بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 21 ـ 30
(21)
والمقصود من الكلمتين في هذا العلم هو الطرق والمناهج العقائدية سواء أكانت حقّاً أم باطلاً.
2 ـ الصلة بين علم العقائد وعلم الملل والنحل
    وهناك اتّصال وثيق بين علم الكلام وعلم الملل والنحل ، ووزان علم الملل والنحل بالنسبة إلى علم العقائد والكلام ، وزان تاريخ العلم بالنسبة إلى العلم نفسه ، نظير الفلسفة وتاريخها ، فالفلسفة تطرح الموضوعات الفلسفية على بساط البحث ، فتقيم برهاناً على ما تتبنّاه بينما يشرح تاريخ الفلسفة المناهج الفكرية التي نجمت في فترات مختلفة ، من دون تركيز على رأي أو تبني عقيدة خاصة في كثير من الأحيان.
    ومثله علم الكلام بالنسبة إلى الملل والنحل ، فالأوّل يبحث عن المسائل العقائدية التي ترجع إلى المبدأ والمعاد وما يلحقهما من المباحث ويوجه عنايته إلى إثبات فكرة خاصة في موضوع معين ونقد الآراء المضادة له ، ولكن الثاني يطرح المناهج الكلامية المؤسسة طيلة قرون من دون أن يتحيز إلى منهج دون منهج غالباً ، وهمّه هو عرض هذه الأسّس الفكرية على روّاد الفكر والمعرفة.
    وإن شئت قلت : إنّ علم الملل والنحل يتعرّض للموضوعات الكلامية المبحوث عنها في علم الكلام ويشرحها ويعرض الآراء المختلفة حولها من دون القضاء بينها ، و أمّا علم الكلام فهو يتّخذ موضوعات خاصة للبحث ويبدي المؤلّف نظره الخاص فيها ويركز على رأيه بإقامة البرهان.
3 ـ قيمة الكتب المؤلّفة في هذا المضمار
    لا شكّ أنّ للكتب المؤلّفة في هذا المضمار ، مكانة في الأوساط العلمية وأنّ المؤلّفين في الملل والنحل قد تحمّلوا جهوداً كثيرة في الإحاطة بالمناهج الفكرية الرائجة في الملأ العلمي خصوصاً الأوائل منهم ، غير أنّه لا يمكن الاعتماد على هذه الكتب بصورة مطلقة ، وذلك لأنّا نرى أنّهم يذكرون فرقاً للشيعة الإمامية لم يسمع الدهر بأسمائها كما لم يسمع ب آراء أصحابها قط.


(22)
    فهذا إمام الأشاعرة يذكر للشيعة الغالية خمس عشرة فرقة ، وللشيعة الإماميّة أربعاً وعشرين فرقة ، وينسب إليهم القول بالتجسيم ، وغير ذلك من الآراء والعقائد السخيفة ، ويقسّم الزيدية إلى ست فرق ، وقد أخذ عنه من جاء بعده ممّن ألّف في هذا المجال.
    فإذا كان حاله وحال من نسج على منوال هـ كالبغدادي في « الفرق بين الفرق » والشهرستاني في « الملل النحل » في تلك المواضع التي نحن أعرف منهم بها ـ بهذا المنوال ، فكيف حالهم فيما ينقلونه عن سائر أصحاب الشرائع من اليهود والنصارى والمجوس والبراهمة والبوذيين وغيرهم؟! ولأجل ذلك يجب أن تكون نسبة القول إلى أصحابها مقرونة بالاحتياط والتثبّت والرجوع إلى مؤلّفات نفس الفرق.
    يقول المحقّق المعاصر الشيخ محمد زاهد الكوثري في تقديمه لكتاب « التبصير في الدين » : والعالم المحتاط لدينه لا ينسب إلى فرقة من الفرق ما لم يره في الكتب المردودة عليهم ، الثابتة عنهم أو في كتب الثقات من أهل العلم المتثبتين في عزو الأقاويل ، ولا يلزمهم إلاّ ما هو لازم قولهم لزوماً بيّناً لم يصرح قائله بالتبرّي من ذلك اللازم . (1)
    وقد تصفّحنا أكثر ما كتبه أحمد بن تيمية في « المسائل الكبرى » عن الشيعة وغيرهم وفي كتابه « منهاج السنّة » عن خصوص الشيعة ، فوجدناهما مليئين بالأخطاء ، لو لم نقل بالكذب والوضع.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه يقع الكلام في فصول :
1 ـ التبصير في الدين : 7.

(23)
الفصل الأوّل
افتراق الأُمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة
    روى أصحاب الصحاح والمسانيد ومؤلّفو الملل والنحل عن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « إنّ أُمّتي تفترق على ثلاث وسبعين فرقة » وقد اشتهر هذا الحديث بين المتكلّمين وغيرهم حتى الشعراء والأُدباء.
    وتحقيق الحديث يتوقّف على البحث في جهات أربع :
    1 ـ هل الحديث نقل بسند صحيح قابل للاحتجاج به ، أو لا؟
    2 ـ ما هو النصّ الصادر عن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في هذا المجال ، فإنّ نصوص الحديث في ذلك المجال مختلفة؟
    3 ـ ما هي الفرقة الناجية من هذه الفرق المختلفة ، فإنّ النبي قد نصّ على نجاة فرقة واحدة ، كما سيأتيك نصه؟
    4 ـ ما هي الفرق الاثنتان والسبعون التي أخبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بنشوئها من بعده؟ وهل بلغ عدد الفرق والطوائف الإسلامية إلى هذا الحدّ؟
    فإليك البحث في هذه الجهات الأربع :

أ. سند الحديث
    روي الحديث المذكور في الصحاح والمسانيد بأسانيد مختلفة ، و قد قام


(24)
الحافظ « عبد اللّه بن يوسف بن محمد الزيلقي المصري » ( المتوفّى 762 هـ ) بجمع أسانيده ومتونه في كتابه : « تخريج أحاديث الكشّاف » وقد اهتم فيه بهذا الحديث سنداً ومتناً ، إهتماماً بالغاً ، لم يسبقه إليه غيره ... .
    غير أنّ القضاء فيما جمعه من الأسانيد خارج عن مجال هذه الرسالة ، ولأجل ذلك نبحث فيه على وجه الإجمال ، فنقول :
    إنّ هاهنا من لا يعتقد بصحّة الحديث منهم : ابن حزم ، في كتابه : « الفصل في الأهواء والملل » قال : ذكروا حديثاً عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) « أنّ القدرية والمرجئة مجوس هذه الأُمة » وحديث آخر « تفترق هذه الأُمّة على بضع وسبعين فرقة كلّها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة » ( ثم قال : ) هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الأسناد ، وما كان هكذا فليس حجّة عند من يقول بخبر الواحد ، فكيف من لا يقول به. (1)
    وهناك من يعتقد بصحّة الاستدلال لأجل تضافر أسناده ، يقول محمد محيي الدين محقّق كتاب « الفرق بين الفرق » : اعلم أنّ العلماء يختلفون في صحّة هذا الحديث ، فمنهم من يقول إنّه لا يصحّ من جهة الأسناد أصلاً ، لأنّه ما من إسناد روي به إلاّ وفيه ضعف ، وكلّ حديث هذا شأنه لا يجوز الاستدلال به; ومنهم من اكتفى بتعدّد طرقه ، و تعدد الصحابة الذين رووا هذا المعنى عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ... . (2)
    وقد قام الحاكم النيشابوري برواية الحديث عن سند صحيح يرتضيه الشيخان قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سلمة العنزي ( ثنا ) عثمان بن سعيد الدارمي ( ثنا ) عمرو بن عون ووهب بن بقية الواسطيان ( ثنا ) خالد بن عبد اللّه ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أُمّتي
1 ـ الفصل في الأهواء والملل : 1/248.
2 ـ الفرق بين الفرق : 7 ـ 8 التعليقة.


(25)
على ثلاث وسبعين فرقة ».وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. (1)
    وقد استدرك عليه الذهبي بأنّ في سنده « محمّد بن عمرو » ولا يحتج به منفرداً ولكن مقروناً بغيره. (2)
    فإذا كان هذا حال السند الذي بذل الحاكم جهده لتصحيحه ، فكيف حال سائر الأسانيد؟! وقد رواه الحاكم بأسانيد مختلفة ، وقال : قد روي هذا الحديث عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، و عمرو بن عوف المزني بإسنادين تفرّد بأحدهما عبد الرحمن بن زياد الأفريقي ، والآخر كثير بن عبد اللّه المزني ، ولا تقوم بهما الحجّة. (3)
    هذا حال ما نقله الحاكم في مستدركه.
    وأمّا ما رواه أبو داود في سننه والترمذي في سننه ، وابن ماجة في صحيحه فقد قال في حقّه الشيخ محمد زاهد الكوثري : أمّا ما ورد بمعناه في صحيح ابن ماجة ، وسنن البيهقي ، وغيرهما ففي بعض أسانيده « عبد الرحمن بن زياد بن أنعم » وفي بعضها « كثير بن عبد اللّه » وفي بعضها « عباد بن يوسف » و « راشد بن سعد » و في بعضها « الوليد بن مسلم » و في بعضها مجاهيل كما يظهر من كتب الحديث و من تخريج الحافظ الزيلقي لأحاديث الكشاف ، وهو أوسع من تكلّم في طرق هذا الحديث فيما أعلم. (4)
    هذا بعض ما قيل حول سند الحديث ، والذي يجبر ضعف السند هو تضافر نقله واستفاضة روايته في كتب الفريقين : الشيعة والسنّة بأسانيد مختلفة ، ربما تجلب الاعتماد ، وتوجب ثقة الإنسان به.
1 ـ المستدرك على الصحيحين : 1/128 ، وقد رواه بسند آخر أيضاً يشتمل على محمد بن عمرو الذي لا يحتج بمفرداته ، وبسند آخر أيضاً مشتمل على ضعف ، وقد جعلهما الحاكم شاهدين لما صحّح من السند.
2 ـ التبصير في الدين : 9 ، المقدمة.
3 ـ المستدرك على الصحيحين : 1/128 ، كتاب العلم.
4 ـ التبصير : 9 ، المقدمة.


(26)
    وقد رواه من الشيعة ، الصدوق في خصاله في باب السبعين وما فوق. (1) والعلاّمة المجلسي في بحاره (2) ، ولعلّ هذا المقدار من النقل يكفي في صحّة الاحتجاج بالحديث.
ب. اختلاف نصوص الحديث
    هذه هي الجهة الثانية التي أشرنا إليها في مطلع البحث ، فنقول :
    إنّ مشكلة اختلاف نصوص الحديث لا تقل إعضالاً عن مشكلة سنده ، فقد تطرّق إليه الاختلاف من جهات شتى ، لا يمكن معه الاعتماد على واحد منها ، وإليك الإشارة إلى الاختلافات المذكورة :
1 ـ الاختلاف في عدد الفرق
    روى الحاكم عدد فرق اليهود والنصارى مردّداً بين إحدى وسبعين واثنتين وسبعين ، بينما رواه عبد القاهر البغدادي بأسانيده عن أبي هريرة على وجه الجزم والقطع ، وأنّ اليهود افترقت إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة.
    وفي الوقت نفسه روى بسند آخر افتراق بني إسرائيل على اثنتين وسبعين ملّة وقال : « ليأتين على أُمّتي ما أتى على بني إسرائيل ، تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملّة ، وستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة ».
    ونقل بعده بسند آخر افتراق بني إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة. (3)
    ويمكن الجمع بين النقلين الأخيرين بأنّ المراد من بني إسرائيل هو الأعم من اليهود والنصارى فيصحّ عدّ الفرق اثنتين وسبعين.
1 ـ الخصال : 2/584 ، أبواب السبعين ومافوق ، الحديث العاشر والحادي عشر.
2 ـ البحار : 28/2 ـ 36.
3 ـ الفرق بين الفرق : 5.


(27)
    نعم يحمل الأخير على خصوص اليهود من بني إسرائيل.
2 ـ الاختلاف في عدد الهالكين والناجين
    إنّ أكثر الروايات تصرّح بنجاة واحدة وهلاك الباقين. فعن البغدادي بسنده عن رسول اللّه أنّه قال : كلّهم في النار إلاّ ملّة واحدة. (1)
    وروى الترمذي وابن ماجة مثل ذلك. (2)
    بينما رواه شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر البشاري السياح المعروف ( المتوفّى 380 هـ ) في كتابه « أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم » بصورة تضاده إذ قال : إنّ حديث « اثنتان وسبعون في الجنة وواحدة في النار » أصحّ إسناداً ، وحديث « اثنتان وسبعون في النار وواحدة ناجية » أشهر. (3)
3 ـ الاختلاف في تعيين الفرقة الناجية
    فقد اختلف النقل في تعيين سمة الفرقة الناجية أخذاً بما يقول بأنّ جميعها في النار إلاّ واحدة.
    روى الحاكم (4) و عبد القاهر البغدادي (5) وأبو داود (6) و ابن ماجة (7) بأنّ النبي قال : إلاّ واحدة وهي الجماعة ، أو قال : الإسلام وجماعتهم.
    وروى الترمذي (8) والشهرستاني (9) أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عرف الفرقة الناجية بقوله : ما أنا عليه اليوم وأصحابي.
1 ـ المصدر نفسه : 76.
2 ـ سنن الترمذي : 5/26 ، كتاب الإيمان ، الحديث 2641;سنن ابن ماجة : 2/479 ، باب افتراق الأُمم.
3 ـ طبع الكتاب في ليدن ، عام 1324 هـ الموافق ل ـ 1906م.
4 ـ المستدرك على الصحيحين : 1/128.
5 ـ الفرق بين الفرق : 7.
6 ـ سنن أبي داود : 4/198 ، كتاب السنّة.
7 ـ سنن ابن ماجة : 2/479 ، باب افتراق الأُمم.
8 ـ سنن الترمذي : 5/26 ، كتاب الإيمان ، الحديث 2641.
9 ـ الملل والنحل : 13.


(28)
    وروى الحاكم أيضاً أنّ النبي حدّد أعظم الفرق هلاكاً بقوله : « ستفترق أُمّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة ، قوم يقيسون الأُمور برأيهم ، فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام » وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. (1)
    وروى صاحب روضات الجنات عن كتاب « الجمع بين التفاسير » أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عرف الفرقة الناجية بقوله : « هم أنا وشيعتي ». (2)
    هذه الوجوه تعكس مدى الاختلاف في تحديد ملامح الفرقة الناجية.
    وأمّا تحقيق القول في ذلك فسيوافيك عند البحث عن الجهة الثالثة ، وهي التالية :

ج. مَن هي الفرقة الناجية ؟
    هذه هي الجهة الثالثة التي ينبغي الاهتمام بها حتى يستطيع الباحث من تعيين الفرقة الناجية ، بها.
    قال الشيخ محمد عبده : أمّا تعيين أي فرقة هي الناجية ، أي التي تكون على ما كان النبي عليه وأصحابه ، فلم يتعيّن إلى الآن ، فإنّ كلّ طائفة ممّن يذعن لنبينا بالرسالة تجعل نفسها على ما كان عليه النبي وأصحابه. ( إلى أن قال : ) وممّا يسرني ما جاء في حديث آخر أنّ الهالك منهم واحدة. (3)
    أقول : ما ورد من السمات في تحديد الفرقة الناجية لا يتجاوز أهمّها عن سمتين :
    أولاها : « الجماعة » وهي تارة جاءت رمزاً للنجاة ، وأُخرى للهلاك ، فلا يمكن الاعتماد عليها ، وإليك بيان ذلك :
1 ـ المستدرك على الصحيحين : 4/430.
2 ـ روضات الجنات : 508 ، الطبعة القديمة.
3 ـ تفسير المنار : 8/221 ـ 222.


(29)
    روى ابن ماجة عن عوف بن مالك قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : افترقت اليهود ... والذي نفس محمد بيده لتفترقن أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار. قيل : يا رسول اللّه من هم؟ قال : الجماعة. (1)
    بينما نقل أنّه قال : « وإنّ هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين : ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة » (2) ، فإنّ الإتيان بضمير الجمع في الحديث الأوّل ، وبضمير المفرد في الحديث الثاني يؤيد رجوع الضمير في الأوّل إلى : « اثنتان وسبعون » ، ورجوع الضمير المفرد إلى « الواحدة » فتكون الجماعة تارة آية الهلاك وأُخرى آية النجاة.
    أضف إلى ذلك أنّ قسماً كبيراً من النصوص لا يشتمل على هذه اللفظة ، ولا يصحّ أن يقال إنّ الراوي ترك نقلها ، أو نسيها ، وذلك لأنّ ذكر سمة الناجي أو الهالك من الأُمور الجوهرية في هذا الحديث ، فلا يمكن أن يتجاهله أو ينساه.
    ومن ذلك تعلم حال ما اشتمل على لفظ « الإسلام » مع الجماعة ، فإنّه لا يزيد في مقام التعريف شيئاً على المجرد منه ، لوضوح أنّ الإسلام حقّ إنّما المهم معرفة المسلم الواقعي عن غيره.
    ثانيتها : « ما أنا عليه وأصحابي » ، أو « ما أنا عليه اليوم وأصحابي » ، كون هذا آية النجاة لا يخلو عن خفاء.
    أوّلاً : إنّ هذه الزيادة غير موجودة في بعض نصوص الرواية ، ولا يصحّ أن يقال إنّ الراوي ترك نقلها لعدم الأهمية.
    وثانياً : إنّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة إلاّ بقدر اهتدائهم
1 ـ سنن ابن ماجة : 2/479 ، باب افتراق الأُمم.
2 ـ سنن أبي داود : 4/198 ، كتاب السنّة; المستدرك على الصحيحين : 1/128.


(30)
واقتدائهم برسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وإلاّ فلو تخلّفوا عنه قليلاً أو كثيراً فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.
    وعلى ذلك فعطف ( وأصحابي ) على النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يخلو من غرابة.
    وثالثاً : إنّ المراد إمّا صحابته كلّهم ، أو الأكثرية الساحقة.
    فالأوّل : مفروض العدم لاختلاف الصحابة في مسالكهم ومشاربهم السياسية والدينية بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وأدلّ دليل على ذلك ما وقع من الخلاف في السقيفة وبعدها.
    والثاني : ممّا لا يلتزم به أهل السنّة ، فإنّ الأكثرية الساحقة من الصحابة خالفوا الخليفة الثالث ، وقد قتله المصريون والكوفيون في مرأى ومسمع من بقية الصحابة ، الذين كانوا بين مؤلّب ، أو مهاجم ، أو ساكت.
    على أنّ حمل أصحابي على الأكثرية خلاف الظاهر ، ويظن أنّ هذه الزيادة من رواة الحديث لدعم موقف الصحابة ، وجعلهم المحور الوحيد الذي يدور عليه فلك الهداية بعد النبي الأعظم ، والمتوقع من رسول الهداية هو أن يحدد الفرقة الناجية بسمات واضحة تستفيد منها الأجيال الآتية ، فإنّ كلّ الفرق يدّعون أنّهم على ما عليه النبي بل على ما عليه أصحابه أيضاً :
وكلّ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
    وأخيراً نقلنا عن الحاكم أنّه روى عن النبي قوله : « أعظمها فرقة قوم يقيسون الأُمور برأيهم » و يظن أنّ هذه الزيادة طرأت على الحديث من بعض الطوائف الإسلامية بين أهل السنّة ، طعناً في أصحاب القياس ، على حين أنّ القياس بمفهومه الأُصولي لم يكن أمراً معهوداً لأصحاب النبيّ حتى يكتفي النبي في تعيين الفرقة الهالكة بهذا الوصف غير المعروف في عصر صدور حديث الافتراق.
أحاديث حول مستقبل الصحابة
    إنّ الأحاديث المتضافرة عن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن مستقبل الصحابة
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس