الغدير ـ الجزء السادس ::: 151 ـ 160
(151)
به الثالث فيطير فيقع على تاج الملك فينفض ريشه وجناحيه على رأس الملك بما فيه من المسك وماء الورد ، فمكث الملك في ملكه ثلاثين سنة من غير أن يصيبه صداع ولا وجع ولا حمى ولا لعاب ولا بصاق ولا مخاط ، فلما رأى ذلك من نفسه عتا وطغى وتجبر واستعصى وادعى الربوبية من دون الله تعالى ودعا إليه وجوه قومه فكل من أجابه أعطاه وحباه وكساه وخلع عليه ، ومن لم يجبه ويتابعه قتله ، فأجابوه بأجمعهم فأقاموا في ملكه زمانا يعبدونه من دون الله تعالى ، فبينما هو ذات يوم جالس في عيد له على سريره والتاج على رأسه إذ أتى بعض بطارقته فأخبره أن عساكر الفرس قد غشيته يريدون قتله فاغتم لذلك غما شديدا حتى سقط التاج عن رأسه وسقط هو عن سريره ، فنظر أحد فتيته الثلاثة الذين كانوا عن يمينه إلى ذلك وكان عاقلا يقال له : تمليخا.
    فتفكر وتذكر في نفسه وقال : لو كان دقيانوس هذا إلها كما يزعم لما حزن ولما كان ينام ولما كان يبول و يتغوط ، وليس هذه الأفعال من صفات الإله ، وكانت الفتية الستة يكونون كل يوم عند واحد منهم وكان ذلك اليوم نوبة ( تمليخا ) فاجتمعوا عنده فأكلوا وشربوا ولم يأكل تمليخا ولم يشرب فقالوا : يا تمليخا ! مالك لا تأكل ولا تشرب ؟ فقال : يا إخواني قد وقع في قلبي شئ منعني عن الطعام والشراب والمنام.
    فقالوا : وما هو يا تمليخا ؟ فقال : أطلت فكري في هذه السماء فقلت : من رفعها سقفا محفوظا بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها ؟ وما أجرى فيها شمسها وقمرها ؟ ومن زينها بالنجوم ؟ ثم أطلت فكري في هذه الأرض من سطحها على ظهر اليم الزاخر ومن حبسها وربطها بالجبال الرواسي لئلا تميد ، ثم أطلت فكري في نفسي فقلت : من أخرجني جنينا من بطن أمي ؟ ومن غذاني ورباني ؟ إن لهذا صانعا ومدبرا سوى دقيانوس الملك ، فانكبت الفتية على رجليه يقبلونهما وقالوا : يا تمليخا لقد وقع في قلوبنا ما وقع في قلبك ، فأشر علينا.
    فقال : يا إخواني ما أجد لي ولكم حيلة إلا الهرب من هذا الجبار إلى ملك السماوات والأرض.
    فقال : الرأي ما رأيت فوثب تمليخا فابتاع تمرا بثلاثة دراهم وسرها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا فلما ساروا قدر ثلاثة أميال من المدينة قال لهم تمليخا : يا إخوتاه قد ذهب عنا ملك الدنيا وزال عنا أمره ، فانزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعل الله يجعل من أمركم فرجا ومخرجا.
    فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبع فراسخ حتى


(152)
صارت أرجلهم تقطر دما لأنهم لم يعتادوا المشي على أقدامهم فاستقبلهم رجل راع فقالوا : أيها الراعي أعندك شربة ماء أو لبن ؟ فقال : عندي ما تحبون ولكني أرى وجوهكم وجوه الملوك وما أظنكم إلا هرابا فأخبروني بقصتكم.
    فقالوا : يا هذا إنا دخلنا في دين لا يحل لنا الكذب أفينجينا الصدق ؟ قال : نعم.
    فأخبروه بقصتهم فانكب الراعي على أرجلهم يقبلهما ويقول : قد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم فقفوا إلي ههنا حتى أرد الأغنام إلى أربابها وأعود إليكم.
    فوقفوا له حتى ردها وأقبل يسعى فتبعه كلب له.
    فوثب اليهودي قائما وقال : يا علي إن كنت.
    عالما فأخبرني ما كان لون الكلب واسمه ؟ فقال : يا أخا اليهود حدثني حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم إن الكلب كان أبلق بسواد وكان اسمه ( قطمير ) قال : فلما نظر الفتية إلى الكلب قال بعضهم لبعض : إنا نخاف أن يفضحنا هذا الكلب بنبيحه فألحوا عليه طردا بالحجارة فلما نظر إليهم الكلب وقد ألحوا عليه بالحجارة والطرد أقعى على رجليه وتمطى وقال بلسان طلق ذلق : يا قوم لم تطردونني وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، دعوني أحرسكم من عدوكم وأتقرب بذلك إلى الله سبحانه وتعالى.
    فتركوه ومضوا فصعد بهم الراعي جبلا وانحط بهم أعلى كهف.
    فوثب اليهودي وقال : يا علي ما إسم ذلك الجبل ؟ وما إسم الكهف ؟ قال أمير المؤمنين : يا أخا اليهود إسم الجبل ( نا جلوس ) وإسم الكهف ( الوصيد ) وقيل : خيرم قال : وإذا بفناء الكهف أشجار مثمرة وعين غزيرة ، فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء وجنهم الليل فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومد يديه عليه ، وأمر الله ملك الموت بقبض أرواحهم ، ووكل الله تعالى بكل رجل منهم ملكين يقلبانه من ذات اليمين إلى ذات الشمال ، ومن ذات الشمال إلى ذات اليمين ، قال : وأوحى الله تعالى إلى الشمس فكانت تزاور عن كهفهم ذات اليمين إذا طلعت ، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ، فلما رجع الملك ( دقيانوس ) من عيده سأل عن الفتية فقيل له : إنهم اتخذوا إلها غيرك وخرجوا هاربين منك فركب في ثمانين ألف فارس وجعلوا يقفوا آثارهم حتى صعد الجبل وشارف الكهف فنظر إليهم مضطجعين فظن أنهم نيام ، فقال لأصحابه : لو أردت أن أعاقبهم بشئ ما عاقبتهم بأكثر مما عاقبوا به أنفسهم فأتوني بالبنائين فأتي


(153)
بهم فردموا عليهم باب الكهف بالجبس والحجارة ثم قال لأصحابه : قولوا لهم يقولوا لإلهم الذي في السماء إن كانوا صادقين يخرجهم من هذا الموضع.
    فمكثوا ثلثمائة و تسع سنين ، فنفخ الله فيهم الروح وهموا من رقدتهم لما بزغت الشمس ، فقال بعضهم لبعض : لقد غفلنا هذه الليلة عن عبادة الله تعالى قوموا بنا إلى العين ، فإذا بالعين قد غارت والأشجار قد جفت فقال بعضهم لبعض : أنا من أمرنا هذا لفي عجب مثل هذه العين قد غارت في ليلة واحدة ، ومثل هذه الأشجار قد جفت في ليلة واحدة ، فألقى الله عليهم الجوع فقالوا : أيكم يذهب بورقكم هذه إلى المدينة فليأتنا بطعام منها ولينظر أن لا يكون من الطعام الذي يعجن بشحم الخنازير وذلك قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما.
    أي أحل وأجود وأطيب فقال لهم تمليخا : يا إخوتي لا يأتيكم أحد بالطعام غيري ولكن أيها الراعي ادفع لي ثيابك وخذ ثيابي.
    فلبس ثياب الراعي ومر وكان يمر بمواضع لا يعرفها وطريق ينكرها حتى أتى باب المدينة ، فإذا عليه علم أخضر مكتوب عليه : لا إله إلا الله عيسى روح الله صلى الله على نبينا وعليه وسلم فطفق الفتى ينظر إليه ويمسح عينيه ويقول : أراني نائما فلما طال عليه ذلك دخل المدينة فمر بأقوام يقرؤن الانجيل واستقبله أقوام لا يعرفهم حتى انتهى إلى السوق فإذا هو بخباز فقال له : يا خباز ما أسم مدينتكم هذه ؟ قال : أفسوس.
    قال وما اسم ملككم ؟ قال : عبد الرحمن.
    قال تمليخا : إن كنت صادقا فإن أمري عجيب إدفع إلي بهذه الدراهم طعاما وكانت دراهم ذلك الزمان الأول ثقالا كبارا فعجب الخباز من تلك الدراهم.
    فوثب اليهودي وقال : يا علي إن كنت عالما فأخبرني كم كان وزن الدرهم منها ؟ فقال : يا أخا اليهود : أخبرني حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم وزن كل درهم عشرة دراهم وثلثا درهم فقال له الخباز : يا هذا إنك قد أصبت كنزا فاعطني بعضه وإلا ذهبت بك إلى الملك.
    فقال تمليخا ما أصبت كنزا وإنما هذا من ثمن ثمر بعته بثلاثة دراهم منذ ثلاثة أيام وقد خرجت من هذه المدينة وهم يعبدون دقيانوس الملك.
    فغضب الخباز وقال : ألا ترضى أن أصبت كنزا أن تعطيني بعضه ؟ حتى تذكر رجلا جبارا كان يدعي الربوبية قد مات منذ ثلثمائة سنة وتسخر بي ثم أمسكه واجتمع الناس ثم إنهم أتوا به إلى الملك وكان عاقلا عادلا فقال لهم : ما قصة هذا الفتى ؟ قالوا : أصاب كنزا. فقال له الملك : لا


(154)
تخف فإن نبينا عيسى عليه السلام أمرنا أن لا نأخذ من الكنوز إلا خمسها فادفع إلي خمس هذا الكنز وامضي سالما.
    فقال : أيها الملك تثبت في أمري ما أصبت كنزا وإنما أنا من أهل هذه المدينة فقال له : أنت من أهلها ؟ قال : نعم.
    قال أفتعرف فيها أحدا ؟ قال : نعم.
    قال : فسم لنا فسمى له نحوا من ألف رجل فلم يعرفوا منهم رجلا واحدا قالوا : يا هذا ما نعرف هذه الأسماء ، وليست هي من أهل زماننا ، ولكن هل لك في هذه المدينة دارا ؟ فقال : نعم أيها الملك ، فابعث معي أحدا ، فبعث معه الملك جماعة حتى أتى بهم دارا أرفع في المدينة وقال : هذه داري ثم قرع الباب فخرج لهم شيخ كبير قد استرخا حاجباه من الكبر على عينيه وهو فزع مرعوب مزعور فقال : أيها الناس ما بالكم ؟ فقال له رسول الملك : إن هذا الغلام يزعم أن هذه الدار داره فغضب الشيخ والتفت إلى تمليخا وتبينه وقال له : ما أسمك ؟ قال : تمليخا بن فلسين.
    فقال له الشيخ : أعد علي.
    فأعاد عليه فانكب الشيخ على يديه ورجليه يقبلهما وقال : هذا جدي ورب الكعبة وهو أحد الفتية الذين هربوا من ( دقيانوس ) الملك الجبار إلى جبار السموات والأرض ولقد كان عيسى عليه السلام أخبرنا بقصتهم وإنهم سيحيون.
    فأنهى ذلك إلى الملك وأتى إليهم وحضرهم فلما رأى الملك تمليخا نزل عن فرسه وحمل تمليخا على عاتقه فجعل الناس يقبلون يديه ورجليه ويقولون له : يا تمليخا ما فعل بأصحابك ؟ فأخبرهم إنهم في الكهف.
    وكانت المدينة قد وليها رجلان ملك مسلم وملك نصراني فركبا في أصحابهما وأخذا تمليخا فلما صاروا قريبا من الكهف قال لهم تمليخا : يا قوم إنى أخاف أن إخوتي يحسون بوقع حوافر الخيل والدواب وصلصلة اللجم والسلاح فيظنون أن ( دقيانوس ) قد غشهم فيموتون جمعيا فقفوا قليلا حتى أدخل إليهم فأخبرهم.
    فوقف الناس ودخل عليهم تمليخا فوثب إليه الفتية واعتنقوه وقالوا : الحمد لله الذي نجاك من ( دقيانوس ).
    فقال : دعوني منكم ومن ( دقيانوس ) كم لبثتم ؟ قالوا : لبثنا يوما ، أو بعض يوم.
    قال : بل لبثتم ثلثمائة وتسع سنين.
    وقد مات ( دقيانوس ) وانقرض قرن بعد قرن وآمن أهل المدينة بالله العظيم وقد جاءكم.
    فقالوا له : يا تمليخا ! تريد أن تصيرنا فتنة للعالمين ؟ قال : فماذا تريدون ؟ قالوا : ارفع يدك ونرفع أيدينا فرفعوا أيديهم وقالوا : أللهم بحق ما أريتنا من العجائب في أنفسنا إلا قبضت أرواحنا ولم يطلع علينا أحد.
    فأمر الله ملك الموت فقبض أرواحهم وطمس الله باب الكهف


(155)
وأقبل الملكان يطوفان حول الكهف سبعة أيام فلا يجدان له بابا ولا منفذا ولا ملكا فأيقنا حينئذ بلطيف صنع الله الكريم وأن أحوالهم كانت عبرة أراهم الله إياها.
    فقال المسلم : على ديني ماتوا وأنا أبني على باب الكهف مسجدا.
    وقال النصراني : بل ماتوا على ديني فأنا أبني على باب الكهف ديرا.
    فاقتتل الملكان فغلب المسلم النصراني فبنى على باب الكهف مسجدا ، فذلك قوله تعالى : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا وذلك يا يهودي ! ما كان من قصتهم ، ثم قال علي كرم الله وجهه لليهودي : سألتك بالله يا يهودي أوافق هذا ما في توراتكم ؟ فقال اليهودي ما زدت حرفا ولا نقصت حرفا يا أبا الحسن ! لا تسمني يهوديا أشهد أن لا إله الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإنك أعلم هذه الأمة م ـ قال الأميني : هذه هي سيرة أعلم الأمة ، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان والقصة ذكرها أبو إسحاق الثعلبي المتوفى 427 / 37 في كتابه ( العرائس ) ص 232 ـ 239.
47
رأي الخليفة في الزكاة
    عن حارثة قال : جاء ناس من أهل الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا : إنا قد أصبنا أموالا وخيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور.
    قال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله.
    واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي : هو حسن إن لم يكن جزية راتبة دائبة يؤخذون بها من بعدك.
    وعن سليمان بن يسار : إن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة الجراح رضي الله عنه : خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة.
    فأبى ، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب : فأبى ، فكلموه أيضا فكتب إليه عمر بن الخطاب إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم.
    قال مالك : أي ارددها على فقرائهم (1).
    وقال العسكري في أولياته ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 93 : إن عمر أول
1 ـ موطأ مالك 1 ص 206 ، مسند أحمد 1 ص 14 ؟ سنن البيهقي 4 ص 118 ، مستدرك الحاكم 1 : 401 ذكر الحديث الأول وصححه هو والذهبي ، مجمع الزوائد 3 ص 69 ، ذكر الحديث الأول فقال : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

(156)
من أخذ زكاة الخيل.
    قال الأميني : ظاهر الرواية الأولى إن الخليفة لم يكن يعلم بعدم تعلق الزكاة بالخيل والرقيق ولذا أناط الحكم بما فعله صاحباه من قبله ، ولم يكن يعلم أيضا ما فعلاه إلى أن استشار الصحابة فأشار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام إلى عدم الزكاة ، واستحسن أن يؤخذ منهم برا مطلقا لولا أنه يكون بدعة متبعة من بعده يؤخذ كجزية ، لكن الخليفة لم يصخ إلى تلك الحكمة البالغة ، ولا اتبع من سبقه ، فأمر بأخذها وردها عليهم أو على فقرائهم.
    وما علم في الرواية الثانية أن حب صاحب المال لا يثبت حكما شرعيا ، وقد نبهه الإمام عليه السلام بأنها تكون جزية ، هكذا سبق الخليفة في عمله حتى جاء قوم من بعده وجعلوه أول من أخذ الزكاة على الخيل ، واعتمدوا على عمله فوقع الشجار بينهم وبين من اتبع السنة النبوية في عدم تعلق الزكاة بالخيل.
48
رأي الخليفة في ليلة القدر
    عن عكرمة قال : قال ابن عباس : دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر فقلت لعمر : إني لأعلم وإني لأظن أي ليلة هي ، قال : وأي ليلة هي ؟ قلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر قال : ومن أين تعلم ؟ قال : قلت : خلق الله سبع سموات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام ، وإن الدهر يدور في سبع ، وخلق الانسان فيأكل ويسجد على سبعة أعضاء ، والطواف سبع ، والجبال سبع ، فقال عمر رضي الله عنه لقد فطنت لأمر ما فطنا له.
    عن ابن عباس قال : كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال : أرأيتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر : التمسوها في العشر الأواخر وترا ، أي ليلة ترونها ؟ فقال بعضهم ليلة إحدى.
    وقال بعضهم : ليلة ثلاث.
    وقال بعضهم : ليلة خمس.
    وقال بعضهم : ليلة سبع ، فقالوا وأنا ساكت فقال : مالك لا تتكلم ؟ فقلت : إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا فقال : ما أرسلت إليك إلا لتتكلم فقلت : إني سمعت الله يذكر السبع فذكر سبع سموات ومن الأرض مثلهن ، وخلق الانسان من سبع ، ونبت الأرض سبع ،


(157)
فقال عمر رضي الله عنه : هذا أخبرتني ما أعلم أرأيت ما لم أعلم قولك ( نبت الأرض سبع ) قال : قال الله عز وجل : إنا شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا ، وعنبا ، وقضبا ، وزيتونا ، ونخلا ، وحدائق غلبا قال : فالحدائق الغلب الحيطان من النخل والشجر ، وفاكهة ، وأبا ـ قال : فالأب ما أنبت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام (1) ولا يأكله الناس قال : فقال عمر رضي الله عنه لأصحابه : أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه ؟ والله إني لأرى القول كما قلت (2).
    نعم : لقد عجز الخليفة أيضا عن عرفان ما قاله الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه ، والأب ذلك الذي أعيي الخليفة ورأى علمه تكلفا كما مر في الحديث السادس ص 99 ، وأنا لا أدري ماذا قال الغلام ؟ ولماذا راق الخليفة قوله ؟
49
ضرب الخليفة بالدرة لغير موجب
    أخرج ابن عساكر عن عكرمة بن خالد قال : دخل ابن لعمر بن الخطاب عليه و قد ترجل ولبس ثيابا حسانا فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه ، فقالت له حفصة : لم ضربته قال رأيته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغرها إليه (3).
    قال الأميني : أنا لا أناقش في عرفان الخليفة إعجاب نفس ابنه إياه وهو خلة قائمة بالنفس ، ولا أباحث في اجتهاده في تعزير الولد ، ولا أبحث عن إمكان ردع الولد عن عجبه ـ مهما سلم ـ بطرق معقولة غير التعزير والضرب بالدرة ، بل أسائل الحافظين كيف وسعهما عد مثل هذه القصة من مناقب الخليفة ومن شواهد سيرته الحسنة ؟.
    وألطف من هذه قصة الجارود سيد ربيعة وقد أخرجه ابن الجوزي قال : إن عمر كان قاعدا والدرة معه والناس حوله إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل : هذا سيد ربيعة.
    فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال : مالي و لك يا أمير المؤمنين ؟ ! قال : مالي ولك لقد سمعتها.
    قال : وسمعتها ، فمه ؟ قال : خشيت أن
1 ـ بينه المولى سبحانه في الكتاب العزيز بقوله في ذيل الآية : متاعا لكم ولأنعامكم
2 ـ مسند عمر ص 87 ، مستدرك الحاكم 1 ص 438 وصححه ، سنن البيهقي 4 ص 313 ، تفسير ابن كثير 4 ص 533 ، الدر المنثور 6 ص 374 ، فتح الباري 4 ص 211.
3 ـ تاريخ الخلفاء ص 96.


(158)
تخالط القوم ويقال ، هذا أمير ـ وفي لفظ : خشيت أن يخالط قلبك منها شئ ـ فأحببت أن أطأطئ منك (1).
    م وأخرج ابن سعد عن سعيد قال : دخل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حلة خضراء فنظر إليه الصحابة فلما رأى ذلك عمر قام ومعه الدرة فجعل ضربا بمعاوية ومعاوية يقول : الله الله يا أمير المؤمنين ! فيم فيم ؟ فلم يكلمه حتى رجع فجلس في مجلسه فقالوا له : لم ضربت الفتى ؟ وما في قومك مثله.
    فقال : ما رأيت إلا خيرا وما بلغني إلا خير ولكني رأيته وأشار بيده يعني إلى فوق فأردت أن أضع منه ما شمخ (2) ] ما عساني أن أقول ؟ ما عساني ما عساني ؟ ...
50
جهل الخليفة بالسنة المشهورة
    أخرج مسلم في صحيحه عن عبيد بن عمير : أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا فكأنه وجده مشغولا فرجع فقال عمر : ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ ائذنوا له.
    فدعي به فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : إنا كنا نؤمر بهذا.
    قال : لتقيمن على هذا بينة أو لأفعلن (3) فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا.
    فقام أبو سعيد فقال : كنا نؤمر بهذا.
    فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق بالاسواق (4).
    وأخرج في صحيح آخر : قال أبي بن كعب : يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت. وفي لفظ : قال أبو سعيد قلت : أنا أصغر القوم. قال النووي في شرحه : فمعناه
1 ـ سيرة عمر لابن الجوزي ص 178 ، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 112 ، كنز العمال 2 ص 167.
2 ـ تاريخ ابن كثير 8 ص 125 ، الإصابة 3 ص 434.
3 ـ وفي لفظ : فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك. وفي لفظ الطحاوي : والله لأضربن بطنك وظهرك أو ليأتيني بمن يشهد لك.
4 ـ صحيح مسلم 2 ص 234 في كتاب الآداب ، صحيح البخاري 3 ص 837 ط الهند ، مسند أحمد 3 ص 19 ، سنن الدارمي 2 ص 274 ، سنن أبي داود 2 ص 340 ، مشكل الآثار 1 ص 499.


(159)
أن هذا حديث مشهور بيننا ، معروف لكبارنا وصغارنا حتى يحفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال الأميني : من لي بمخبر عن أن الذي ألهاه الصفق بالاسواق حتى عن ناموس مشتهر هتف به صاحب الرسالة العظمى ، وعرفته الصحابة أجمع كبارا وصغارا ، وعضده الذكر الحكيم كيف يكون أعلم الصحابة في زمانه على الإطلاق كما زعمه صاحب الوشيعة ؟.
    ثم ما الموجب إلى ذلك الارهاب لمحض أن الرجل روى فيما ارتكبه سنة ؟ وهل التثبيت يستدعي ذلك الوعيد بالأيمان المغلظة ؟ أو يستحق به الراوي أن يزرى به في الملأ العام ؟ أو في مجرد التحري والطلب مقنع وكفاية ؟ وليس على الخليفة أن يكون عذابا على الأمة كما رآه أبي.
51
إجتهاد الخليفة في البكاء على الميت
    عن ابن عباس قال : لما ماتت زينب (1) بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألحقوها بسلفنا الخير عثمان بن مظعون فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال : مهلا يا عمر دعهن يبكين ، وإياكن ونعيق الشيطان. إلى أن قال : وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها.
    مسند أحمد 1 ص 237 ، 335 ، مستدرك الحاكم 3 ص 191 وصححه وقال الذهبي في تلخيص المستدرك : سنده صالح ، مسند أبي داود الطيالسي ص 351 ، الاستيعاب في ترجمة عثمان بن مظعون ج 2 ص 482 ، مجمع الزوائد 3 ص 17.
    وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 4 ص 70 عن ابن عباس قال : بكت النساء على رقية ( بنت رسول الله ) رضي الله عنها فجعل عمر رضي الله عنه ينهاهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه يا عمر. قال : ثم قال : إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الرحمة ، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان ـ قال : وجعلت فاطمة رضي الله عنها تبكى على شفير قبر رقية فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدموع على وجهها
1 ـ توفيت زينب سنة ثمان من الهجرة فحزن عليها رسول الله حزنا عظيما

(160)
باليد. أو : قال : بالثوب.
    وأخرج النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة أنه قال : مات ميت في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهن يا عمر فإن العين دامعة ، والقلب مصاب ، والعهد قريب (1) قال الأميني : لا أدري ما الذي حدا عمر إلى التسرع إلى ضرب تلكم النسوة الباكيات وصاحب الشريعة ينظر إليهن من كثب ، ولو كان بكائهن محظورا كان هو الأولى بالمنع والرد ، ومن أين علم الحظر في بكائهن ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالفه ؟ وهلا راجعة في أمرهن لما هم بهن تأدبا ؟ وما هذه الفظاظة الدافعة له إلى ما فعل ؟ وكيف مد يده إلى تلكم النسوة حتى أخذ بها النبي الأعظم ودافع عنهن ؟ والمجتمعات هناك بطبع الحال حامة رسول الله وذوات رحمة ونسوته ، وغير أني لا أعلم أن الصديقة الفاطمة التي كانت من الباكيات في ذلك اليوم هل كانت بين تكلم النسوة المضروبات أو لا ؟ وعلى أي فقد جلست إلى أبيها وهي باكية.
    وكانت للخليفة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرأى منه ومشهد مواقف لدة هذه لم يصب فيها قط ، ومنها ما حدث به سلمة بن الأزرق إنه كان جالسا عند ابن عمر بالسوق فمر بجنازة يبكى عليها قال : فعاب ذلك ابن عمر وانتهرهن قال فقال سلمة : لا تقل ذلك يا أبا عبد الرحمن فأشهد على أبي هريرة لسمعته يقول : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة و أنا معه ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونساء يبكين عليها فزبرهن عمر وانتهرهن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : دعهن يا عمر فإن العين دامعة ، والنفس مصابة ، والعهد حديث.
    قالوا : أنت سمعته يقول هذا ؟ قال : نعم ، قال ابن عمر : فالله ورسوله أعلم مرتين (2) وأخرج الحاكم (3) بإسناد صححه وأقره الذهبي عن أبي هريرة قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جنازة ومعه عمر بن الخطاب فسمع نساء يبكين فزبرهن عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عمر دعهن فإن العين دامعة ، والنفس مصابة ، والعهد قريب.
    وعن أبي هريرة : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال
1 ـ عمدة القاري 4 ص 87.
2 ـ السنن الكبرى للبيهقي 4 ص 70 ، مسند أحمد 2 ص 408.
3 ـ المستدرك 1 ص 381.
الغدير ـ الجزء السادس ::: فهرس