترتب أحكام الغصب عليها من ردها إلى صاحبها عرف أو لم يعرف ، فلا صلة بين الموضوعين ، على أن جهل الخليفة في المسألة ليس من ناحية جعل الصداق في بيت المال فحسب حتى يرقع ، وإنما خالف السنة من شتى النواحي كما عرفت ).
20
إجتهاد الخليفة في الجد
    أخرج الدارمي في سننه 2 ص 354 عن الشعبي أنه قال : أول جد ورث في الاسلام عمر فأخذ ماله ، فأتاه علي وزيد فقالا : ليس لك ذلك إنما كنت كأحد الأخوين.
    وفي لفظ البيهقي.
    إن أول جد ورث في الاسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، مات ابن فلان بن عمر فأراد عمر أن يأخذ المال دون إخوته ، فقال له علي وزيد رضي الله عنهما : ليس لك ذلك. فقال عمر : لولا أن رأيكما اجتمع لم أر أن يكون ابني ولا أكون أباه.
    السنن الكبرى 6 ص 247.
    وأخرج الدارمي أيضا عن مروان بن الحكم : أن عمر بن الخطاب لما طعن استشارهم في الجد فقال : إني كنت رأيت في الجد رأيا فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه. فقال له عثمان : إن نتبع رأيك فإنه رشد وإن نتبع رأي الشيخ فلنعم ذو الرأي كان. [ مستدرك الحاكم 4 ص 340 ].
    قال الشعبي : كان من رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنها أن يجعلا الجد أولى من الأخ ، وكان عمر يكره الكلام فيه ، فلما صار عمر جدا قال : هذا أمر قد وقع لا بد للناس من معرفته فأرسل إلى زيد بن ثابت فسأله فقال : كان من رأي أبي بكر رضي الله عنه أن نجعل الجد أولى من الأخ. فقال : يا أمير المؤمنين ! لا تجعل شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب في الغصن غصن فما يجعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد


(116)
خرج الغصن من الغصن ؟ قال : فأرسل إلى علي رضي الله عنه فسأله فقال له كما قال زيد إلا أنه جعل سيلا سال فانشعب منه شعبة ثم انشعبت منه شعبتان فقال : أرأيت لو أن هذه الشعبة الوسطى رجع أليس إلى الشعبتين جميعا !. الحديث. [ السنن الكبرى 6 ص 247 ].
    وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم كيف قسم الجد ؟ قال : ما سؤالك عن ذلك يا عمر ؟ إني أظنك تموت قبل أن تعلم ذلك. قال سعيد بن المسيب فمات عمر قبل أن يعلم ذلك.
    أخرجه الطبراني في الأوسط ، والهيثمي في مجمع الزوائد 4 ص 227 وقال : رجاله رجال الصحيح. وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 ص 15 نقلا عن عبد الرزاق والبيهقي وأبي الشيخ في الفرائض.
    وأخرج البيهقي في سننه 6 : 247 عن زيد بن ثابت : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استأذن عليه يوما فأذن له فقالت : يا أمير المؤمنين ! لو أرسلت إلي جئتك. فقال عمر رضي الله عنه : إنما الحاجة لي إني جئتك لتنظر في أمر الجد فقال زيد : لا والله ما نقول فيه. فقال عمر رضي الله عنه : ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص منه إنما هو شئ نراه ، فإن رأيته ووافقني تبعته وإلا لم يكن عليك فيه شئ. فأبى زيد فخرج مغضبا قال : قد جئتك وأنا أظنك ستفرغ من حاجتي ، ثم أتاه مرة أخرى في الساعة التي أتاه المرة الأولى فلم يزل به حتى قال : فسأكتب لك فيه فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلا إنما مثله مثل شجرة نبتت على ساق واحد فخرج فيها غصن ثم خرج في الغصن غصن آخر ، فالساق يسقي الغصن فإن قطع الغصن الأول رجع الماء إلى الغصن يعني الثاني وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول فأتي به. فخطب الناس عمر ثم قرأ قطعة القتب عليهم ثم قال : إن زيد بن ثابت قد قال في الجد قولا وقد أمضيته قال : وكان أول جد كان فأراد أن يأخذ المال كله مال ابن ابنه دون إخوته فقسمه بعد ذلك عمر بن الخطاب.
    وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 6 ص 245 عن عبيدة قال : إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا.


(117)
    وعن عبيدة قال : حفظت عن عمر مائة قضية في الجد قال وقال : إني قد قضيت في الجد قضايا مختلفة كلها لا آلو فيه عن الحق ، ولئن عشت إن شاء الله إلى الصيف لأقضين فيها بقضية تقضي به المرأة وهي على ذيلها.
    وأخرج البيهقي في السنن عن طارق بن شهاب قال : أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتفا وجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ليكتب في الجد وهم يرون أنه يجعله أبا فخرجت عليه حية فتفرقوا ، فقال : لو أن الله أراد أن يمضيه لأمضاه.
    وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1 ص 61 : كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه ويفتي بضده وخلافه ، قضى في الجد مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة ، ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال : من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه.
    قال الأميني : أنا لا أدري أن هذه القضايا المتناقضة البالغ عددها إلى المائة في موضوع واحد هل كلها موافقة للواقع ؟ وليس من المعقول ذلك. أو أن بعضها موافق ؟ فلم لم يرجع إليه في جميع الموارد. وهل هي كلها عن اجتهاد الخليفة ؟ أو أنها متخذة من الصحابة ؟ وهل الصحابة كانوا يفتون بذلك عن آرائهم ؟ أو اتخذوها عن النبي الأمين ؟ فإن كان سماعا ؟ فلا تختلف الفتيا فيه ولا سيما مع قرب العهد به صلى الله عليه وسلم. وإن كان اجتهادا منهم ؟ فمن ذا الذي يعترف لهم يعترف لجميعهم بالتأهل للاجتهاد ؟ على أن لنا بعد التنازل لهم بالأهلية حق النظر فيما اجتهدوا وفيما استندوا إليه ، ومثل هذا الاجتهاد الفارغ لا حجة فيه حتى من نفس الخليفة.
    ثم إن خليفة المسلمين كيف يسوغ له الجهل بما شرعه نبي الاسلام حتى يربكه ذلك في التناقض ؟ فيأخذ الحق في بعض الموارد من أفواه الرجال ، ويمضي على ضلته حيث لم يصادف أحدا منهم.
    وما أعضلت هذه المسألة على الخليفة ؟ ولم يمكن من تعلمها طيلة حياته ، وما شأنه وقد ظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يموت قبل أن يعلمها ومات ولم يعلم ؟ وما سوغ له القضاء في تلكم القضايا الجمة وهو لا يعلم حكمها وقد أخبره النبي الأعظم بذلك ؟ ولست أدري كيف حفظتها الأمة وتلقتها في قرونها الخالية من دون أن تصعب على أي فقيه أو متفقه وقد أشكلت على الخليفة وهو مع ذلك أعلم الصحابة في زمانه


(118)
على الإطلاق عند صاحب الوشيعة ؟.
21
رأي الخليفة في امرأة تسررت غلامها
    عن قتادة : إن امرأة اتخذت مملوكها وقالت : تأولت آية من كتاب الله ـ أو ما ملكت أيمانهم ـ (1) فأتي بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها ، قال : فضرب العبد وجز رأسه ، وقال : أنت بعده حرام على كل مسلم.
صورة أخرى للقرطبي
    تسررت امرأة غلامها فذكر ذلك لعمر فسألها : ما حملك على ذلك ؟ قالت : كنت أراه يحل لي بملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين. فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله لا رجم عليها. فقال عمر : لا جرم ! والله لا أحلك لحر بعده أبدا. عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها ، وأمر العبد ألا يقربها (2).
    قال الأميني : ليتني أدري وقومي ما هذه العقوبات الفادحة بعد سقوط الحد عن المرأة ومملوكها بالجهل والتأويل ؟ وما معنى عذابهما بعد عفو المولى سبحانه عنهما ؟ و بأي كتاب أم بأية سنة ضرب العبد ، وجز رأسه ، وحرم المرأة على كل مسلم ، ونهى العبد عن قربها ؟ فهل دين الله مفوض إلى الخليفة ؟ أم أن الاسلام ليس إلا الرأي المجرد ؟ فإن كان هذا أو ذاك ؟ فعلى الاسلام السلام ، وإن لم يكن لا هذا ولا ذاك ؟ فمرحبا بالخلافة الراشدة ، وزه بتلك الآراء الحرة.
    ثم أنى هذه العقوبات من صحيحة عمر نفسه وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن وجدتم لمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ بالعقوبة (3).
1 ـ سورة المؤمنون آية 8.
2 ـ تفسير ابن جرير الطبري 6 ص 68 ، سنن البيهقي 7 ص 127 ، تفسير ابن كثير 3 : 239 ، تفسير القرطبي 12 ص 107 ، الدر المنثور.
3 ـ كتاب الإمام للشافعي 7 ص 214 ، مستدرك الحاكم 4 ص 384 ، صحيح الترمذي 1 ص 267 ، تاريخ الخطيب البغدادي 5 ص 331 ، سنن البيهقي 2 ص 238 ، مشكاة المصابيح ص 303 ، تيسير الوصول 2 ص 20. جامع مسانيد أبي حنيفة 2 ص 214.


(119)
22
الخليفة وامرأة مغنية
    عن الحسن قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأة مغنية كان يدخل عليها فأنكر ذلك فأرسل إليها فقيل لها : أجيبي عمر. فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر ؟ فبينما هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت دارا فألقت ولدها فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم : أن ليس عليك شئ إنما أنت دال ومؤدب. وصمت علي فأقبل على علي فقال : ما تقول ؟ قال : إن كانوا قالوا برأيهم ؟ فقد أخطأ رأيهم ، وإن كانوا قالوا في هواك ؟ فلم ينصحوا لك ، أرى أن ديته عليك فإنك أنت أفزعتها وألقت ولدها في سبيلك ، فأمر عليا أن يقسم عقله على قريش يعني يأخذ عقله من قريش لأنه أخطأ.
    صورة أخرى :
    إستدعى عمر إمرأة ليسألها عن أمر وكانت حاملا فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنينا ميتا فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك فقالوا : لا شيئ عليك إنما أنت مؤدب. فقال له علي عليه السلام : إن كانوا راقبوك ؟ فقد غشوك ، وإن كان هذا جهد رأيهم ؟ فقد أخطأوا ، عليك غرة يعني عتق رقبة فرجع عمر والصحابة إلى قوله.
    أخرجه ابن الجوزي في سيرة عمر ص 117 ، وأبو عمر في العلم ص 146 ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 7 ص 300 نقلا عن عبد الرزاق ، والبيهقي ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج 1 ص 58.
    م ـ قال الأميني : ما شأن هذا الخليفة لا يحمل في دين الله علما ناجعا يقيه عن هوايا الهلكة ، ويحميه عن سقطات القضاء ؟ وما باله يعول في كل سهل ومشكل في طقوس الاسلام حتى في مهام الفروج والدماء على آراء أناس غشوه إن راقبوه ، وغاية جهد رأيهم الخطأ ؟ وما يسعنا أن نقول وبين يدي الباحث هذه الأقضية ؟ ].
23
حكم الخليفة برجم مضطرة
    عن عبد الرحمن السلمي قال : أتي عمر بامرأة أجهدها العطش فمرت على راع


(120)
فاستسقته فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت ، فشاور الناس في رجمها فقال علي : هذه مضطرة أرى أن يخلى سبيلها. ففعل.
    سنن البيهقي 8 ص 236 ، الرياض النضرة 2 ص 196 : ذخاير العقبى ص 81 ، الطرق الحكمية ص 53.
    صورة مفصلة
    إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بامرأة زنت فأقرت فأمر برجمها فقال علي رضي الله عنه : لعل بها عذرا ثم قال لها : ما حملك على الزنا ؟ قالت : كان لي خليط وفي إبله ماء ولبن ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي فأبيت عليه ثلاثا فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. فقال علي : الله أكبر ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم الطرق الحكمية لابن القيم الجوزية ص 53 ، كنز العمال 3 ص 96 نقلا عن البغوي.
    م ـ قال الأميني : ليت الخليفة كان يحمل شيئا من علم الكتاب والسنة حتى يحكم بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وليتني أدري ما كان صيره وأي مبلغ كانت تبلغ بوائق أقضيته إن لم يكن في الأمة علي أمير المؤمنين ؟ أو لم يكن يقيم أوده ويزيل أمته ؟ نعم : حقا قال الرجل : لولا علي لهلك عمر].
24
الخليفة لا يدري ما يقول
    أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل أسود ومعه امرأة سوداء فقال : يا أمير المؤمنين ! إني أغرس غرسا أسود وهذه سوداء على ما ترى فقد أتتني بولد أحمر. فقالت المرأة : والله يا أمير المؤمنين ! ما خنته وإنه لولده. فبقي عمر لا يدري ما يقول ، فسئل عن ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال للأسود : إن سألتك عن شئ أتصدقني ؟ قال : أجل والله. قال : هل واقعت امرأتك وهي حائض ؟ قال : قد كان ذلك ، قال علي : الله أكبر إن النطفة إذا خلطت بالدم فخلق الله عز وجل منها خلقا كان أحمر فلا تنكر ولدك فأنت جنيت على نفسك.    الطرق الحكمية ص 47
الغدير ـ الجزء السادس ::: فهرس