الغدير ـ الجزء السادس ::: 131 ـ 140
(131)
    ثم قال : ولكثرة الاختلاف فيها صح عن عمر أنه قال : لم أقل في الكلالة شيئا (1) فكأنه يراها عذرا للخليفة في ربيكته بالكلالة ، وأين هو من آية الكلالة ؟ وكيف تخفى على أحد وهي بين يديه وفيها قوله تعالى ( يبين الله لكم أن تضلوا ) فيكف بينها الله ومثل الخليفة يقول : لم تبين لي ؟ ومن أين أتى الخلاف وكثر وهي مبينة ؟ وكيف يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية الصيف كافية في البيان لمن جهل الكلالة ؟.
    على أن الخليفة هو إمام الأمة ومرجعها الوحيد في خلافها ، وبه القدوة والأسوة في التخاصم والتنازع في الآراء والمعتقدات ، فلا عذر له في جهلة بشئ منها على كل حال خالفت الأمة أم لم تخالف.
30
رأي الخليفة في الأرنب
    عن موسى بن طلحة : إن رجلا سأل عمر عن الأرنب فقال عمر : لولا إني أزيد في الحديث أو أنقص منه ، وسأرسل لك إلى رجل. فأرسل إلى عمار فجاء فقال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا في موضع كذا وكذا فأهدى إليه رجل من الأعراب أرنبا فأكلناها فقال الأعرابي : يا رسول الله إني رأيتها تدمي أي تحيض فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا بأس بها.
    أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن جرير الطبري كما في كنز العمال 8 ص 50 ، و أخرجه أبو يعلى في مسنده ، والطبراني في الكبير من رواية ابن الحوتكية كما في عمدة القاري 6 ص 259 ، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 ص 195 نقلا عن أحمد من طريق ابن الحوتكية.
    أنا لا أقول : إن الذي أخاف الخليفة من الزيادة أو النقيصة في الحديث هو عدم معرفته بالحكم ، ولا أقول : إن عمارا كان أبصر منه في القضية وأوثق منه في الرواية والنقل. ولا أقول : أين كانت تلك الحيطة منه في غير الأرنب مما استبد بحكمه من دون أي اكتراث من مئات المسائل في الأموال والأنفس والعقود والايقاعات وهو يعلم أنه لم يحط بها علما. لكني أكل ذلك إلى وجدانك الحر.
    وفي النفس ما فيها في نفي البأس عن لحم الأرنب ، وهو قول الأئمة الأربعة وكافة
1 ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري 8 ص 215.

(132)
العلماء إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعكرمة مولى ابن عباس إنهم كرهوا أكلها ( عمدة القاري 6 ص 259 ).
31
رأي الخليفة في القود
    عن ابن أبي حسين : إن رجلا شج رجلا من أهل الذمة فهم عمر بن الخطاب أن يقيده منه فقال معاذ بن جبل : قد علمت أن ليس ذلك لك. وأثر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عمر بن الخطاب في شجته دينارا فرضي به.
    أخرجه الحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 7 ص 304.
32
لولا معاذ لهلك عمر
    عن أبي سفيان عن أشياخ لهم : إن امرأة غاب عنها زوجها سنتين ثم جاء وهي حامل فرفعها إلى عمر فأمر برجمها ، فقال له معاذ : إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها ، فقال عمر : احبسوها حتى تضع فوضعت غلاما له ثنيتان فلما رآه أبوه عرف الشبه فقال : ابني ابني ورب الكعبة ، فبلغ ذلك عمر فقال : عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ ، لولا معاذ لهلك عمر.
    لفظ البيهقي
    جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى فشاور عمر رضي الله عنه ناسا في رجمها فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيل فليس على ما في بطنها سبيل فاتركها حتى تضع. فتركها فولدت غلاما قد خرجت ثناياه فعرف الرجل الشبه فيه فقال : ابني ورب الكعبة فقال عمر رضي الله عنه : عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ ، لولا معاذ لهلك عمر.
    أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7 ص 443 ، وأبو عمر في العلم ص 150 ، و الباقلاني إيعازا إليه في التمهيد ص 199 ، وابن أبي شيبة كما في كنز العمال 7 ص 82 ، وفتح الباري لابن حجر 12 ص 120 وقال : أخرجه ابن أبي شيبة ورجاله ثقات ، والإصابة 3 ص 427 نقلا عن فوائد محمد بن مخلد العطار ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج 3 ص 150 متسالما عليه.


(133)
33
رأي الخليفة في القود
    عن مكحول إن عبادة بن الصامت دعا نبطيا يمسك له دابته عند بيت المقدس فأبى فضربه فشجه فاستدعى عليه عمر بن الخطاب فقال له : ما دعاك إلى ما صنعت بهذا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أمرته أن يمسك دابتي فأبى وأنا رجل في حدة فضربته ، فقال : اجلس للقصاص. فقال زيد بن ثابت : أتقيد عبدك من أخيك ؟ فترك عمر عنه القود وقضى عليه بالدية.
    أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8 ص 32 ، وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز 7 ص 303.
34
رأي الخليفة في ذمي مقتول
    عن مجاهد قال : قدم عمر بن الخطاب الشام فوجد رجلا من المسلمين قتل رجل من أهل الذمة فهم أن يقيده فقال له زيد بن ثابت : أتقيد عبدك من أخيك ؟ فجعله عمر دية. أخرجه عبد الرزاق ، وابن جرير الطبري كما في كنز العمال 7 ص 304.
35
قصة أخرى في ذمي مقتول
    عن عمر بن عبد العزيز إن رجلا من أهل الذمة قتل بالشام عمدا وعمر بن الخطاب إذ ذاك بالشام فلما بلغه ذلك قال عمر : قد ولعتم بأهل الذمة لأقتلنه به.
    قال أبو عبيدة ابن الجراح : ليس ذلك لك فصلى ثم دعا أبا عبيدة فقال : لم زعمت لا أقتله به ؟ فقال أبو عبيدة : أرأيت لو قتل عبدا له أكنت قاتله به ؟ فصمت عمر ثم قضي عليه بالدية بألف دينار تغليظا عليه.
    أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8 ص 32 ، وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 7 ص 303.
36
رأي الخليفة في قاتل معفو عنه
    عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا


(134)
فأمر بقتله فعفا بعض الأولياء فأمر بقتله فقال ابن مسعود : كانت النفس لهم جميعا فلما عفا هذا أحيا النفس فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره قال : فما ترى ؟ قال : أرى أن تجعل الدية عليه في ماله وترفع حصة الذي عفا فقال عمر رضي الله عنه : وأنا أرى ذلك (1).
    إن كان الحكم في هذه القضايا هو ما ارتآه الخليفة أولا فلماذا عدل عنه ؟ وإن كان ما لفتوا نظره إليه أخيرا فلماذا هم أن ينوء بالأول ؟ وهل من المستطاع أن نقول : إن الحكم كان عازبا عن فكرة خليفة المسلمين في كل هذه الموارد ؟ أو أن تلكم الأقضية كانت مجرد رأي وتحكم ؟ أو هذه هي سيرة أعلم الأمة ؟
37
رأي الخليفة في الأصابع
    عن سعيد بن المسيب : أن عمر رضي الله عنه قضى في الأصابع في الابهام بثلاثة عشر ، وفي التي تليها باثني عشر ، وفي الوسطى بعشرة ، وفي التي تليها بتسع ، وفي الخنصر بست.
    وفي لفظ آخر :
    إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الابهام بخمس عشرة ، وفي التي تليها بعشر ، وفي الوسطى بعشرة ، وفي التي تلي الخنصر بتسع ، وفي الخنصر بست.
    وعن أبي غطفان : إن ابن عباس كان يقول في الأصابع عشر عشر فأرسل مروان إليه فقال : أتفتي في الأصابع عشر عشر وقد بلغك عن عمر رضي الله عنه في الأصابع ؟ فقال ابن عباس : رحم الله عمر : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع من قول عمر رضي الله عنه (2)
    قال الأميني : ثبت في الصحاح والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الأصابع عشر عشر على ما أفتى به ابن عباس ، وهذه سنته صلى الله عليه وسلم المسلمة وهدية الثابت فيها ، وما قضى به عمر فمن آراء الخاصة به ، والأمر كما قال ابن عباس : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع من قول عمر. وأنا لا أدري أن الخليفة كان يعلم ذلك ويخالف ، أم لم
1 ـ كتاب الأم للشافعي 7 ص 295 ، سنن البيهقي 8 ص 60.
2 ـ كتاب الأم للشافعي 1 ص 58 ، 134 ، واختلاف الحديث للشافعي أيضا هامش كتاب الأم 7 ص 140 ، وكتاب الرسالة له ص 113 ، سنن البيهقي 8 ص 93.


(135)
يكن يعلم ؟.
فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم
38
رأي الخليفة في دية الجنين
    عن المسور بن مخرمة قال : إستشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة.
    فقال : ائتني بمن يشهد معك فشهد محمد بن مسلمة (1).
    وعن عروة : أن عمر رضي الله عنه سأل ـ نشد ـ الناس من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السقط ؟ فقال المغيرة بن شعبة : أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة فقال : ائت بمن يشهد معك على هذا.
    فقال محمد بن مسلمة : أنا أشهد على النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا (2).
    وفي لفظ أبي داود : فقال عمر : الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا (3) وفي حديث : نشد عمر الناس في دية الجنين فقال حمل بن النابغة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو وليدة فقضى به عمر (4) م ـ وزاد الشافعي : فقال عمر رضي الله عنه لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا.
    وفي لفظ : إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.
    قال ابن حجر في الإصابة 2 ص 259 : أخرجه أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح من طريق طاوس عن ابن عباس ) : قال الأميني : ما أحوج الخليفة إلى العقل المنفصل في كل قضية حتى أنه يركن إلى مثل المغيرة أزنى ثقيف وأكذبها في شريعة إلهية ؟ وهو لم يجز شهادة المغيرة للعباس
1 ـ صحيح البخاري كتاب الديات باب جنين المرأة ، صحيح مسلم 2 ص 41 ، سنن أبي داود 2 ص 255 ، مسند أحمد 4 ص 244 ، 253 ، سنن البيهقي 8 ص 114 ، تذكرة الحفاظ 1 ص 7.
2 ـ صحيح البخاري كتاب الديات باب جنين المرأة ، السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 114 ، 115.
3 ـ سنن أبي داود 2 ص 256.
4 ـ كتاب الرسالة للشافعي ص 113 ، اختلاف الحديث له في هامش كتاب الأم 7 ص 20 عمدة القاري 5 ص 410 ، تهذيب التهذيب 3 ص 36.


(136)
عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعواه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقطع له البحرين (1) أو يستند إلى مثل محمد بن مسلمة الذي ما جاء عنه غير ستة أحاديث (2) أو إلى مثل حمل بن النابغة الذي ليس له عندهم غير هذا الحديث (3)
    قال ابن دقيق العيد : إستشارة عمر في ذلك أصل في سؤال الإمام عن الحكم إذا كان لا يعلمه ، أو كان عنده شك ، أو أراد الاستثبات (4) لكنا لا نرى في مستوى الإمامة مقيلا لمن يجهل حكما من الأحكام ، أو يشك فيما علمه ، أو يحتاج إلى التثبت فيما اتصل به يقينه بقول هذا وذاك ، فإنه المقتدى في الأحكام كلها ، فلو جاز له الجهل في شئ منها أو الشك أو الحاجة إلى التثبت ؟ لجاز أن يقع ذلك حيث لا يجد من يسأله فيرتبك في الجواب ، أو يربك صاحبه في الضلال ، أو يتعطل الحكم الإلهي من جراء ذلك ألا تسمع قول عمر : الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا. أو : إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.
39
رأي الخليفة في سارق
    عن عبد الرحمن بن عائذ قال : أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فأمر به عمر رضي الله عنه أن يقطع رجله فقال علي رضي الله عنه : إنما قال الله عز وجل : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، الآية (5) فقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها ، إما أن تعزره وإما أن تستودعه السجن. قال : فاستودعه السجن. السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 274 ، كنز العمال 3 ص 118.
40
إجتهاد الخليفة في هدية ملكة الروم
    عن قتادة قال : بعث عمر رسولا إلى ملك الروم فاستقرضت أم كلثوم بنت علي
1 ـ تاريخ ابن خلكان 2 ص 456 في ترجمة يزيد من ربيعة.
2 ـ تهذيب التهذيب 9 ص 455.
3 ـ تهذيب التهذيب 3 ص 36.
4 ـ إرشاد الساري للقسطلاني 10 ص 67
5 ـ سورة المائدة آية 33.


(137)
ـ وكانت امرأة عمر ـ دينارا فاشترت به عطرا وجعلته في قارورة وبعثت به مع الرسول إلى امرأة ملك الروم فلما أتاها بعثت لها شيئا من الجواهر وقالت للرسول : إذهب به إلى امرأة عمر فلما أتاها أفرغته على البساط فدخل عمر فقال : ما هذا ؟ فأخبرته فأخذ الجواهر وخرج بها إلى المسجد ونادى الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس أخبرهم الخبر وأراهم الجواهر وقال : ما ترون في ذلك ؟ فقالوا : إنا نراها تستحق ذلك لأنه هدية جاءتها من امرأة لا جزية ولا خراج عليها ولا يتعلق بها حكم من أحكام الرجال. فقال : لكن الزوجة زوجة أمير المؤمنين ، والرسول رسول أمير المؤمنين ، والراحلة التي ركبها للمؤمنين ، وما جاء ذلك كله لولا المؤمنون ، فأرى أن ذلك لبيت مال المسلمين ، ونعطيها رأس مالها. فباع الجواهر ودفع لزوجته دينارا وجعل ما بقي في بيت مال المسلمين (1).
    2 ـ يروى أن امرأة أبي عبيدة أرسلت إلى امرأة ملك الروم هدية فكافأتها بجوهر فبلغ ذلك عمر فأخذه فباعه وأعطاها ثمن هديتها ورد باقيه إلى بيت مال المسلمين (2)
    قال الأميني : كل ما ذكره الخليفة ليس من المملك ولا من المخرجات من الملك أما كونها زوجة الخليفة فمن الدواعي لإهداء زوجة ملك الروم ، وأما وجود المؤمنين فهو من بواعث شوكة الخليفة التي من جهتها تكون زوجته معتنى بها عند أزواج الملوك. وكون الرسول رسول الخليفة لا يبيح ما اؤتمن عليه الرسول في ايصاله إلى صاحبه. ودابة المؤمنين لا تستبيح ما حمله الراكب عليها. نعم من الممكن إن كان له ثقل يعتد به أن يأخذ المؤمنون الأجرة على حمله.
    ولا أدري كيف فعل الخليفة ما فعل ؟ وكيف استساغ المسلمون ذلك المال أخيرا بعد أن رأوا إنها تستحقه أو لا ؟ ثم ما وجه إعطاء ثمن الهدية في القضيتين ؟ فإن كان لحق لصاحبتيهما في الجواهر ؟ فهو لها في كله ، وإلا فقد أقدمتاهما إلى إتلاف مالهما فلا وجه لإعطاء بدله من مال المسلمين.
41
رأي الخليفة في جلد المغيرة
    عن عبد الرحمن بن أبي بكر : إن أبا بكر وزيادا ونافعا وشبل بن معبد كانوا
1 ـ الفتوحات الإسلامية 2 ص 413.
2 ـ الفتوحات الإسلامية 2 ص 413.


(138)
في غرفة والمغيرة في أسفل الدار فهبت ريح ففتحت الباب ورفعت الستر فإذا المغيرة بين رجليها فقال بعضهم لبعض : قد ابتلينا. قال فشهد أبو بكرة ونافع وشبل وقال زياد : لا أدري نكحها أم لا فجلدهم عمر رضي الله عنه إلا زيادا فقال أبو بكرة رضي الله عنه : أليس قد جلدتموني ؟ قال : بلى. قال : فأنا أشهد لقد فعل. فأراد عمر أن يجلده أيضا فقال علي : إن كانت شهادة أبي بكرة شهادة رجلين فارجم صاحبك وإلا فقد جلدتموه ، يعني لا يجلد ثانيا بإعادة القذف.
    وفي لفظ آخر : فهم عمر أن يعيد عليه الحد فنهاه علي رضي الله عنه وقال : إن جلدته فارجم صاحبك ، فتركه ولم يجلده.
    وفي لفظ ثالث : فهم عمر بضربه فقال علي : لئن ضربت هذا فارجم ذاك (1).
    صورة مفصلة :
    عن أنس بن مالك : إن المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الأمارة وسط النهار ، وكان أبو بكرة ـ نفيع الثقفي ـ يلقاه فيقول له : أين يذهب الأمير ؟ فيقول. إلى حاجة ، فيقول له : حاجة ما ؟ إن الأمير يزار ولا يزور ، قال : وكانت المرأة ـ أم جميل بنت الأفقم ـ التي يأتيها جارة لأبي بكرة ، قال : فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أصحابه وأخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له : شبل بن معبد ، وكانت غرفة تلك المرأة بحذاء غرفة أبي بكرة فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها فقال أبو بكرة : هذه بلية ابتليتم بها فانظروا. فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له : إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا ، قال : وذهب ليصلي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة وقال له : والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس : دعوه فليصل فإنه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمر. فكتبوا إليه فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود.
    قال مصعب بن سعد : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلس ودعا بالمغيرة والشهود فتقدم أبو بكرة فقال له ، أرأيته بين فخذيها ؟ قال : نعم والله لكأني أنظر تشريم جدري بفخذيها ، فقال له المغيرة : لقد ألطفت النظر ، فقال له : ألم أك قد أثبت ما يخزيك الله به ؟
1 ـ السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 235.

(139)
فقال له عمر : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج المرود في المكحلة. فقال : نعم أشهد على ذلك ، فقال له : اذهب مغيرة ذهب ربعك ، ثم دعا نافعا فقال له : علام تشهد ؟ قال : على مثل شهادة أبي بكرة. قال : لا حتى تشهد أنه يلج فيه ولوج المرود في المكحلة ، فقال : نعم حتى بلغ قذذه. فقال : إذهب مغيرة ذهب نصفك ، ثم دعا الثالث فقال : علام تشهد ؟ فقال : على مثل شهادة صاحبي. فقال له : اذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك ثم كتب ـ عمر ـ إلى زياد فقدم على عمر فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع له رؤس المهاجرين والأنصار فقال المغيرة : ومعي كلمة قد رفعتها لأحلم القوم قال : فلما رآه عمر مقبلا قال : إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين. فقال : يا أمير المؤمنين أما إن الحق ما حق القوم فليس ذلك عندي ولكني رأيت مجلسا قبيحا ، وسمعت أمرا حثيثا وانبهارا ، ورأيته متبطنها ، فقال له : أرأيته يدخله كالميل في المكحلة ؟ فقال : لا.
    وفي لفظ قال : رأيته رافعا برجليها ، ورأيت خصيتيه تترددان بين فخذيها ، و رأيت خفزا شديدا ، وسمعت نفسا عاليا.
    وفي لفظ الطبري قال : رأيته جالسا بين رجلي امرأة ، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان ، وإستين مكشوفتين ، وسمعت خفزانا شديدا.
    فقال له : أرأيته يدخله كالميل في المكحلة ؟ فقال : لا ، فقال عمر : الله أكبر قم إليهم فاضربهم ، فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين وأعجبه قول زياد ودرأ عن المغيرة الرجم فقال أبو بكرة بعد أن ضرب : فإني أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا. فهم عمر بضربه فقال له علي عليه السلام : إن ضربته رجمت صاحبك ونهاه عن ذلك (1).
    قال الأميني : لو كان للخليفة قسط من حكم هذه القضية لما هم بجلد أبي بكرة ثانيا ، ولا عزب عنه حكم رجم المغيرة إن جلد.
    وإن تعجب فعجب إيعاز الخليفة إلى زياد لما جاء يشهد بكتمان الشهادة بقوله : إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين (2) أو بقوله : أما إني أرى وجه
1 ـ الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني 14 ص 146 ، تاريخ الطبري 4 ص 207 ، فتوح البلدان للبلاذري ص 352 ، تاريخ الكامل لابن الأثير 2 ص 228 ، تاريخ ابن خلكان 2 ص 455 ، تاريخ ابن كثير 7 ص 81 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 ص 161 ، عمدة القاري 6 ص 340.
2 ـ الأغاني كما مر.


(140)
رجل أرجو أن لا يرجم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على يده ولا يخزى بشهادته (1) أو بقوله : إني لأرى غلاما كيسا لا يقول إلا حقا ولم يكن ليكتمني شيئا (2) أو بقوله : إني أرى غلاما كيسا لن يشهد إن شاء الله إلا بحق (3) وهو يوعز إلى أن الذين تقدموه أغرار شهدوا بالباطل ، وعلى أي فقد استشعر زياد ميل الخليفة إلى درأ الحد عن المغيرة فأتى بجمل لا تقصر عن الشهادة ، ولكنه تلجلج عن صراح الحقيقة لما انتهى إليه ، و كيف يصدق في ذلك ؟ وقد رئا إستاها مكشوفة ، وخصيتين مترددتين بين فخذي أم جميل ، وقدمين مخضوبتين مرفوعتين ، وسمع خفزانا شديدا ونفسا عاليا ، ورئاه متبطنا لها ، وهل تجد في هذا الحد مساغا لأن يكون الميل في خارج المكحلة ؟ أو أن يكون قضيب المغيرة جامحا عن فرج أم جميل ؟.
    نعم كان في القضية تأول واجتهاد أدى إلى أهمية درأ الحد في المورد خاصة ، وإن كان الخليفة نفسه جازما بصدق الخزاية كما يعرب عنه قوله للمغيرة : والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك ، وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بالحجارة من السماء. قاله لما وافقت أم جميل عمر بالموسم والمغيرة هناك فسأله عنها فقال : هذه أم كلثوم بنت علي فقال عمر : أتتجاهل علي ؟ والله ما أظن ... إلخ (4).
    وليت شعري لماذا كان عمر يخاف أن يرمى بالحجارة من السماء ؟ ألرده الحد حقا ؟ وحاشا الله أن يرمي مقيم الحق ، أو لتعطيله الحكم ؟ أو لجلده مثل أبي بكرة الذي عدوه من خيار الصحابة وكان من العبادة كالنصل ؟ أنا لا أدري.
    وكان علي أمير المؤمنين عليه السلام يصافق عمر على ما ظن أو جزم به فخاف أن يرمى بالحجارة ، وينم عن ذلك قوله عليه السلام : لئن لم ينته المغيرة لأتبعنه أحجاره. أو قوله : لئن أخذت المغيرة لأتبعنه أحجاره (5).
    وقد هجاه حسان بن ثابت في هذه القصة بقوله :
1 ـ فتوح البلدان للبلاذري ص 353.
2 ـ سنن البيهقي 8 ص 235
3 ـ كنز العمال.
4 ـ الأغاني 14 ص 147. شرح النهج 3 ص 162.
5 ـ الأغاني 14 ص 147.
الغدير ـ الجزء السادس ::: فهرس