الغدير ـ الجزء السادس ::: 171 ـ 180
(171)
54
رأي الخليفة في تحقق البلوغ
    عن ابن أبي مليكة : إن عمر كتب في غلام من أهل العراق سرق فكتب : أن أشبروه فإن وجدتموه ستة أشبار فاقطعوه.
    فشبر فوجد ستة أشبار تنقص أنملة فترك.
    وعن سليمان بن يسار : إن عمر أتي بغلام سرق فأمر به فشبر فوجد ستة أشبار إلا أنملة فتركه.
    أخرجه ابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، ومسدد ، وابن المنذر في الأوسط كما في كنز العمال 3 ص 116.
    قال الأميني : الذي ثبت من الشريعة في تحقق البلوغ هو الاحتلام الثابت بصحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن رفع عنه القلم : والغلام حتى يحتلم.
    أو نبات الشعر في العانة الثابت بالصحاح ، أو السن المحدود كما في صحيحة عبد الله بن عمر (1) ولا رابع لها يعد حدا مطردا ، وأما المساحة بالأشبار فهو من فقه الخليفة ومحدثاته فحسب ، ولعله أبصر بمواقع فقاهته.
55
تنقيص الخليفة من الحد
    عن أبي رافع : أن عمر بن الخطاب أتي بشارب فقال : لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة ، فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال : إذا أصبحت غدا فاضربه الحد فجاء عمر وهو يضربه ضربا شديدا فقال : قتلت الرجل كم ضربته ؟ قال : ستين ، قال : أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة في معناه : يقول اجعل شدة هذا الضرب قصاصا بالعشرين التي بقيت من الحد فلا تضربه إياها.
    ( السنن الكبرى 8 ص 317 ، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 133 ).
    قال الأميني : انظر إلى الرجل كيف يتلون في الحكم فيضعف يوما حد الشارب وهو الأربعون ـ عند القوم ـ فيجلد ثمانين (2) ثم يرق المحدود في يوم آخر فينقص منه عشرين ، ويتلافي شدة الكيف بنقيصة الكم بعد تسليم الشارب إلى رجل
1 ـ راجع في أحاديث الباب السنن الكبرى 5 ص 54 ـ 59.
2 ـ راجع الحديث السادس والعشرين ص 113.


(172)
يعرفه بالشدة ، والكل زائد على الناموس الإلهي الذي جاء به النبي الأقدس ، وفي الحديث يؤتى بالرجل الذي ضرب فوق الحد فيقول الله : لم ضربت فوق ما أمرتك ؟ فيقول : يا رب غضبت لك ، فيقول : : أكان لغضبك أن يكون أشد من غضبي ؟ ويؤتى بالذي قصر فيقول : عبدي لم قصرت ؟ فيقول : رحمته.
    فيقول : أكان لرحمتك أن تكون أشد من رحمتي ؟ (1).
    وكم لهذا الحديث من نظائر أخرجه الحفاظ راجع كنز العمال 3 ص 196.
56
أبا حسن لا أبقاني الله لشدة لست لها
    عن ابن عباس قال : وردت على عمر بن الخطاب واردة قام منها وقعد وتغير و تربد وجمع لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعرضها عليهم وقال : أشيروا علي.
    فقالوا : جميعا : يا أمير المؤمنين أنت المفزع.
    فغضب عمر وقال : اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم.
    فقالوا : يا أمير المؤمنين ما عندنا مما تسأل عنه شئ.
    فقال : أما والله إني لأعرف أبا بجدتها وابن بجدتها وأين مفزعها وأين منزعها ، فقالوا : كأنك تعني ابن أبي طالب ؟ فقال عمر : لله هو ، وهل طفحت حرة بمثله وأبرعته ؟ انهضوا بنا إليه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين أتصير إليه ؟ يأتيك.
    فقال هيهات هناك شجنة من بني هاشم ، وشجنة من الرسول ، وأثرة من علم يؤتى لها ولا يأتي ، في بيته يؤتى الحكم. فاعطفوا نحوه. فألفوه في حائط وهو يقرأ : أيحسب الانسان أن يترك سدى.
    ويرددها ويبكي فقال عمر لشريح : حدث أبا حسن بالذي حدثتنا به.
    فقال شريح : كنت في مجلس الحكم فأتى هذا الرجل فذكر أن رجلا أودعه امرأتين حرة مهيرة (2) وأم ولد فقال له : أنفق عليهما حتى أقدم.
    فلما كان في هذه الليلة وضعتا جميعا إحداهما ابنا والأخرى بنتا وكلتاهما تدعي الابن وتنتفي من البنت من أجل الميراث فقال له : بم قضيت بينهما ؟ فقال شريح : لو كان عندي ما أقضي به بينهما لم آتكم بهما ، فأخذ علي تبنة من الأرض فرفعها فقال : إن القضاء في هذا أيسر من هذه. ثم دعا
1 ـ البيان والتبيين 2 ص 20.
2 ـ المهيرة من النساء : الحرة الغالية المهر ج مهائر.


(173)
بقدح فقال لإحدى المرأتين : احلبي ، فحبلت فوزنه ثم قال للأخرى : احلبي. فحلبت فوزنه فوجده على النصف من لبن الأولى فقال لها : خذي أنت ابنتك ، وقال للأخرى : خذي أنت ابنك ، ثم قال لشريح : أما علمت أن لبن الجارية على النصف من لبن الغلام ؟ وأن ميراثها نصف ميراثه ؟ وأن عقلها نصف عقله ؟ وأن شهادتها نصف شهادته ؟ وأن ديتها نصف ديته ؟ وهي على النصف في كل شئ.
    فأعجب به عمر إعجابا شديدا ثم قال : أبا حسن لا أبقاني الله لشدة لست لها ولا في بلد لست فيه ؟ كنز العمال 3 ص 179 ، مصباح الظلام للجرداني 2 ص 56.
57
الخليفة ومولود عجيب
    عن سعيد بن جبير قال : أتي عمر بن الخطاب بامرأة قد ولدت ولدا له خلقتان بدنان وبطنان وأربعة أيد ورأسان وفرجان هذا في النصف الأعلى ، وأما في الأسفل فله فخذان وساقان ورجلان مثل ساير الناس فطلب المرأة ميراثها من زوجها وهو أبو ذلك الخلق العجيب فدعا عمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاورهم فلم يجيبوا فيه بشئ فدعا علي بن أبي طالب فقال علي : إن هذا أمر يكون له نبأ فاحبسها واحبس ولدها واقبض مالهم وأقم لهم من يخدمهم وأنفق عليهم بالمعروف.
    ففعل عمر ذلك ثم ماتت المرأة وشب الخلق وطلب الميراث فحكم له علي بأن يقام له خادم خصي يخدم فرجيه ويتولى منه ما يتولى الأمهات ما لا يحل لأحد سوى الخادم ، ثم إن أحد البدنين طلب النكاح فبعث عمر إلى علي فقال له : يا أبا الحسن ما تجد في أمر هذين إن اشتهى أحدهما شهوة خالفه الآخر ، وإن طلب الآخر حالة طلب الذي يليه ضدها حتى إنه في ساعتنا هذه طلب أحدهما الجماع ؟ فقال علي : الله أكبر إن الله أحلم وأكرم من أن يري عبدا أخاه وهو يجامع أهله ولكن عللوه ثلاثا فإن الله سيقضي قضاء فيه ما طلب هذا عند الموت فعاش بعدها ثلاثة أيام ومات ، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاورهم فيه قال بعضهم : اقطعه حتى يبين الحي من الميت وتكفنه وتدفنه ، فقال عمر : إن هذا الذي أشرتم لعجب أن نقتل حيا لحال ميت ، وضج الجسد الحي فقال : الله حسبكم تقتلوني وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأ القرآن


(174)
فبعث إلى علي فقال : يا أبا الحسن احكم فيما بين هذين الخلقين فقال علي : الأمر فيه أوضح من ذلك وأسهل وأيسر ، الحكم : أن تغسلوه وتكفنوه وتدعوه مع ابن أمه يحمله الخادم إذا مشى فيعاون عليه أخاه فإذا كان بعد ثلث جف فاقطعوه جافا ويكون موضعه حيا لا يألم ، فإني أعلم إن الله لا يبقي الحي بعده أكثر من ثلث يتأذى برائحة نتنه وجيفه.
    ففعلوا ذلك فعاش الآخر ثلثة أيام ومات فقال عمر رضي الله عنه : يا ابن أبي طالب فما زلت كاشف كل شبهة وموضح كل حكم. ( كنز العمال 3 ص 179 ).
58
اجتهاد الخليفة في حد أمة
    عن يحيى بن حاطب قال : توفي حاطب فاعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم ترعه إلا بحبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدثه فقال : لأنت الرجل لا تأتي بخير.
    فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر رضي الله عنه فقال : أحبلت ؟ فقالت : نعم من مرغوش بدرهمين.
    فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه قال : وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فقال : أشيروا علي وكان عثمان رضي الله عنه جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن : قد وقع عليها الحد ، فقال : أشر علي يا عثمان ؟ فقال : قد أشار عليك أخواك.
    قال : أشر علي أنت.
    قال أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه.
    فقال : صدقت صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه.
    فجلدها عمر مائة وغربها عاما (1).
    وقال الشافعي في الأم 1 ص 135 : فخالف عليا وعبد الرحمن فلم يحدها حدها عندهما وهو الرجم ، وخالف عثمان أن لا يحدها بحال ، وجلدها مائة وغربها عاما.
    وقال البيهقي في السنن : قال الشيخ رحمه الله : كان حدها الرجم فكأنه رضي الله عنه درأ عنها حدها للشبهة بالجهالة وجلدها وغربها تعزيرا.
    قال الأميني : أنا لا أقول : إن الأمر في المسألة دائر بين أمرين إما ثبوت الحد وهو الرجم ، وإما درأه بالشبهة وتخلية الحامل سبيلها ، والقول بالفصل رأي خارج عن نطاق
1 ـ كتاب الإمام للشافعي 1 ص 135 ، اختلاف الحديث للشافعي هامش الأم 7 ص 144 سنن البيهقي 8 ص 238 ، وذكر أبو عمر شطرا منه في العلم ص 148.

(175)
الشرع. وإنما أقول : إن ما رآه البيهقي من كون الجلدة والتغريب تعزيرا لا يصحح الرأي بل يوجب مزيد الاشكال إذ ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (1) وفي صحيح آخر قوله : لا يجلد فوق عشرة أسواط فيما دون حد من حدود الله (2).
    وقوله : لا يحل لأحد أن يضرب أحدا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (3).
    وقوله : لا تعزروا فوق عشرة أسواط (4).
    وقوله : من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين (5).
    وقوله : لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (6).
    وقوله : لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله (7).
    فهل الخليفة قد خفيت عليه هذه كلها ؟ أو تعمد في الصفح عنها ، وجعلها دبر أذنيه ؟
59
نهي الخليفة عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
    عن أبي هريرة قال : كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر في نفر فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقطع دوننا فقمنا وكنت أول من فزع فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النجار فلم أجد له بابا إلا ربيعا فدخلت في جوف الحائط ـ والربيع : الجدول ـ فدخلت منه بعد أن احتفزته فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبو هريرة ؟ قلت : نعم.
    قال : ما شأنك ؟ قلت : كنت بين أظهرنا فقمت وأبطأت فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا وكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزته كما يحتفز الثعلب والناس من ورائي فقال : يا أبا هريرة إذهب بنعلي هاتين فمن لقيته وراء
1 ـ صحيح البخاري في الجزء الأخير باب كم التعزير والأدب ، سنن أبي داود 2 ص 242 ، صحيح مسلم في الحدود 2 ص 52.
2 ـ مستدرك الحاكم 4 ص 382.
3 ـ سنن الدارمي 2 ص 176.
4 ـ سنن ابن ماجة 2 ص 129.
5 ـ السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 327.
6 ـ السنن الكبرى للبيهقي 8 ص 328 ، وأخرجه ابن مندة وأبو نعيم كما في الإصابة 2 ص 423.
7 ـ صحيح البخاري في باب كم التعزير والأدب في الجزء الأخير.


(176)
هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة.
    فخرجت فكان أول من لقيت عمر فقال : ما هذان النعلان ؟ قلت : نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما وقال : من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة فضرب عمر في صدري فخررت لإستي وقال : إرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بالبكاء راجعا فقال رسول الله : ما بالك ؟ قلت : لقيت عمر فأخبرته بما بعثتني به فضرب صدري ضربة خررت لإستي وقال : إرجع إلى رسول الله ، فخرج رسول الله فإذا عمر فقال : ما حملك يا عمر ! على ما فعلت ؟ فقال عمر : أنت بعثت أبا هريرة بكذا ؟ قال : نعم ، قال : فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون ، فقال رسول الله : فخلهم (1) قال الأميني : إن التبشير والانذار من وظايف النبوة كتابا وسنة واعتبارا وأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وإن كان في التبشير تثبيط عن العمل لكان من واجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يبشر بشئ قط وقد بشر في الكتاب الكريم بمثل قوله تعالى : و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (2) وقوله : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم (3) ووردت بشارات جمة في السنة النبوية في الترغيب في الشهادة بالله وذكر لا إله إلا الله (4).
    م ـ وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن ينادي في الناس : إن من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) (5) وأي تثبيط هناك ولازم التوحيد الصحيح العمل بكل ما شرعه الإله الواحد ؟ ولا سيما هتاف الرسالة في كل حين يسمع المستخفين بالوعيد المزعج والعذاب الشديد مشفوعا بعداته الكريمة لمن يعمل الصالحات ، والجنة يشتاق إليه الموحدون ، أخرج أحمد عن ابن مطرف قال : حدثني الثقة إن رجلا أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن التسبيح والتهليل فقال عمر بن الخطاب : مه أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فقال : مه يا عمر.
    وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل أتى على الانسان حين من الدهر.
    حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال
1 ـ سيرة عمر لابن الجوزي ص 38 ، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 108 ، 116 ، فتح الباري 1 ص 184.
2 ـ سورة الأحزاب آية 47.
3 ـ سورة يونس آية 2
4 ـ راجع الترغيب والترهيب للحافظ المنذري 2 ص 160 ـ 165.
5 ـ تهذيب التهذيب 1 ص 424.


(177)
النبي صلى الله عليه وسلم : مات شوقا إلى الجنة (1).
    وهكذا يجب أن تسير الأمة إلى الله بين خطتي الخوف والرجاء ، فلا التهديد يدعها تتوانى عن العمل ، ولا الوعد يأمنها من العقوبة إن تركته ، وهذه هي الطريقةالمثلى في إصلاح المجتمع ، والسير بهم في السنن اللاحب ، سنة الله في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا ، غير أن الخليفة قد يحسب أن خطته أمثل من هذه ، فانتهر أبا هريرة حتى خر لإسته ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدؤب على ما قال وأمر به وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
    وليس من المستطاع أن يخبت إلى اعتناء النبي بهاتيك الهلجة بعد أن صدع بما صدع عن الوحي الإلهي ، لكن الدوسي يقول : قال : فخلهم.
    وأنا لا أدري هل كذب الدوسي ، أو أن هذا مبلغ علم الخليفة وأنموذج عمله ؟.
60
إجتهاد الخليفة في حلي الكعبة (2)
    1 ـ ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته فقال قوم : لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر ، وما تصنع الكعبة بالحلي ؟ فهم عمر بذلك وسأل عنه أمير المؤمنين عليه السلام فقال ؟ إن هذا القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم والأموال أربعة : أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض. والفئ فقسمه على مستحقيه. والخمس فوضعه الله حيث وضعه. والصدقات فجعلها الله حيث جعلها. وكان حلي الكعبة فيها يومئذ فتركه الله على حاله ولم يتركه نسيانا ولم يخف عنه مكانا فأقره حيث أقره الله ورسوله. فقال له عمر : لولاك لافتضحنا. وترك الحلي بحاله.
    2 ـ عن شقيق عن شيبة بن عثمان قال : قعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقعدك الذي أنت فيه فقال : لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة ـ بين فقراء المسلمين ـ قال قلت
1 ـ الدر المنثور 6 ص 297.
2 ـ صحيح البخاري 3 ص 81 ، في كتاب الحج باب كسوة الكعبة ، وفي الاعتصام أيضا ، أخبار مكة للأزرقي ، سنن أبي داود 1 ص 317 ، سنن ابن ماجة 2 ص 269 ، سنن البيهقي 5 ص 159 ، فتوح البلدان للبلاذري ص 55 ، نهج البلاغة 2 ص 201 ، الرياض النضرة 2 ص 20 ، ربيع الأبرار للزمخشري في الباب الخامس والسبعين ، تيسير الوصول ، فتح الباري 3 ص 358 ، كنز العمال 7 ص 145.


(178)
ما أنت بفاعل. قال : بلى لأفعلن. قال قلت : ما أنت بفاعل. قال : لم ؟ قلت : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر رضي الله عنه وهما أحوج منك إلى المال فلم يخرجاه. فقام فخرج. لفظ آخر :
    قال شقيق : جلست إلى شيبة بن عثمان في المسجد الحرام فقال لي : جلس إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجلسك هذا فقال : لقد هممت أن لا أترك فيها ـ أي في الكعبة ـ صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها.
    قال شيبة فقلت : إنه كان لك صاحبان فلم يفعلاه : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه.
    فقال عمر : هما المرءان أقتدي بهما.
    3 ـ وعن الحسين : إن عمر بن الخطاب قال : لقد هممت أن لا أدع في الكعبة صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها فقال له أبي بن كعب : والله ما ذاك لك.
    فقال عمر : لم.
    قال : إن الله قد بين موضع كل مال وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : صدقت.
    نحن لا نناقش الحساب في تعيين الملقن لحكم القضية ، غير أن هذه الروايات تعطينا خبرا بأن كل أولئك الرجال كانوا أفقه من الخليفة في هذه المسألة ، فأين قول صاحب الوشيعة : إن عمر أفقه الصحابة وأعلمهم في زمنه على الإطلاق ؟.
61
إجتهاد الخليفة في الطلاق الثلاث
    1 ـ عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين ـ وسنين ـ من خلافة عمر رضي الله عنه طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.
    مسند أحمد 1 ص 314 ، صحيح مسلم 1 ص 574 ، سنن البيهقي 7 ص 336 ، مستدرك الحاكم 2 ص 196 ، تفسير القرطبي 3 ص 130 وصححه ، إرشاد الساري 8 ص 127 ، الدر المنثور 1 ص 279.
    2 ـ عن طاوس قال : إن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وثلاث في إمارة عمر رضي الله عنه ؟ قال ابن عباس : نعم.
    صحيح مسلم 1 ص 574 ، سنن أبي داود ص 344 ، أحكام القرآن للجصاص 1


(179)
ص 459 ، سنن النسائي 6 ص 145 ، سنن البيهقي 7 ص 336 ، الدر المنثور 1 ص 279.
    إن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه واحدة ؟ قال : قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم ـ فأجازه عليهم ـ صحيح مسلم 1 ص 574 ، سنن البيهقي 7 ص 336.
    صورة أخرى :
    كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس قال : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر و صدرا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه ، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم سنن أبي داود 1 ص 344 ، سنن البيهقي 7 ص 339 ، تيسير الوصول 2 ص 162 ، الدر المنثور 1 ص 279.
    3 ـ أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنه قال : لما كان زمن عمر رضي الله عنه قال : يا أيها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة ، وإنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. وذكره العيني في عمدة القاري 9 ص 537 وقال : إسناد صحيح.
    4 ـ عن طاوس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم ، وقد أجزنا عليهم ما استعجلتم من ذلك. ( كنز العمال 5 ص 162 نقلا عن أبي نعيم ).
    5 ـ عن الحسن إن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة ، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم فألزم كل نفس ما لزم نفسه ، من قال لامرأته : أنت علي حرام. فهي حرام ، ومن قال لامرأته : أنت بائنة. فهي بائنة ، ومن طلق ثلاثا فهي ثلاث. ( كنز العمال 5 ص 163 نقلا عن أبي نعيم ).
    قال الأميني : إن من العجب أن يكون استعجال الناس مسوغا لأن يتخذ الانسان


(180)
كتاب الله ورائه ظهريا ويلزمهم بما رأوا ، هذا الذكر الحكيم يقول بكل صراحة : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
    إلى قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره.
    فقد أوجب سبحانه تحقيق المرتين والتحريم بعد الثالث ، وذلك لا يجامع جمع التطليقات بكلمة ـ ثلاثا ـ ولا بتكرار صيغة الطلاق ثلاثا متعاقبة بلا تخلل عقدة النكاح بينها.
    أما الأول : فلأنه طلاق واحد وقول ـ ثلاثا ـ لا يكرره ألا ترى ؟ أن الوحدة المأخوذة في الفاتحة في ركعات الصلاة لا تكرر لو شفعها المصلي بقوله : خمسا أو عشرا ، ولا يقال : إنه كرر السورة وقرأها غير مرة.
    وكذلك كل حكم اعتبر فيه العدد كرمي الجمرات السبع فلا يجزي عنه رمي الحصيات مرة واحدة ، وكالشهادات الأربع في اللعان لا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله ـ أربعا ـ.
    وكفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية لا يتأتى التكرار فيها بقراءة واحدة و إردافها بقول ـ مرتين ـ.
    وكتكبيرات صلاة العيدين الخمس أو السبع المتوالية ـ عند القوم ـ قبل القرائة (1) لا تتأتى بتكبيرة واحدة بعدها قول المصلي خمسا أو سبعا.
    وكصلاة التسبيح (2) وقد أخذ في تسبيحاتها العدد عشرا وخمسة عشر فلا تجزي عنها تسبيحة واحدة مردوفة بقوله عشرا أو خمسة عشر. وهذه كلها مما لا خلاف فيه.
    وأما الثاني فإن الطلاق يحصل باللفظ الأول ، وتقع به البينونة ، وتسرح به المعقودة بالنكاح ، ولا يبقى ما بعده إلا لغوا ، فإن المطلقة لا تطلق ، والمسرحة لا تسرح ، فلا يحصل به العدد المأخوذ في موضوع الحكم ، بل تعدد الطلاق يستلزم تخلل عقدة الزواج بين الطلاقين ولو بالرجوع ، ومهما لم تتخلل يقع الطلاق الثاني لغوا و يبطله قوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا طلاق إلا بعد نكاح. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا طلاق قبل نكاح. وقوله
1 ـ السنن الكبرى 3 ص 285 ـ 291.
2 ـ صلاة التسبيح هي المسماة بصلاة جعفر عند أصحابنا ، ولا خلاف بين الفريقين في فضلها وكمها وكيفها ، غير أن أئمة القوم أخرجوها في الصحاح والمسانيد عن ابن عباس.
الغدير ـ الجزء السادس ::: فهرس