الغدير ـ الجزء السادس ::: 301 ـ 310
(301)
الثاني ـ الملقب بفيلادلفوس ( أي محب أخيه ) ـ بالملك حياة أبيه قبل موته بسنتين سنة خمس وثمانين ومائتين قبل الميلاد أي سنة سبع وتسعمائة قبل الهجرة وله من العمر أربع وعشرون سنة ومات سنة ست وأربعين ومائتين قبل الميلاد أي سنة ثمان وستين وثمانمائة قبل الهجرة فكانت مدة حكمه ثمانيا وثلاثين سنة ، وكان على سيرة أبيه في حب العلم وأهله والعناية بخزانة كتب الاسكندرية وجمع الكتب فيها (1).
    وكان رأي الخليفة هذا عاما على جميع الكتب في الأقطار التي فتحتها يد الاسلام قال صاحب ( كشف الظنون ) 1 ص 446 : إن المسلمين لما فتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين فكتب إليه عمر رضي الله عنه : أن اطرحوها في الماء ، فإن يكن ما فيها هدى ؟ فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه ، وإن يكن ضلالا ؟ فقد كفانا الله تعالى.
    فطرحوها في الماء أو في النار فذهبت علوم الفرس فيها.
    وقال في ج 1 ص 25 في أثناء كلامه عن أهل الاسلام وعلومهم : إنهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد.
    وقال ابن خلدون في تاريخه 1 ص 32 : فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الانساني متعددون ، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل ، فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح ؟.
    قال الأميني : ليس النظر في كتب الأولين على إطلاقه محظورا ولا سيما إذا كانت كتبا علمية أو صناعية أو حكمية أو أخلاقية أو طبية أو فلكية أو رياضية إلى أمثالها ، وأخص منها ما كان معزوا إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام كدانيال إن صحت النسبة ولم يطرقه التحريف ، نعم : إذا كان كتاب ضلال من دعاية إلى مبدء باطل ، أو دين منسوخ ، أو شبهة موجهة إلى مبادئ الاسلام يحرم النظر فيه للبسطاء القاصرين عن الجواب والنقد ، وأما من له منة الدفع أو مقدرة الحجاج فإن نظره فيه لإبطال الباطل وتعريف الناس بالحق الصراح من أفضل الطاعات.
    ولا منافاة بين كون القرآن أحسن القصص وبين أن يكون في الكتب علم ناجع ،
1 ـ راجع الكافي في تاريخ مصر 1 ص 208 ـ 210.

(302)
أو حكمة بالغة ، أو صناعة تفيد المجتمع ، أو علوم يستفيد بها البشر ، وإن كان ما في القرآن أبعد من ذلك مغزى ، وأعمق منتهى ، وأحكم صنعا ، غير أن قصر الأفهام عن مغازي القرآن الكريم ترك الناس لا يستنبطون تلك العلوم ، مع إخباتهم إلى إنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، فالمنع عن النظر في تلك الكتب جناية على المجتمع وإبعاد عن العلوم ، وتعزير الناظر فيها لا يساعده قانون الاسلام العام كتابا وسنة.
    والله يعلم ما خسره المسلمون بإبادة تلك الثروة العلمية في الاسكندرية وتشتيتها في بلاد الفرس من حضارة راقية ، وصنايع مستطرفة لا ترتبطان بهدى أو ضلال كما حسبه الخليفة في كتب الفرس ، ولا تناطان بموافقة الكتاب أو مخالفته كما زعمه في أمر مكتبة الاسكندرية العامرة ، وما كان يضر المسلمين لو حصلوا على ذلك الثراء العلمي ؟ فأوقفهم على ثروة مالية ، وبسطة في العلم ، وتقدم في المدنية ، ورقي في العمران ، وكمال في الصحة ، وكل منها يستتبع قوة في الملك ، وهيبة عند الدول ، وبذخا في العالم كله ، وسعة في أديم السلطة ، فهل يفت شئ من ذلك في عضد الهدى ؟ أو يثلم جانبا من الدين ؟ نعم أعقب ذلك العمل الممقوت تقهقرا في العلوم ، وفقرا في الدنيا ، وسمعة سيئة لحقت العروبة والاسلام ، وفي النقاد من يحسبه توحشا ، وفيهم من يعده من عمل الجاهلين ، ونحن نكل الحكم فيه إلى العقل السليم ، والمنطق الصحيح.
    على أن الخليفة كان يسعه أن ينتقي من هذه الكتب ما أوعزنا إليه مما ينجع المجتمع البشري ، ويتلف ما فيه الالحاد والضلال ، لكنه لم يفعل ومضى التاريخ كما وقعت القصة.
95
الخليفة والقراءات
    عن محمد بن كعب القرظي مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الآية ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) (1) فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ فقال : أبي بن كعب. فقال : لا تفارقني حتى
1 ـ سورة التوبة آية 100.

(303)
أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم.
    قال : لا سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : نعم ، قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا.
    وأخرج الحاكم وأبو الشيخ عن أبي سلمة ومحمد التيمي قالا مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ : والذين اتبعوهم بإحسان. بالواو ، فقال : من أقرأك هذه ؟ فقال : أبي.
    فأخذ به إليه فقال : يا أبا المنذر أخبرني هذا إنك أقرأته هكذا.
    فقال : أبي : صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فقال عمر : أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم.
    فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان : نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه.
    فخرج عمر رافعا يديه وهو يقول : الله أكبر ، الله أكبر.
    وفي لفظ من طريق عمر بن عامر الأنصاري : فقال أبي : والله أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تبيع الخيط.
    فقال عمر : نعم إذن فنعم ، إذن نتابع أبيا.
    وفي لفظ : قرأ عمر : والأنصار ( رفعا ) اللذين بإسقاط الواو نعتا للأنصار ، حتى قاله زيد بن ثابت : إنه بالواو فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا فرجع إليه عمر وقال : ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد وفي لفظ : فقال عمر : فنعم إذن نتابع أبيا.
    وفي لفظ الطبري : إذا نتابع أبيا.
    وفي لفظ : أن عمر سمع رجلا يقرأه بالواو فقال : من أقرأك ؟ قال : أبي.
    فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لتبيع القرظ بالبقيع.
    قال : صدقت وإن شئت قلت : شهدنا وغبتم ، ونصرنا وخذلتم ، وآوينا وطردتم ، ثم قال عمر : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا.
    راجع تفسير الطبري 1 ص 7 ، مستدرك الحاكم 3 ص 305 ، تفسير القرطبي 8 ص 238 ، تفسير ابن كثير 2 ص 383 ، تفسير الزمخشري 2 ص 46 ، الدر المنثور 3 ص 269 ، كنز العمال 1 ص 287 ، ذكر لفظ أبي الشيخ ثم حكاه عن جمع من الحفاظ ، وذكر تصحيح الحاكم إياه ، وفي ص 285 نقله عن أبي عبيد في فضائله وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، تفسير الشوكاني 2 ص 379 ، روح المعاني طبع المنيرية 1 ص 8.


(304)
    2 ـ أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى عمر فقال : أكلتنا الضبع.
    قال مسعر : يعني السنة قال : فسأله عمر ممن أنت ؟ فما زال ينسبه حتى عرفه فإذا هو موسى فقال عمر : لو أن لامرئ واديا أو واديين لابتغى إليهما ثالثا.
    فقال ابن عباس : ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب الله على من تاب.
    فقال عمر لابن عباس : ممن سمعت هذا ؟ قال : من أبي.
    قال : فإذا كان بالغداة فاغد علي قال : فرجع إلى.
    أم الفضل فذكر ذلك لها فقالت : ومالك وللكلام عند عمر ؟ وخشي ابن عباس أن يكون أبي نسي فقالت أمه : إن أبيا عسى أن لا يكون نسي ـ فغدا إلى عمر ومعه الدرة فانطلقنا إلى أبي فخرج أبي عليهما وقد توضأ فقال : إنه أصابني مذي فغسلت ذكري أو فرجي ـ مسعر شك ـ فقال عمر : أو يجزئ ذلك ؟ قال : نعم.
    قال سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم.
    قال : وسأله عما قال ابن عباس فصدقه.
    وفي المسند عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى عمر يسأله فجعل ينظر إلى رأسه مرة وإلى رجليه أخرى هل يرى عليه من البؤس شيئا ثم قال له عمر : كم مالك ؟ قال : أربعون من الإبل.
    قال ابن عباس : فقلت : صدق الله ورسوله : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
    فقال عمر : ما هذا ؟ فقلت : هكذا أقرأنيها أبي.
    قال : فمر بنا إليه قال : فجاء إلى أبي فقال : ما يقول هذا ؟ قال أبي : هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أفأثبتها ؟ فأثبتها.
    وفي المحكي عن أحمد : قال ( عمر ) : إذا أثبتها في المصحف ؟ قال : نعم.
    وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال : قلت : يا أمير المؤمنين إن أبيا يزعم إنك تركت من آيات الله آية لم تكتبها قال : والله لأسألن أبيا فإن أنكر لتكذبن فلما صلى صلاة الغداة غدا على أبي.
    فأذن له وطرح له وسادة وقال : يزعم هذا أنك تزعم أني تركت آية من كتاب الله لم أكتبها فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب فقال عمر : أفأكتبها ؟ قال : لا أنهاك.
    قال : فكأن أبيا شك أقول من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قرآن منزل ؟.
    راجع مسند أحمد 5 ص 117 ، كنز العمال 1 ص 279 نقلا عن أحمد ، وسعيد بن


(305)
منصور ، وأبي عوانة ، الدر المنثور 6 ص 378.
    3 ـ عن أبي إدريس الخولاني قال : كان أبي يقرأ : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية (1) ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام فأنزل الله سكينته على رسوله.
    فبلغ ذلك عمر فاشتد فبعث إليه فدخل عليه فدعا ناسا من أصحابه فيهم زيد ابن ثابت فقال : من يقرأ منكم سورة الفتح ؟ فقرأ زيد على قرائتنا اليوم فغلظ له عمر فقال أبي ، أأتكلم ؟ قال : تكلم.
    فقال : لقد علمت أني كنت أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ويقرئني وأنت بالباب ، فإن أحببت أن أقرئ الناس على ما أقرأني أقرأت وإلا لم أقرأ حرفا ما حييت ؟ قال : بل اقرأ الناس.
    وفي لفظ : فقال أبي : والله يا عمر إنك لتعلم أني كنت أحضر وتغيبون ، وأدعى وتحجبون ، ويصنع بي ، والله لئن أحببت لألزمن بيتي فلا أحدث أحدا بشئ ؟ راجع تفسير ابن كثير 4 ص 194 ، الدر المنثور 6 ص 79 حكاه عن النسائي والحاكم وذكر تصحيح الحاكم له ، كنز العمال 1 ص 285 نقلا عن النسائي وابن أبي داود في المصاحف والحاكم.
    ثم قال : وروى ابن خزيمة بعضه.
    4 ـ عن ابن مجلز قال : إن أبي بن كعب قرأ : من الذين استحق عليهم الأوليان (2) فقال عمر : كذبت.
    قال : أنت أكذب.
    فقال رجل : تكذب أمير المؤمنين ؟ قال : أنا أشد تعظيما لحق أمير المؤمنين منك ، ولكن كذبته في تصديق كتاب الله ، ولم أصدق أمير المؤمنين في تكذيب كتاب الله.
    فقال عمر : صدق.
    أخرجه ابن جرير الطبري وعبد بن حميد وابن عدي كما في الدر المنثور 2 ص 344 ، وكنز العمال 1 ص 285.
    5 ـ عن خرشة بن الحر قال : رأى معي عمر بن الخطاب لوحا مكتوبة فيه : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله (3) فقال : من أملى عليك هذا ؟ قلت : أبي بن كعب.
    قال : إن أبيا أقرأنا للمنسوخ قرأها فامضوا إلى ذكر الله.
    عن عبد الله بن عمر قال : ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا فامضوا إلى ذكر الله.
1 ـ سورة الفتح آية 26.
2 ـ سورة المائدة آية 107.
3 ـ سورة المائدة آية 9.


(306)
    عن إبراهيم قال : قيل لعمر : إن أبيا يقرأ : فاسعوا إلى ذكر الله.
    قال عمر : أبي أعلمنا بالمنسوخ كان يقرأها فامضوا إلى ذكر الله.
    أخرجه أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، وعبد الرزاق ، والشافعي ، والفرباني ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في السنن كما في الدر المنثور 6 ص 219 ، وكنز العمال 1 ص 285.
    6 ـ عن بجالة قال : مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم (1) وهو أب لهم. فقال : يا غلام حكها.
    قال : هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله فقال له أبي : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالاسواق. وأغلظ لعمر.
    أخرجه سعيد بن منصور ، والحاكم ، والبيهقي في السنن 7 : 69 ، والقرطبي في تفسيره 14 ص 126 ، وحكى عن الأولين في كنز العمال 1 ص 279.
    7 ـ قرأ أبي بن كعب : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا من تاب (2) فإن الله كان غفورا رحيما.
    فذكر لعمر فأتاه فسأله عنها قال : أخذتها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لك عمل إلا الصفق بالبيع.
    أخرجه ابن مردويه وعبد الرزاق كما في كنز العمال 1 ص 278.
    8 ـ عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة ؟ فإنا لم نجدها. قال : أسقط فيما أسقط من القرآن. أخرجه أبو عبيد كما في الاتقان 2 ص 42 ، وكنز العمال 1 ص 278.
    9 ـ عن ابن عباس وعدي بن عدي عن عمر إنه قال : إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم. أو : أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ثم قال لزيد بن ثابت : أكذلك ؟ قال : نعم.
1 ـ سورة الأحزاب آية 6.
2 ـ سورة النساء آية 22.


(307)
    أخرجه البخاري في صحيحه 10 ص 43. وأبو عبيد كما في الاتقان 2 ص 42 ،.
    10 ـ أخرج مالك والشافعي عن سعيد بن المسيب عن عمر في خطبة له قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة. فإنا قد قرأنا ها.
    وفي لفظ أحمد عن عبد الرحمن بن عوف : لولا أن يقول قائلون أو يتكلم متكلمون أن عمر رضي الله عنه زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت.
    وفي لفظ البخاري عن ابن عباس : إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى أن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فضيلة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو كان الاعتراف.
    وفي لفظ ابن ماجة عن ابن عباس : لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : ما أجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة من فرائض الله.
    ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل وقامت البينة أو كان حمل أو اعتراف وقد قرأتها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
    وفي لفظ أبي داود : وأيم الله لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها.
    وفي لفظ البيهقي : ولولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف ، فإني أخاف أن يأتي أقوام فلا يجدونه فلا يؤمنون به.
    راجع مسند أحمد 1 ص 29 ، 50 ، اختلاف الحديث للشافعي المطبوع هامش كتاب الأم له 7 ص 251 ، موطأ مالك 2 ص 168 ، صحيح البخاري 10 ص 43 ، صحيح مسلم 2 ص 33 ، صحيح الترمذي 1 ص 229 ، سنن الدارمي 2 ص 179 ، سنن ابن ماجة 2 ص 115 ، سنن أبي داود 2 ص 230 ، مسند الطيالسي ص 6 ، سنن البيهقي 8 ص 211 ـ 213 ، أحكام القرآن للجصاص 3 ص 317.
    قال الأميني : كل هذه تكشف عن انحسار علم الخليفة عن ترتيل القرآن الكريم


(308)
وإن هؤلاء المذكورين أعلم منه به ، وإنما ألهاه عنه الصفق بالاسواق ، أو بيع الخيط أو القرظة ، ولم يكن له عمل إلا الصفق بالبيع.
    ما بال الخليفة ـ وهو القدوة والأسوة في الكتاب والسنة ـ يتبع آراء الناس في كتاب الله ؟ ويمحو ويثبت في المصحف بقول أناس آخرين ؟ ولم يفرق بين الكتاب و السنة ؟ ويعير سمعه إلى هذا وذلك ؟ ويقبل من هذا قوله : أثبتها.
    ويصدق لآخر رأيه في إسقاط شئ من القرآن ، ويرى آيا محرفة من الكتاب تمنعه عن إدخالها فيه خشية قول القائلين وتكلم المتكلمين ، وهذا هو التحريف الذي يعزونه إلى الشيعة ، ويشنون به عليهم الغارات ، والشيعة عن بكرة أبيهم براء من تلكم الخزاية ، فقد أصفق المحققون منهم على نفي ذلك نفيا باتا كما أسلفناه في الجزء الثالث ص 101.
    وشتان بين من هذا شأنه وبين من قال فيه التابعي العظيم أبو عبد الرحمن السلمي القارئ المجع على ثقته وجلالته : ما رأيت ابن أنثى أقرأ لكتاب الله تعالى من علي.
    وقال أيضا : ما رأيت أقرأ من علي عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الذين حفظوه أجمع بلا شك عندنا (1). وقد مر بعض أحاديث علمه عليه السلام بالكتاب ص 193.
96
إجتهاد الخليفة في الأسماء والكنى
    1 ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب ابنا له تكنى أبا عيسى ، وإن المغيرة بن شعبة تكنى بأبي عيسى فقال له عمر : أما يكفيك أن تكنى بأبي عبد الله ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا عيسى فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنا في جلستنا (2) فلم يزل يكنى بأبي عبد الله حتى هلك.
    صورة أخرى :
    إن المغيرة استأذن على عمر فقال : أبو عيسى.
    قال : من أبو عيسى ؟ فقال : المغيرة بن شعبة.
    قال : فهل لعيسى من أب ؟ فشهد له بعض الصحابة إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكنيه بها.
    فقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غفر له وإنا لا ندري ما يفعل بنا وكناه أبا عبد الله
1 ـ طبقات القراء 1 ص 546 ، مفتاح السعادة 1 ص 351.
2 ـ وفي لفظ أبي داود : جلجننا.


(309)
    راجع سنن أبي داود 2 ص 309 ، سنن البيهقي 9 ص 310 ، الاستيعاب 1 ص 250 ، تيسير الوصول 1 ص 39 ، الكنى والأسماء للدولابي 1 ص 85 ، زاد المعاد لابن القيم 1 ص 262 ، نهاية ابن الأثير 1 ص 198 ، الإصابة 2 ص 413 ، ج 3 ص 453.
    2 ـ جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى تشكوه فقالت : يا أمير المؤمنين ! ألا تعذرني من أبي عيسى ؟ قال : ومن أبو عيسى ؟ قالت : ابنك عبيد الله.
    قال : ويحك ! وقد تكنى بأبي عيسى ؟ ودعاه وقال : أيها اكتنيت بأبي عيسى ؟ فحذر وفزع فأخذ يده فعضها حتى صاح ثم ضربه وقال : ويلك هل لعيسى أب ؟ أما تدري ما كنى العرب ؟ أبو سلمة. أبو حنظلة أبوعرفطة. أبو مرة. راجع شرح ابن أبي الحديد 3 ص 104 ، عمدة القاري 7 ص 143.
    3 ـ كان عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة : لا تسموا أحدا باسم نبي ، و أمر جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم المسمين بمحمد حتى ذكر له جماعة من الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في ذلك فتركهم. [ عمدة القاري 7 ص 143 ].
    4 ـ عن حمزة بن صهيب : إن صهيبا كان يكنى أبا يحيى ، ويقول : إنه من العرب ، ويطعم الطعام الكثير.
    فقال له عمر بن الخطاب : يا صهيب مالك تتكنى أبا يحيى وليس لك ولد ؟ وتقول إنك من العرب ، وتطعم الطعام الكثير ، وذلك سرف في المال فقال صهيب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا يحيى ، وأما قولك في النسب فأنا رجل من النمر بن قاسط من أهل الموصل ، ولكني سبيت غلاما صغيرا قد عقلت أهلي وقومي.
    وأما قولك في الطعام ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : أطعم الطعام ، ورد السلام.
    فذلك الذي يحملني على أن أطعم الطعام.
    وفي لفظ لأبي عمر : قال عمر : ما فيك شئ أعيبه يا صهيب ! إلا ثلاث خصال لولاهن ما قدمت عليك أحدا ، هل أنت مخبري عنهن ؟ فقال صهيب : ما أنت بسائل عن شئ إلا صدقتك عنه.
    قال : أراك تنسب عربيا ولسانك أعجمي ، وتتكنى بأبي يحيى اسم نبي ، وتبذر مالك.
    قال : أما تبذير مالي فما أنفقه إلا في حقه ، وأما اكتنائي بأبي يحيى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني بأبي يحيى أفأتركها لك ؟ وأما انتسابي إلى العرب فإن الروم سبتني صغيرا فأخذت لسانهم وأنا رجل من النمر بن قاسط لو انفلقت عني


(310)
روثة لانتسبت إليها.
    أخرجه أحمد في مسنده 6 ص 16 ، والحاكم في المستدرك 4 ص 288 ، وابن ماجة شطرا منه في سننه 2 ص 406 ، وأبو عمر في الاستيعاب في ترجمة صهيب ج 1 ص 315 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 8 ص 16.
    5 ـ سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا ينادي رجلا : يا ذا القرنين.
    قال : أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة ؟.
    راجع حياة الحيوان 2 ص 21 ، فتح الباري 6 ص 295.
    قال الأميني : تكشف هذه الروايات عن موارد من الجهل.
    1 ـ نهي الخليفة عن التسمية باسم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمره المسمين به بتغيير أسمائهم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمدا فقد جهل.
    (1) وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إذا سميتم محمدا فلا تضربوه ولا تحرموه.
    (2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه ، وأوسعوا له في المجلس ، ولا تقبحوا له وجها. طب 3 ص 91.
    وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله ليوقف العبد بين يديه يوم القيامة إسمه أحمد أو محمد فيقول الله تعالى له : عبدي أما استحيتني وأنت تعصيني وإسمك إسم حبيبي محمد.
    فينكس العبد رأسه حياء ويقول : أللهم إني قد فعلت ، فيقول الله عز وجل : يا جبريل خذ بيد عبدي وأدخله الجنة فإني أستحي أن أعذب بالنار من إسمه إسم حبيبي.
     (3) وقال صلى الله عليه وآله وسلم : من ولد له مولود فسماه محمدا حبا لي وتبركا بإسمي كان هو ومولوده في الجنة.
     (4) وقالت عائشة رضي الله عنها : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله
1 ـ أخرجه الطبري وابن عدي والهيثمي في مجمع الزوائد 8 ص 49 ، والسيوطي في الجامع الصغير في حرف الميم.
2 ـ مجمع الزوائد 8 ص 48 ، السيرة الحلبية 1 ص 89.
3 ـ المدخل لابن الحاج 1 ص 129.
4 ـ أخرجه ابن عساكر ، وذكره المناوي في فيض القدير 6 ص 237 ، والحلبي في السيرة النبوية 1 ص 89.
الغدير ـ الجزء السادس ::: فهرس