بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 31 ـ 40
(31)
تصدّنا عن الأخذ بمسالكهم ومشاربهم وتمنعنا عن تصحيح ما ورد في ذيل بعض الروايات الماضية ، أعني قوله : « ما أنا عليه وأصحابي » وذلك لأنّ النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يخبر عن أحوالهم بعد رحلته ، وأنّهم سيحدثون في الدين أُموراً منكرة ، وبدعاً محرمة وأنّهم يرتدون عن الدين ولأجل ذلك يحلأون عن الحوض ويذادون عنه ، و قد روى هذه الأحاديث الشيخان ( البخاري ومسلم ) وغيرهما. وجمعها ابن الأثير في « جامع الأُصول » في الفصل الرابع عند البحث عن الحوض والصراط والميزان.
    وإليك بعض تلك الأحاديث :
    1 ـ أخرج الشيخان عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي; فيقال : إنّك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ».
    2 ـ أخرج الشيخان أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، أو قال من أُمّتي ، فيحلأون عن الحوض ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ».
    إلى غير ذلك من الروايات البالغ عددها إلى عشرة أحاديث وفي ضوء هذه الروايات لا يمكن الحكم بعدالة كلّ صحابي لمجرّد الصحبة ، للعلم بوجود الفسق والارتداد وإحداث البدع فيهم ، وهذا العلم الإجمالي يصدّنا عن تعديل كلّ صحابي وتصديقه.
    كما يصدنا عن القول بأنّ الأكثرية الساحقة من الصحابة إذا اتفقت على شيء يكون دليلاً على صدقه وصحته ، على أنّ هذا لا يدلّ على أنّ جميع الصحابة كانوا على هذا المنوال بل كان في الصحابة الثقات العدول ، والأخيار المتقون.
    وقد أشبعنا الكلام حول الصحابة من حيث العدالة. (1)
1 ـ سيوافيك البحث عن عدالة الصحابة عند تحليل عقائد أهل الحديث في هذا الجزء.

(32)
الفرقة الناجية في ضوء النصوص الأُخر
    لو أنّ شيخ الأزهر رجع إلى النصوص الأُخر للنبي الأكرم لتبيّن له الفرقة الناجية في كلام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فإنّ لنبي الرحمة كلمات في مواضع أُخر يشد بعضها بعضاً ، ويفسر بعضها البعض الآخر ، وإليك ما أثر عنه في تلك المجالات ممّا تعد قرائن منفصلة موضحة للحديث الحاضر.
1 ـ حديث الثقلين
    قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ». (1)
    روى إمام الحنابلة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب اللّه ، حبل ممدود ما بين السماء والأرض; وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ». (2)
    روى الحاكم في مستدركه عن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « إنّي أوشك أن أُدعى فأُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه عزّ وجلّ ، وعترتي; كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، فإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ». (3)
    والاختلاف الموجود بين نصوص الحديث غير مضر أبداً ، لأنّ النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نطق بهذا الحديث في مواضع مختلفة ، إذ في بعض الطرق أنّه قال ذلك في حجّة الوداع بعرفة ، وفي أُخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي ثالثة أنّه قال ذلك بغدير خم ، وفي رابعة أنّه
1 ـ رواه الترمذي والنسائي في صحيحهما راجع كنز العمال : 1/44 باب الاعتصام بالكتاب والسنّة.
2 ـ مسند أحمد بن حنبل : 5/182 ـ 189.
3 ـ مستدرك الحاكم : 3/148 ، وقال هذا صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.


(33)
قال ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف ، فقد كرر ذلك في تلك المواطن اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة. (1)
    والإمعان في هذا الحديث الذي بلغ من التواتر حدّاً لا يدانيه حديث ، إلاّ حديث الغدير ، يقود الإنسان إلى الحكم بضلال من لم يستمسك بهما معاً ، فالمتمسّكون بهما هم الفرقة الناجية ، والمتخلّفون عنهما ، أو المتقدّمون عليهما هم الهالكة.
    وقد نقل الطبراني قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في ذيل الحديث : « فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ». (2)
2 ـ حديث السفينة
    وهذا الحديث كالحديث السابق يعين على رفع الإبهام عن حديث « الافتراق ». روى الحاكم بسنده عن أبي ذر رضي اللّه عنه يقول ، وهو آخذ بباب الكعبة : « من عرفني فأنا من عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبوذر ، سمعت النبي يقول : ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم ، مثل سفينة نوح في قومه ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ». (3)
    والمراد بتشبيههم ( عليهم السَّلام ) بسفينة نوح هو أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأُصوله عن أئمّتهم ، نجا من عذاب النار ، ومن تخلّف عنهم كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه ، غير أنّ هذا غرق في الماء ، وهذا في الحميم.
    قال ابن حجر : و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم ، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان. (4)
1 ـ راجع المراجعات ، المراجعة 8 فقد نقله عن مواضع مختلفة.
2 ـ الصواعق المحرقة : 135 باب وصية النبي بهم.
3 ـ المستدرك على الصحيحين : 3/151.
4 ـ لقد علّق السيد شرف الدين في مراجعاته على هذه العبارة تعليقاً لطيفاً وهو : قل لي لماذا لم يأخذ بهدى أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ـ إلى أن قال : ـ ولماذا تخلّف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم وأهلكها في مفاوز الطغيان؟!


(34)
3 ـ حديث أهل بيتي أمان لأُمّتي
    روى الحاكم عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » ( ثمّ قال ) : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. (1)
    هذه الأحاديث تلقي الضوء على حديث الافتراق ، وتحدد الفرقة الناجية وتعيّنها.
    وهناك حديث آخر ورد في ذيل حديث الافتراق نقله أحد علماء أهل السنّة وهو الإمام الحافظ حسن بن محمد الصغاني ( المتوفّى 650 هـ ) في كتابه « الشمس المنيرة » عن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « افترقت أُمّة أخي عيسى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّها هالكة إلاّ فرقة واحدة ».
    فلمّا سمع ذلك منه ضاق المسلمون ذرعاً وضجّوا بالبكاء ، وأقبلوا عليه ، وقالوا : يا رسول اللّه كيف لنا بعدك بطريق النجاة؟ وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟
    فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي; إن اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ». (2)
    ولا أظن المنصف إذا رجع إلى ما ورد حول العترة من الأحاديث الحاثّة على الرجوع إليهم ، يخفى عليه مراد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من الفرقة الناجية في حديث الافتراق ، مضافاً إلى أنّ آية التطهير دالّة على عصمتهم ، فالمتمسك بالمعصوم مصون وبالخاطئ غير مصون بل يقع عرضة للانحراف والهلاك ، و للشافعي أبيات تعرب عن عرفانه الفرقة الناجية ذكرها الشريف الحضرمي في
1 ـ المستدرك على الصحيحين : 3/149.
2 ـ الشمس المنيرة ، النسخة المخطوطة في مكتبة المشهد الرضوي بالرقم 1706.


(35)
« رشفة الصادي ». (1)

د. الفرق التي أخبر النبي بنشوئها
    هذه هي الجهة الرابعة التي يليق البحث عنها ، فإنّ النبي قد أخبر عن أنّ الأُمّة الإسلامية ستبلغ في تفرّقها إلى هذا العدد الهائل ، ولكن المشكلة عدم بلوغ رؤوس الفرق الإسلامية إلى هذا العدد ، فإنّ كبار فرقها لا تتجاوز الأربع :
    الأوّل : القدرية ( المعتزلة وأسلافهم ).
    الثاني : الصفاتية ( أهل الحديث والأشاعرة ).
    الثالث : الخوارج.
    الرابع : الشيعة.
    وهذه الفرق الأصلية ، وإن تشعبت إلى شعب وفروع من مرجئة وكرامية بفرقها ، ولكن لا يبلغ المجموع إلى هذا الحد ، وإن أصرّ الشهرستاني على تصحيح البلوغ إليه ، فقال : ثمّ يتركب بعضها مع بعض ، ويتشعب عن كلّ فرقة أصناف ، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من أُمّتي هي الفرق الإسلامية المؤمنة برسالة النبي الأعظم ، وكتاب اللّه سبحانه ، وبلوغ تلك الأُمة بهذه الصفة إلى هذا الحد الهائل أوّل الكلام ، لأنّ المراد هو الاختلاف في العقيدة التي يدور عليها فلك الهلاك والنجاة.
    وأمّا الاختلاف في الأُصول والمعارف التي ليست مداراً للهداية والضلالة ، بل لا تعد من صميم العقائد الإسلامية ، فهو خارج عن إطار الحديث ، فاختلاف الأشاعرة والمعتزلة ، في وجود الواسطة بين الوجود
1 ـ رشفة الصادي : 25.
2 ـ الملل والنحل : 1/15.


(36)
والعدم ، وحقيقة الجسم والأكوان والألوان ، والجزء الذي لا يتجزأ ، والطفرة ، الذي أوجد فرقاً كلامية ، فلا يوجب دخول النار ، وإن كان الحقّ واحداً ، ولا يصحّ عدّ المعتقدين بها من الفرق المنصوص عليها في كلام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    وبعبارة واضحة : إنّ الفرق المذمومة في الإسلام هي أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية ، في مواضع تعد من صميم الدين كالتوحيد بأقسامه والعدل والقضاء والقدر ، والتجسيم والتنزيه ، والجبر والاختيار ، والهداية والضلالة و رؤية اللّه سبحانه وإدراك البشر له تعالى ، والإمامة والخلافة ، ونظائرها.
    وأمّا الاختلاف في سائر المسائل التي لا تمت إلى الدين بصلة ولا تمثل العقيدة الإسلامية فلا يكون المخالف والموافق فيها داخلاً في الحديث ، والحال أنّ كثيراً من الفرق الإسلامية يرجع اختلافهم إلى أُمور عقلية أو كونية ، ممّا لا يرتبط بالدين أو ما لا يسأل عنه الإنسان في حياته وبعدها ولا يجب الاعتقاد به.

محاولات لتصحيح العدد
    إنّ هناك محاولات لتصحيح مفاد الحديث من حيث العدد المذكور فيه ، نشير إليها فيما يلي :
    1 ـ هذا العدد الهائل كناية عن المبالغة في الكثرة ، كما في قوله سبحانه وتعالى : ( إِنْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُم ) . (1)
    يلاحظ عليه : أنّ هذه المحاولة فاشلة ، لأنّها إنّما تصحّ إذا ورد الحديث بصورة السبعين أو غيرها من العقود العددية ، فإنّ هذا هو المتعارف في مقام الكناية ولكن الوارد في الحديث هو غير ذلك.
1 ـ التوبة : 80.

(37)

    ترى أنّ النبي يركز في حقّ المجوس على عدد السبعين ، وفي حقّ اليهود على عدد الإحدى والسبعين وفي حقّ النصارى على اثنتين وسبعين ، وفي حقّ الأُمّة الإسلامية على ثلاث وسبعين. وهذاالتدرّج يعرب بسهولة عن أنّ المراد هو بلوغ الفرق إلى هذا الحدّ ، بشكل حقيقي لا بشكل مبالغي.
    2 ـ إنّ أُصول الفرق وإن كانت لا تصل إلى هذا العدد بل لا تبلغ نصفه ولا ربعه ، وإنّ فروع الفرق يختلف العلماء في تفريعها ، وإنّ الإنسان في حيرة حين يأخذ في العد ، بأن يعتبر ـ في عدّ الفرق ـ أُصولها أو فروعها ، وإذا استقر رأيه على اعتبار الفروع ، فعلى أيّ حدّ من التفريع يأخذه مقياساً ، إلاّ أنّ الحديث لا يختص بالعصور الماضية ، فإنّ حديث الترمذي يتحدث عن افتراق أُمّة محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأُمّته مستمرة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، فيجب أن يتحدث في كلّ عصر عن الفرق التي نجمت في هذه الأُمّة من أوّل أمرها إلى الوقت الذي يتحدث فيه المتحدث ، ولا عليه إن كان العدد قد بلغ ما جاء في الحديث أو لم يبلغ ، فمن الممكن بل المقطوع ـ لو صحّ الحديث ـ وقوع الأمر في واقع الناس على وفق ما أخبر به. (1)
    وهناك محاولة ثالثة غير صحيحة جدّاً وهي الاهتمام بتكثير الفرق ، فترى أنّ الإمام الأشعري يجعل للشيعة الغالية خمس عشرة فرقة ، وللشيعة الإمامية أربعاً وعشرين فرقة ، كما أنّ الشهرستاني يعدّ للمعتزلة اثنتي عشرة فرقة ، ويعدّ للخوارج الفرق التالية : المحكمة ، الأزارقة ، النجدات ، البيهسية ، العجاردة ، الثعالبة ، الأباضية ، الصفرية.
    وذلك لأنّ الجميع من أصناف الشيعة والمعتزلة والخوارج يلتقون تحت أُصول خاصة معلومة في محلها ، مثلاً أصناف الخوارج يجتمعون تحت أُصول أشهرها تخطئة عثمان والإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) في مسألة التحكيم ، وتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار. فلا يصحّ عدّ كلّ صنف فرقة ، وإن اختلف كلّ مع شقيقه في أمر جزئي ، ومثل ذلك أصناف الآخرين.
1 ـ مقدّمة الفرق بين الفرق : 7.

(38)

    ثمّ إنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي ، ذهب إلى عدم صحّة الحديث للأسباب التالية :
    أوّلاً : إنّ ذكر هذه الأعداد المحددة المتوالية : 71 ، 72 ، 73 أمر مفتعل لا يمكن تصديقه فضلاً عن أن يصدر مثله عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    ثانياً : إنّه ليس في وسع النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أن يتنبأ مقدماً بعدد الفرق التي سيفترق إليها المسلمون.
    ثالثاً : لا نجد لهذا الحديث ذكراً فيما ورد لنا من مؤلفات من القرن الثاني بل ولا الثالث الهجري ولو كان صحيحاً لورد في عهد متقدّم.
    رابعاً : أعطت كلّ فرقة لختام الحديث ، الرواية التي تناسبها ، فأهل السنّة جعلوا الفرقة الناجية هي أهل السنّة ، والمعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة ، وهكذا وقال :
    وقد ظهر التعسّف البالغ لدى مؤرّخي الفرق في وضعهم فروقاً وأصنافاً داخل التيارات الرئيسية حتى يستطيعوا الوصول إلى 73 فرقة ، وفاتهم أنّ افتراق المسلمين لم ينته عند عصرهم ، وأنّه لا بدّ ستنشأ فرق جديدة باستمرار ممّا يجعل حصرهم هذا خطأ تماماً ، إذ لا يحسب حساباً لما سينشأ بعد ذلك من فرق إسلامية جديدة. (1)
    ولا يخفى أنّ ما ذكره من الأسباب غير صحيح عدا ما ذكره من السبب الرابع وما ذيله به.
    أمّا دليله الأوّل ، فلأنّ ما جاء فيه هو نفس المدّعى ولم يبيّن وجهاً لافتعال الحديث.
    وأمّا دليله الثاني ، فلأنّ المتبادر منه أنّه ليس في وسع النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) التنبّؤ بالأحداث الآتية ، ولكنّه باطل بشهادة الصحاح والسنن على تنبوّئه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بإذن اللّه عن كثير من الحوادث الواقعة في أُمّته ، وقد جمعنا
1 ـ مذاهب الإسلاميين : 1/34.

(39)
عدّة من تنبّوئه في موسوعتنا : مفاهيم القرآن. (1)
    وربما يريد الكاتب من عبارته معنى آخر ، وهو أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يصح له أن يقدم على مثل هذا التنبّؤ ، لأنّه إقدام غير مرغوب فيه ، لما يحتوي على الإضرار بالأُمّة ، ولكن هذا الرأي منقوض أيضاً بتنبّؤات أُخرى تضاهي المورد هذا ، فهذا هو النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يتنبّأ بالمستقبل المظلم الذي يواجهه ذو الخويصرة من وجوه الخوارج الذي أتي النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) و هو يقسمالغنائم بعد منصرفهم من حنين فقال للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : يا رسولاللّه اعدل ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ويلك من يعدل إن لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أعدل » ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه ائذن لي فيه أن أضرب عنقه؟
    قال : « دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يرمق السهم من الرميّة ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ». (2)
    فأي فرق بين هذا التنبّؤ ونظائره الواردة في أحاديث النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، والتنبّؤ بافتراق أُمّته إلى الفرق المعدودة؟
    وأمّا دليله الثالث ، فعجيب جداً ، فقد رواه أبو داود ( 202 ـ 275 هـ ) في سننه ، والترمذي ( 209 ـ 279 هـ ) في صحيحه ، وابن ماجة ( 218 ـ 276 هـ ) في سننه ، وأحمد بن حنبل ( 241 هـ ) في مسنده ، والجميع من أعيان أصحاب الحديث في القرن الثالث ، فكيف يقول هذا الكاتب : « بل ولا الثالث الهجري »؟! وإليك بعض ما أسندوه :
    1 ـ روى أبو داود في كتاب السنة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه : افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرّقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ».
    ثمّ روى عن معاوية بن أبي سفيان أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قام فينا فقال : « ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ،
1 ـ مفاهيم القرآن : 3/503 ـ 508.
2 ـ التاج : 5/286 ، كتاب الفتن.


(40)
وإنّ هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين : ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة ». (1)
    2 ـ روى الترمذي في باب ما جاء في افتراق هذه الأُمّة مثله ، عن أبي هريرة. و روى عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ليأتين على أُمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أُمّه علانية ، لكان في أُمّتي من يصنع ذلك ، وإنّ بني إسرائيل تفرّّقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلّهم في النار إلاّ ملّة واحدة » قالوا : ومن هي يا رسول اللّه؟ قال : « ما أنا عليه وأصحابي ». (2)
    3 ـ روى ابن ماجة في باب افتراق الأُمم عن أبي هريرة قال : « قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ».
    وروى عن عوف بن مالك قال : قال رسول اللّه : « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنةو سبعون في النار; وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة; والذي نفس محمد بيده لتفترقنّ أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار » قيل : يا رسول اللّه : من هم؟ قال : « الجماعة ».
    وروى عن أنس بن مالك ما يقرب من ذلك. (3)
    4 ـ وروى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة ما نقلناه عنه آنفاً. (4)
    كما روى أيضاً عن أنس بن مالك ما رويناه عنه سابقاً. (5)
    وعلى كلّ تقدير فلا يهمنا البحث حول عدد الفرق وكثرتها و قلّتها ، بل
1 ـ سنن أبي داود : 4/198 ، كتاب السنّة.
2 ـ سنن الترمذي : 5/26 ، كتاب الإيمان ، الحديث 2641.
3 ـ سنن ابن ماجة : 2/479 ، باب افتراق الأُمم.
4 ـ مسند أحمد : 2/332.
5 ـ مسند أحمد : 3/120.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس