الغدير ـ الجزء السادس ::: 291 ـ 300
(291)
    وعن نافع مولى عبد الله : إن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال : أين الرجل ؟ فقال : في الرحل.
    قال عمر : أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الموجعة.
    فأتاه به فقال عمر : تسأل محدثة ؟ فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة (1) ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد له ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود له قال : صبيغ : إن كنت تريد قتلي ؟ فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني ؟ فقد والله برئت.
    فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري : أن لا يجالسه أحد من المسلمين.
    فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى عمر : أن قد حسنت توبته ، فكتب عمر : أن يأذن الناس بمجالسته.
    وعن السائب بن يزيد قال : أتي عمر بن الخطاب فقيل : يا أمير المؤمنين ! إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل مشكل القرآن فقال عمر : أللهم مكني منه.
    فبينما عمر ذات يوم جالسا يغدي الناس إذ جاء ( الرجل ) وعليه ثياب وعمامة صفدي حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين ! والذاريات ذروا فالحاملات وقرا ؟ فقال عمر : أنت هو ؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ألبسوه ثيابا واحملوه على قتب وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيب ثم يقول : إن صبيغا ابتغى العلم فأخطأه.
    فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه.
    وعن أنس : إن عمر بن الخطاب جلد صبيغا الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اضطربت الدماء في ظهره.
    وعن الزهري : إن عمر جلد صبيغا لكثرة مساءلته عن حروف القرآن حتى اضطربت الدماء في ظهره (2).
1 ـ في سنن الدارمي : وبرة وفي حاشيته : أي ذات فروج : وفي لفظ ابن عساكر والسيوطي دبرة. وهو الصحيح والمعنى واضح.
2 ـ سنن الدارمي 1 ص 54 ، 55 ، تاريخ ابن عساكر 6 ص 384 ، سيرة عمر لابن الجوزي ص 109 ، تفسير ابن كثير 4 ص 232 ، اتقان السيوطي 2 ص 5 ، كنز العمال 1 ص 228 ، 229 نقلا عن الدارمي. ونصر المقدسي. والاصبهاني. وابن الأنباري. والالكلائي. وابن عساكر ، الدر المنثور 6 ص 111 ، فتح الباري 8 ص 17 ، الفتوحات الإسلامية 2 ص 445.


(292)
    قال الغزالي في الإحياء 1 ص 30 : و ( عمر ) هو الذي سد باب الكلام والجدل وضرب صبيغا بالدرة لما أورد عليه سؤالا في تعارض آيتين في كتاب الله وهجره وأمر الناس بهجره. ا ه‍.
    وصبيغ هذا هو صبيغ بن عسل. ويقال : ابن عسيل. ويقال : صبيغ بن شريك من بني عسيل.
    2 ـ عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! ما الجوار الكنس ؟ فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن رأسه فقال عمر : أحروري ؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك.
    كنز العمال 1 ص 229 نقلا عن الكنى للحاكم ، الدر المنثور 6 ص 321.
    3 ـ عن عبد الرحمن بن يزيد : إن رجلا سأل عمر عن فاكهة وأبا فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة (1).
    قال الأميني : أحسب أن في مقول العراجين ، ولسان المخصرة ، ومنطق الدرة الجواب الفاصل عن كل ما لا يعلمه الانسان ، وإليه يوعز قول الخليفة : نهينا عن التكلف.
    في الجواب عن أبسط سؤال يعلمه كل عربي صميم ألا وهو معنى الأب المفسر في نفس الكتاب المبين بقوله تعالى : متاعا لكم ولأنعامكم.
    وأنا لا أعلم أن السائلين بماذا استحقوا الادماء والإيجاع بمحض السؤال عما لا يعلمونه من مشكل القرآن أو ما غاب عنهم من لغته ؟ وليس في ذلك شئ مما يوجب الالحاد ، لكن القصص جرت على ما ترى.
    ثم ما ذنب المجيبين بعلم عن السؤال عن الأب ؟ ولماذا أقبل عليهم الخليفة بالدرة ؟ وهل تبقى قائمة لأصول التعليم والتعلم والحالة هذه ؟ ولعل الأمة قد حرمت ببركة تلك الدرة عن التقدم والرقي في العلم بعد أن آل أمرها إلى أن هاب مثل ابن عباس أن يسأل الخليفة عن قوله تعالى : وإن تظاهرا عليه (2) وقال : مكثت سنتين أريد أن
1 ـ فتح الباري 13 ص 230 ، الدر المنثور 6 ص 317.
2 ـ مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي 5 ص 8.


(293)
أسأل عمر بن الخطاب عن حديث ما منعني منه إلا هيبته (1) وقال : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه عن آية فلا أستطيع أن أسأله هيبة (2).
91
رأي الخليفة في السؤال عما لم يقع
    أضف إلى اجتهاد الخليفة في مشكلات القرآن رأيه الخاص به في السؤال عما لم يقع فإنه كان ينهى عنه قال طاووس : قال عمر على المنبر : أحرج بالله على رجل سأل عما لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن (3).
    وقال : لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن ، إن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن.
    وقال : أحرج عليكم أن لا تسألوا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا.
    وجاء رجل يوما إلى ابن عمر فسأله عن شئ لا أدري ما هو فقال له ابن عمر : لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن (4).
    فساق اللعن أعلام الصحابة إلى هذا الحادث ، وعمت البلية ، وطفقوا لم يجيبوا عن السؤال عما لم يكن ، فهذا ابن عباس سأله ميمون عن رجل أدركه رمضانان فقال : أكان أو لم يكن ؟ قال : لم يكن بعد.
    قال : اترك بلية حتى تنزل.
    قال : فدلسنا له رجلا فقال : قد كان.
    فقال : يطعم من الأول منهما ثلاثين مسكينا لكل يوم مسكين (5).
    وهذا أبي بن كعب سأله رجل فقال : يا أبا المنذر ما تقول في كذا وكذا ؟ قال : يا بني أكان الذي سألتني عنه ؟ قال : لا.
    قال : أما لا فأجلني حتى يكون فنعالج أنفسنا حتى نخبرك (6).
    وقال مسروق : كنت أمشي مع أبي بن كعب فقال فتى : ما تقول يا عماه كذا وكذا ؟ قال : يا بن أخي أكان هذا ؟ قال : لا. قال : فاعفنا حتى يكون (7)
1 ـ كتاب العلم لأبي عمر ص 56.
2 ـ سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 118.
3 ـ سنن الدارمي 1 ص 50 ، جامع بيان العلم 2 ص 141.
4 ـ سنن الدارمي 1 ص 50 ، كتاب العلم لأبي عمر 2 ص 143 ، وفي مختصره ص 190 ، فتح الباري 13 ص 225 ، كنز العمال 2 ص 174
5 ـ سنن الدارمي 1 ص 57.
6 ـ سنن الدارمي 1 ص 56.
7 ـ سنن الدارمي 1 ص 56.


(294)
92
نهي الخليفة عن الحديث
    وأردف الحادثين في مشكل القرآن والسؤال عما لم يقع ، بثالث أفظع وهو نهي الخليفة عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عن إكثاره ، وضربه وحبسه وجوه الصحابة بذلك.
    قال قرظة بن كعب لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر وقال : أتدرون لم شيعتكم ؟ قالوا : نعم مكرمة لنا.
    قال : ومع ذلك إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.
    فلما قدم قرظة بن كعب قالوا : حدثنا. فقال : نهانا عمر رضي الله عنه (1).
    وفي لفظ أبي عمر : قال قرظة : فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ الطبري : كان عمر يقول : جردوا القرآن ولا تفسروه وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم (2).
    م ـ ولما بعث أبا موسى إلى العراق قال له : إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل فدعهم على ماهم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث وأنا شريكك في ذلك.
    ذكره ابن كثير في تاريخه 8 ص 107 فقال : هذا معروف عن عمر رضي الله عنه.
    وأخرج الطبراني عن إبراهيم بن عبد الرحمن إن عمر حبس ثلاثة : ابن مسعود. وأبا الدرداء.
    وأبا مسعود الأنصاري ، فقال : قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حبسهم بالمدينة حتى استشهد (3).
    وفي لفظ الحاكم في المستدرك 1 ص 110 : إن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر : ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب.
1 ـ سنن الدارمي 1 ص 85 ، سنن ابن ماجة 1 ص 16 ، مستدرك الحاكم 1 ص 102 ، جامع بيان العلم 2 ص 120 ، تذكرة الحفاظ 1 ص 3.
2 ـ شرح ابن أبي الحديد 3 ص 120.
3 ـ تذكرة الحفاظ 1 ص 7 ، مجمع الزوائد 1 ص 149 وصححه محشى الكتاب فقال : هذا صحيح عن عمر من وجوه كثيرة وكان عمر شديدا في الحديث.


(295)
    وفي لفظ جمال الدين الحنفي : إن عمر حبس أبا مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر حتى أصيب.
    وقال : ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ثم قال : ومما روي عنه أيضا أن عمر قال لابن مسعود وأبي ذر : ما هذا الحديث ؟ قال : أحسبه حبسهم حتى أصيب.
    فقال : وكذلك فعل بأبي موسى الأشعري مع عدله عنده ( المعتصر 1 ص 459 ).
    وقال عمر لأبي هريرة : لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس (1).
    م ـ وقال لكعب الأحبار : لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.
    تاريخ ابن كثير 8 ص 106 ).
    وأخرج الذهبي في التذكرة 1 ص 7 عن أبي سلمة قال : قلت لأبي هريرة : أكنت تحدث في زمان عمر هكذا ؟ فقال : لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته.
    وأخرج أبو عمر عن أبي هريرة : لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة ( جامع بيان العلم 2 ص 121 ).
    م ـ وفي لفظ الزهري : أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي أما والله إذا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري.
    وفي لفظ ابن وهب : إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي.
    تاريخ ابن كثير 8 ص 107 ).
    فمن جراء هذا الحادث قال الشعبي : قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصفا فما سمعت يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا (2).
    وقال السائب بن يزيد : صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث بحديث واحد ( سنن ابن ماجة 1 ص 16 ).
    وقال أبو هريرة : ما كنا نستطيع أن نقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر.
1 ـ أخرجه ابن عساكر كما في كنز العمال 5 ص 239 ، وأخرجه أبو زرعة كما في تاريخ ابن كثير 8 ص 106.
2 ـ سنن الدارمي 1 ص 84 ، سنن ابن ماجة 1 ص 15.


(296)
تاريخ ابن كثير 8 ص 107.
    قال الأميني : هل خفي على الخليفة أن ظاهر الكتاب لا يغني الأمة عن السنة ، وهي لا تفارقه حتى يردا على النبي الحوض ، وحاجة الأمة إلى السنة لا تقصر عن حاجتها إلى ظاهر الكتاب ؟ والكتاب كما قال الأوزاعي ومكحول : أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب ( جامع بيان العلم 2 ص 191 ).
    أو رأى هناك أناسا لعبوا بها بوضع أحاديث على النبي الأقدس ـ وحقا رأى ـ فهم قطع جراثيم التقول عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقصير تلكم الأيدي الأثيمة عن السنة الشريفة ؟ فإن كان هذا أو ذاك فما ذنب مثل أبي ذر المنوه بصدقه بقول النبي الأعظم : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على رجل أصدق لهجة من أبي ذر (1) أو مثل عبد الله بن مسعود صاحب سر رسول الله ، وأفضل من قرء القرآن ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، الفقيه في الدين ، العالم بالسنة (2) أو مثل أبي الدرداء عويمر كبير الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3) فلماذا حبسهم حتى أصيب ؟ ولماذا هتك أولئك العظماء في الملأ الديني وصغرهم في أعين الناس ؟ وهل كان أبو هريرة وأبو موسى الأشعري من أولئك الوضاعين حتى استحقا بذلك التعزير والنهر والحبس والوعيد ؟ أنا لا أدري.
    نعم : هذه الآراء كلها أحداث السياسية الوقتية سدت على الأمة أبواب العلم ، وأوقعتها في هوة الجهل ومعترك الأهواء وإن لم يقصد ها الخليفة ، لكنه تترس بها يوم ذاك ، وكافح عن نفسه قحم المعضلات ، ونجابها عن عويصات المسائل.
    م ـ وبعد نهي الأمة المسلمة عن علم القرآن ، وإبعادها عما في كتابها من المعاني الفخمة والدروس العالية من ناحية العلم والأدب والدين والاجتماع والسياسة والأخلاق والتاريخ ، وسد باب التعلم والأخذ بالأحكام والطقوس ما لم يتحقق ويقع موضوعها ، والتجافي عن التهيؤ للعمل بدين الله قبل وقوع الواقعة ، ومنعها عن معالم السنة الشريفة والحجز عن نشرها في الملأ ، فبأي علم ناجع ، وبأي حكم وحكم تترفع وتتقدم
1 ـ مستدرك الحاكم 3 ص 342 ، 344 ، ويأتي تفصيل هذا الحديث ومصادره.
2 ـ مستدرك الحاكم 3 ص 312 ، 315.
3 ـ مستدرك الحاكم 3 ص 337.


(297)
الأمة المسكينة على الأمم ؟ وبأي كتاب وبأية سنة نتأتى لها سيادة العالم التي أسسها لها صاحب الرسالة الخاتمة ؟ فسيرة الخليفة هذه ضربة قاضية على الاسلام وعلى أمته وتعاليمها وشرفها وتقدمها وتعاليها علم بها هو أولم يعلم ، ومن ولايد تلك السيرة الممقوتة حديث كتابة السنن ، ألا وهو :
93
حديث كتابة السنن
    عن عروة : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال : إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتابا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا (1).
    وقد اقتفى أثر الخليفة جمع وذهبوا إلى المنع عن كتابة السنن خلافا للسنة الثابتة عن الصادع الكريم (2) ].
94
رأي الخليفة في الكتب
    أضف إلى الحوادث الأربعة : حادث مشكلات القرآن. وحادث السؤال عما لم يقع. وحادث الحديث عن رسول الله. وحادث كتابة السنن. رأي الخليفة واجتهاده حول الكتب والمؤلفات. أتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال : إنا لما فتحنا المداين أصبنا كتابا فيه علم من علوم الفرس وكلام معجب. فدعا بالدرة فجعل يضربه بها ثم قرأ نحن نقص عليك أحسن القصص ويقول : ويلك أقصص أحسن من كتاب الله ؟ إنما هلك من كان قبلكم لأنهم اقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والانجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم.
    صورة أخرى :
    عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال : أتى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه رجل فقال :
1 ـ طبقات ابن سعد 3 ص 206 ، مختصر جامع بيان العلم ص 33.
2 ـ راجع سنن الدارمي 1 ص 125 ، مستدرك الحاكم 1 ص 104 ـ 106 ، مختصر جامع العلم ص 36 ، 37.


(298)
يا أمير المؤمنين ! إنا لما فتحنا المدائن أصبت كتابا فيه كلام معجب ، قال : أمن كتاب الله ؟ قال : لا.
    فدعى بالدرة فجعل يضربه بها فجعل يقرأ : الر تلك آيات الكتاب المبين.
    إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.
    إلى قوله تعالى : وإن كنت من قبله لمن الغافلين.
    ثم قال : إنما أهلك من كان قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والانجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم.
    وأخرج عبد الرزاق ، وابن الضريس في فضائل القرآن والعسكري في المواعظ ، والخطيب عن إبراهيم النخعي قال : كان بالكوفة رجل يطلب كتب دانيال وذلك الضريبة فجاء فيه كتاب من عمر بن الخطاب أن يرفع إليه فلما قدم على عمر علاه بالدرة ثم جعل يقرأ عليه : الر تلك آيات الكتاب المبين ـ حتى بلغ ـ الغافلين.
    قال : فعرفت ما يريد فقلت : يا أمير المؤمنين ! دعني فوالله لا أدع عندي شيئا من تلك الكتب إلا أحرقته فتركه.
    راجع سيرة عمر لابن الجوزي ص 107 ، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 122 ، كنز العمال 1 ص 95.
    وجاء في تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج الملطي المتوفى 684 ص 180 من طبعة بوك في اوكسونيا سنة 1663 م ما نصه : وعاش ( يحيى الغراما طيقي ) إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الاسكندرية ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ما هاله ففتن به وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقه ثم قال له يحيى يوما : إنك قد أحطت بحواصل الاسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها ، فمالك به انتفاع فلا نعارضك فيه ، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به.
    فقال له عمرو : ما الذي تحتاج إليه ؟ قال : كتب الحكمة التي في الخزائن الملوكية.
    فقال عمرو : هذا ما لا يمكنني أن آمر فيه إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
    فكتب إلى عمر وعرفه قول يحيى فورد عليه كتاب عمر يقول فيه : وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما وافق كتاب الله ؟ ففي كتاب الله عنه غنى ، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله ؟ فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها.
    فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الاسكندرية وإحراقها في مواقدها فاستنفدت في مدة ستة أشهر


(299)
فاسمع ما جرى واعجب.
    هذه الجملة من كلام الملطي ذكرها جرجي زيدان في تاريخ التمدن الاسلامي 3 ص 40 برمتها فقال في التعليق عليها : النسخة المطبوعة في مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت قد حذفت منها هذه الجملة كلها لسبب لا نعلمه.
    وقال عبد اللطيف البغدادي المتوفى 629 الهجري في الافادة والاعتبار ص 28 : رأيت أيضا حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة بعضها صحيح وبعضها مكسور ويظهر من حالها إنها كانت مسقوفة والأعمدة تحمل السقف وعمود السواري عليه قبة هو حاملها.
    وأرى إنه الرواق الذي كان يدرس فيه ارسطوطاليس وشيعته من بعده وأنه دار المعلم التي بناها الاسكندر حين بنى مدينته ، وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضي الله عنه.
    صورة مفصلة :
    وقال القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي المتوفى 646 في كتابه تراجم الحكماء المخطوط (1) في ترجمة يحيى النحوي : وعاش ( يحيى النحوي ) إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر والاسكندرية ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده وما جرى له مع النصارى فأكرمه عمرو ورأى له موضعا وسمع كلامه في إبطال التثليث فأعجبه وسمع كلامه أيضا في انقضاء الدهر ففتن به وشاهد من حججه المنطقية وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن للعرب بها أنسة ما هاله ، وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكاد لا يفارقه ، ثم قال له يحيى يوما : إنك قد أحطت بحواصل الاسكندرية وختمت على كل الأجناس الموصوفة الموجودة بها ، فأما مالك به انتفاع فلا أعارضك فيه ، وأما ما لا نفع لكم به فنحن أولى به ، فأمر بالإفراج عنه.
    فقال له عمرو : وما الذي تحتاج إليه ؟ قال : كتب الحكمة في الخزائن الملوكية وقد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها.
    فقال له : ومن جمع هذه الكتب وما قصتها ؟ فقال له يحيى : إن
1 ـ توجد نسخة في دار الكتب الخديوية مكتوبة سنة 1197 كما في تاريخ التمدن الاسلامي 3 ص 42.

(300)
بطولو ماوس فيلادلفوس من ملوك الاسكندرية لما ملك حبب إليه العلم والعلماء وفحص عن كتب العلم وأمر بجمعها وأفرد لها خزائن فجمعت وولى أمرها رجلا يعرف بابن زمرة ( زميرة ) وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها ففعل واجتمع من ذلك في مدة خمسون ألف كتابا ومائة وعشرون كتابا ، ولما علم الملك باجتماعها وتحقق عدتها قال لزميرة : أتى بقي في الأرض من كتب العلم ما لم يكن عندنا ؟ فقال له زميرة : قد بقي في الدنيا شئ في السند والهند وفارس وجرجان والارمان وبابل والموصل وعند الروم.
    فعجب الملك من ذلك وقال له : دم على التحصيل فلم يزل على ذلك إلى أن مات ، وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كل من يلي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا ، فاستكثر عمرو ما ذكره يحيى وعجب منه وقال له : لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
    وكتب إلى عمر وعرفه بقول يحيى الذي ذكر ، واستأذنه ما الذي يصنعه فيها ؟ فورد عليه كتاب عمر يقول فيه : وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ؟ ففي كتاب الله عنه غنى ، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله تعالى ؟ فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامها.
    فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الاسكندرية وإحراقها في مواقدها وذكرت عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها ، فذكروا انها استنفدت في مدة ستة أشهر ، فاسمع ما جرى واعجب. ا ه‍.
    وفي فهرست ابن النديم المتوفى 385 إيعاز إلى تلك المكتبة المحروقة قال في صحيفة 334 : وحكى إسحاق الراهب في تاريخه ابن بطولوماوس فيلادلفوس من ملوك الاسكندرية لما ملك فحص عن كتب العلم وولى أمرها رجلا يعرف بزميرة فجمع من ذلك على ما حكي أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتابا.
    وقال له : أيها الملك قد بقي في الدنيا شئ كثير في السند والهند وفارس وجرجان والارمان وبابل والموصل وعند الروم. ا ه‍.
    ومؤسس تلك المكتبة هو بطليموس الأول وهو الذي بنى مدرسة الاسكندرية المعروفة باسم الرواق وجمع فيها جميع علوم تلك الأزمان من فلسفة ورياضيات وطب وحكمة وآداب وهيئة وكانت المدرسة توصل للقصر الملكي ، وبويع لولده بطليموس
الغدير ـ الجزء السادس ::: فهرس