بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 91 ـ 100
(91)
وهب بن منبه والتركيز على القدر
    وليته اكتفى بهذا المقدار ولم يلعب بعقيدة المسلمين ولم ينشر نظرية الجبر التي لو ثبتت لما بقيت للشرائع دعامة ، ويظهر من تاريخ حياته أنّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان ، حتّى المشيئة الظلية التي لولاها لبطل التكليف ولغت الشريعة.
    روى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال : سمعنا وهب بن منبه قال : كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كلّها : من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر ، فتركت قولي. (1)
    والمراد من القدر في قوله : « كنت أقول بالقدر » ليس القول بتقدير اللّه سبحانه وقضائه ، بل المراد هو القول بالاختيار والمشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه ، وهذا النقل يعطي أنّ القول بنفي القدر والمشيئة للإنسان ، قد تسرب إلى الأوساط الإسلامية ، عن طريق هذه الجماعة وعن الكتب الإسرائيلية. أفيصح بعد هذا أن نعدّ القول بنفي المشيئة عقيدة جاء بها القرآن والسنة النبوية ، ونكفّر من قال بالمشيئة للإنسان ولو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه ، ونقاتل في سبيل هذه العقيدة؟!

3 ـ تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير
    الإسرائيليات المبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ ترجع أُصولها إلى رجال الكنائس والبيع ، وقد تعرّفت على اثنين منهم وهما كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وثالثهم هو تميم الداري وله دور كبير في بثّها حيث إنّه أوّل من تولى نشر هذه الأساطير ، وقد حدّث عنه علماء الرجال والتراجم وأطبقوا على أنّه كان نصرانياً قدم المدينة فأسلم في سنة 9 هجرية ، وله من الأوّليات أمران :
1 ـ ميزان الاعتدال : 4/353.

(92)
    1 ـكان أوّل من أسرج في المسجد.
    2 ـ أوّل من قصّ بين المسلمين ، واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً ، فأذن له. (1) وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان. (2)
    هذا ما اتّفقت عليه الكتب الرجالية ، ويستنتج منها ما يلي :
    إنّ الرجل كان قصّاصاً في المدينة يوم لم يكن هناك من يعارضه ويكافئه ، وبما أنّ الرجل كان قد قضى شطراً من عمره بين الأحبار والرهبان ، فمن الطبيعي أن يقوم بقص كلّ ما تعلّمه من أساتذته من الإسرائيليات والأساطير المسيحية وبثّها بين المسلمين وهم يأخذونها منه زاعماً أنّها حقائق راهنة.
    ومن المؤسف أنّ السياسة الحاكمة سمحت لهذا الكتابي الذي أسلم في أُخريات حياة الرسول بأن يتحدّث عن الأُمم السالفة والأنبياء السابقين. وفي الوقت نفسه منعت عن التحدّث عن رسول اللّه ونشر كلامه وتدوينه ، بحجة واهية قد تعرّفت عليها.
    أو ليس النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم » على ما رواه أبو هريرة حيث إنّه قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا باللّه وما أُنزل إليكم ». (3)
    وإذا كان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمرنا بعدم تصديق هؤلاء القصّاصين من أهل الكتاب ، فما فائدة نقل هذه القصص وبثها بين المسلمين وإتلاف عمر الشباب والكهول بالاستماع إليها؟!
1 ـ كنز العمال : 1/281 الرقم 29448.
2 ـ الإصابة : 1/189 الاستيعاب في هامش الإصابة; أُسد الغابة : 1/215 وغيرها من المصادر.
3 ـ صحيح البخاري : 9/111 ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة.


(93)
    ولكن ابن عباس يقول أشد مما نقله أبو هريرة : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء؟ وكتابكم الذي أُنزل على رسول اللّه أحدث الكتب تقرأونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أنّ أهل الكتاب بدّلوا كتاب اللّه وغيّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً؟!
    ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! لا واللّه ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أُنزل إليكم. (1)
    إنّ ابن عباس الذي هو وليد البيت النبوي أعرف بسنّة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من أبي هريرة ، فهو ينهى عن السؤال والاستماع إلى كلماتهم بالمرة.
    وبذلك يعلم أنّ ما أسند إلى النبي في المسانيد من القول : « حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ». (2) إمّا موضوع ، أو مؤوّل محمول على ما علم من صدق الكلام.

طعن الشيطان لكلّ بني آدم إلاّ عيسى
    إذا كان كعب الأحبار و زميله وهب بن منبه والمتقدّم عليهما تميم الداري ، هم القصّاصون في المجتمع الإسلامي والمتحدّثون عن التوراة والإنجيل ، وكانت الصحابة ممنوعة عن التحدث عن النبي فمن الطبيعي أن ينتشر في العواصم الإسلامية الأساطير الخرافية حتى ما يمس بكرامة الأنبياء وكرامة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). وهذا البخاري ينقل في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال النبي : كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه باصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب. (3)
1 ـ أضواء على السنّة المحمدية : 154 ـ 155 ، نقلاً عن البخاري من حديث الزهري.
2 ـ مسند أحمد : 3/46.
3 ـ صحيح البخاري : 4/125 ، باب صفة إبليس وجنوده; و 4/164 ، كتاب بدء الخلق.


(94)
    وقد نقله أحمد في مسنده باختلاف يسير. ومعنى هذا الحديث الذي ينقله عن ذلك الصحابي عن الرسول : أنّ الشيطان يطعن كلّ ابن آدم إلاّ واحداً منه وهو عيسى بن مريم ، وأمّا الأنبياء كموسى ونوح وإبراهيم وحتى خاتمهم ، لم يسلموا من طعن الشيطان. أو ليس ذلك الحديث يخالف كتاباللّه حيث يقول : ( إِنّ عِبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِين ) (1) ؟!
    فإذن ، كيف يمكن أن يقول النبي ذلك و قدأُوحي إليه أنّه ليس للشيطان سلطان على عباد اللّه المخلصين (2) وخيرهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدّمهم نبي العظمة؟! ومن المحتمل جداً أنّ هذا الخبر وصل إلى أبي هريرة من رواة عصره ، نظراء كعب الأحبار أو زميله تميم الداري وأضرابهما وقد نسبوه إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). إنّ هذا الحديث ونظائره أوجد مشاكل في الدين وأعطى حججاً بأيدي المخالفين حتى يهاجموا الرسول الأكرم والأنبياء ، ويزعموا بأنّهم سقطوا في الخطيئة واقترفوا الآثام ، إلاّعيسى بن مريم فإنّه أرفع من طبقة البشر وإنّه وحده قد استحقّ العصمة والصون من الآثام.
    فهؤلاء المحدّثون لو فرض أنّهم صادقون في نيّاتهم ، لكنّهم كالصديق الجاهل أضروا بالإسلام بنقل هذه القصص والأساطير وأيّدوا العدو بها وأتعبوا المسلمين من بعدهم.

تميم الداري وقصة الجساسة
    إنّ لتميم الداري حديثاً معروفاً باسم حديث الجساسة ، نقله مسلم في الجزء الثامن من صحيحه تجد فيه من الغرائب ما تندهش منها العقول.
    روي عن فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس ـ وكانت من المهاجرات الأُول ـ : سمعت نداء المنادي ( منادي رسول اللّه ) ينادي :
1 ـ الحجر : 42.
2 ـ النحل : 99 والحجر : 42.


(95)
الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد فصلّيت مع رسول اللّه ، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى رسول اللّه صلاته جلس على المنبر وهو يضحك ، فقال : ليلزم كلّ إنسان مصلاّه.
    ثمّ قال : أتدرون لم جمعتكم؟
    قالوا : اللّه ورسوله أعلم.
    قال : إنّي واللّه ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأنّ تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدّثني حديثاً وافق الذي كنت أُحدثكم عن مسيح الدجال ، حدّثني أنّه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهراً في البحر ، ثمّ أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس ، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك ما أنت؟
    فقالت : أنا الجسّاسة.
    قالوا : وما الجسّاسة؟ قالت : أيّها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق.
    قال : لما سمّت لنا رجلاً فزعنا منها أن تكون شيطانة. قال : فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير ، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك ما أنت؟
    قال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم؟
    قالوا : نحن أُناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم ، فلعب بنا الموج شهراً ثمّ أرفأنا إلى جزيرتك هذه ، فجلسنا في أقربها ، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا : ويلك ما أنت؟ قالت : أنا الجسّاسة. قلنا : وما الجسّاسة؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنّه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعاً وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة.
    فقال : أخبروني عن نخل بيسان. قلنا : عن أي شأنها تستخبر؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر؟
    قلنا له : نعم. قال : أمّا إنّه يوشك أن لا يثمر. قال : أخبروني عن بحيرة الطبرية.
    قلنا : عن أي شأنها تستخبر؟ قال : هل فيها ماء؟
    قالوا : هي كثيرة الماء. قال : أما إنّ ماءها يوشك أن يذهب.
    قال : أخبروني عن عين زغر. قالوا : عن أي شأنهاتستخبر؟
    قال : هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين؟
    قلنا له : نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها.
    قال : أخبروني عن نبي الأُميّين ما فعل؟
    قالوا : قد


(96)
خرج من مكة ونزل يثرب.
    قال : أقاتله العرب؟
    قلنا : نعم.
    قال : كيف صنع بهم؟فأخبرناه أنّه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه.
    قال لهم : قد كان ذلك؟
    قلنا : نعم. أما إنّ ذاك خير لهم أن يطيعوه وإنّي مخبركم عنّي إنّي أنا المسيح وإنّي أوشك أن يؤذن لي في الخروج ، فأخرج فأسير في الأرض ، فلا أدع قرية إلاّ هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرّمتان عليّ كلتاهما ، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها وإنّ على كل نقب منها ملائكة يحرسونها.
    قالت : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : وطعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة ، هذه طيبة ، هذه طيبة ، يعني : المدينة ، ألا هل كنت حدّثتكم ذلك؟
    فقال الناس : نعم ، فإنّه أعجبني حديث تميم إنّه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ألا إنّه في بحر الشام أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ، ما هو. وأومأ بيده إلى المشرق. قالت : فحفظت هذا من رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). (1)
    وقد علّق المحقّق المصري أبو رية على هذا الحديث وقال : لعل علماء الجغرافية يبحثون عن هذه الجزيرة ويعرفون أين مكانها من الأرض ، ثمّ يخبروننا حتى نرى ما فيها من الغرائب التي حدثنا بها سيدنا تميم الداري ؟!! (2)
    وأعجب منه أن يحدث نبي العظمة الذي يقول سبحانه في حقّه : ( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظيماً ). (3) عن تميمم الداري ويستشهد بكلام نصراني دخل في الإسلام حديثاً ، ونعم ما قال شاعر المعرة :
    فيا موت زر إنّ الحياة ذميمة.
1 ـ صحيح مسلم : 8/203 ـ 205 ، باب في الدجّال.
2 ـ أضواء على السنة النبويّة : 171.
3 ـ النساء : 113.


(97)
4 ـ ابن جريج الرومي ورواية الموضوعات
    عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي ، ولاؤه لآل خالد بن أسيد الأموي ، ولد سنة 80 وتوفّي عام 150 ، قال أحمد بن حنبل : كان من أوعية العلم وهو وابن أبي عروبة أوّل من صنف الكتب ، وقال عبد الرزاق : كان ابن جريج ثبتاً لكنّه يدس. (1)
    ونقل الذهبي أيضاً عن عبد اللّه بن حنبل قال : « إنّ بعض هذه الأحاديث الذي يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها ». (2)
    نعم ، روى الكليني بسنده عن الفضل الهاشمي ، قال : سألت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) عن المتعة فقال : « الق عبد الملك ابن جريج ، فسله عنها ، فإنّ عنده منها علماً ، فلقيته ، فأملى علي شيئاً كثيراً في استحلالها ، وكان فيما روى لي فيها ابن جريج أنّه ليس فيها وقت ولا عدد ، وإنّما هي بمنزلة الإماء ، يتزوج منهن كم شاء ، وصاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء ، بغير ولي ولا شهود ، فإذا انقضى الأجل ، بانت منه بغير طلاق ، ويعطيها الشيء اليسير ، وعدتها حيضتان ، وإن كانت لا تحيض فخمسة وأربعون يوماً. قال : فأتيت بالكتاب أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) ، فقال : « صدق ». وأقر به. (3)
    ولعلّ إرجاع الإمام ( عليه السَّلام ) سائله إليه ، لأجل اعترافه بالحق في تلك المسألة ، وليس هذا دليلاً على وثاقته مطلقاً.

حصيلة البحث
    إنّ هذه العصابة التي أتينا بأسمائهم وذكرنا عنهم شيئاً ، كانوا هم الأُسس في تسرب القصص الخرافية لليهود و المسيحيين إلى متون كتب المسلمين وصارت
1 ـ تذكرة الحفاظ : 1/169 ـ 171.
2 ـ ميزان الاعتدال : 2/659.
3 ـ الوسائل : 14 ، كتاب النكاح ، الباب 4 من أبواب المتعة ، الحديث 8.


(98)
نواة لكثير من القصّاصين والوضّاعين الذين نسجوا على منوالهم ونقلوا كلّ ما سمعوه من غث وسمين باسم الدين ، ولأجل ذلك نجد كثيراً من كتب التفسير والتاريخ والحديث حتى ما يسمّى بالصحاح والمسانيد ، مملوءة بالإسرائيليات والمسيحيات بل والمجوسيات.
    يقول « جولد تسيهر » في هذا المضمار في كتابه « العقيدة والشريعة » : هناك جمل أخذت من العهد القديم والعهد الجديد وأقوال للربانيّين ، أو مأخوذة من الأناجيل الموضوعة وتعاليم من الفلسفة اليونانية ، وأقوال من حكم الفرس والهنود ، كلّ ذلك أخذ مكانه في الإسلام عن طريق الحديث ـ إلى أن قال ـ : ومن هذا الطريق تسرب كنز كبير من القصص الدينية حتى إذا ما نظرنا إلى الرواة المعدودة من الحديث ونظرنا إلى الأدب الديني اليهودي ، فإنّنا نستطيع أن نعثر على قسم كبير دخل الأدب الديني الإسلامي من هذه المصادر اليهودية. (1)
    نحن لا نصدق هذا المستشرق الحاقد على الإسلام في كلّ ما يقول ويقضي ، إلاّ أنّنا نوافقه في أنّ ما يؤثر عن أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وتميم الداري ، وعبد الملك بن جريج وغيرهم ، من الإسرائيليات ، ليس من صلب الإسلام وحديثه. والعجب أنّ هذه الجماعة لم تتمكن من إخفاء نواياها السيئة ، فترى أنّ اليهودي منهم ينقل فضائل موسى ويرفعه فوق جميع الأنبياء ، كما أنّ النصراني منهم أخذ يرفع مقام المسيح ( عليه السَّلام ) على جميعهم ويصفه بالعصمة وحده دون غيرهم.
    نعم ليس كلّ ما ورد في الشريعة الإسلامية ووافق التعاليم اليهودية والنصرانية ، مأخوذاً من كتبهم لأنّ الشرائع السماوية واحدة في جوهرها متحدة في أُصولها ، وبينها مشتركات كثيرة والاختلاف إنّما هو في الشرعة والمنهاج لا في الجوهر واللباب ، قال سبحانه : ( لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرعَةً وَمِنْهاجاً ) . (2)
1 ـ العقيدة والشريعة في الإسلام تأليف المستشرق « جولد تسيهر » ترجمة الأساتذة الثلاثة.
2 ـ المائدة : 48.


(99)
    فالاختلاف إنّما هو في الطرق الموصلة إلى ماء الحياة ، أعني : الأُصول والتعاليم السماوية النازلة من مصدر الوحي. فلو كان هناك اختلاف فإنّما هو في القشور والأثواب ، لا في الجوهر واللباب. وقد فصلنا الكلام في ذلك في « مفاهيم القرآن ». (1)
خاتمة المطاف
    وأخيراً نقول : إنّ المتظاهرين بالإسلام من الأحبار والرهبان الذين كان لهم دور كبير في بثّ الإسرائيليات وتكوين المذاهب ، ليسوا منحصرين في من ذكرناهم ، بل هناك جماعة منهم لعبوا دوراً في هذا المضمار يجد المتتبع أسماءهم ويقف على أقوالهم في كتب الرجال والتراجم والروايات والأحاديث ، كعبد اللّه بن سلام الذي أسلم في حياة النبي ، وطاووس بن كيسان الخولاني ، الحمداني بالولاء من التابعين ، ولد عام 33 وتوفّي عام 106 ، وغيرهم ممّن تركنا البحث عنهم اختصاراً.
    ولإتمام البحث نأتي بنص بعض المحقّقين في ذاك المجال وهي كلمة للدكتور « رمزي نعناعة » حول الإسرائيليات ، قال : تسرب كثير من الإسرائيليات عن طريق نفر من المسلمين أنفسهم أمثال : عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، فقد روي أنّه أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب يوم اليرموك ، فكان يحدّث الناس ببعض ما فيها اعتماداً على حديث مروي. (2)
    وعن هؤلاء المفسرين الذين لا يتورّعون عن تفسير القرآن بمثل هذه الخيالات والأوهام يقول النظام : لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كلّ مسألة ، فإنّ كثيراً منهم يقول بغير رواية من أساس ، وليكن عندكم عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر
1 ـ مفاهيم القرآن : 3/119 ـ 124.
2 ـ وهو قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : حدّثوا عني ... ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. مسند أحمد : 3/46.


(100)
الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم. (1)
    وقال أيضاً حول قصة آدم وحواء : ونقرأ تفسير الطبري وتفسير مقاتل بن سليمان في هذه القصة فيتجلّى لنا بوضوح انّهما أخذا ما جاء في التوراة وشروحها من تفصيل لهذه القصة ، ووضعوه تفسيراً لآيات القرآن الكريم وهم يروون ذلك عن وهب بن منبه تارة ، وعن إسرائيل عن أسباط عن السدي تارة أُخرى. (2) ومثلاً نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت في الإنجيل كقصة ولادة عيسى بن مريم ومعجزاته ، فجاء المفسرون ينقلون عن مسلمة اليهود والنصارى شروحاً لهذه الآيات. (3)
    وقال أيضاً : ولم يقتصر تأثير الإسرائيليات على كتب التفسير ، بل تعدّاها إلى العلوم الإسلامية الأُخرى ، فقد عني بعض المسلمين بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم كما فعل أبو إسحاق والطبري في تاريخيهما وكما فعل ابن قتيبة في كتاب المعارف ... كذلك كان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الكلامية ، فابن الأثير يروي عند الكلام على « أحمد بن أبي دؤاد » أنّه كان داعية إلى القول بخلق القرآن ، وأخذ ذلك عن بشر المريسي وأخذ بشر من الجهم بن صفوان ، وأخذ الجهم من الجعد بن أدهم ، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان ، وأخذه أبان عن طالوت ابن أُخت لبيد الأعصم وختنه ، وأخذه طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي وكان لبيد يقول : خلق التوراة ، وأوّل من صنف في ذلك طالوت وكان زنديقاً فأفشى الزندقة. (4)
    وسيوافيك أنّ القول بقدم القرآن وكونه غير مخلوق ، أيضاً تسرّبت من اليهود حينما قالوا بقدم التوراة ، أو من النصرانية حينما قالوا بقدم « الكلمة » التي هي المسيح. فللأحبار والرهبان دور راسخ في خلق هذه
1 ـ الحيوان للجاحظ : 1/343 ـ 346.
2 ـ تفسير مقاتل : 1/18 وتفسير الطبري : 1/186 ومابعده.
3 ـ تفسير الطبري : 3/190 و ص 112.
4 ـ الكامل لابن الأثير : 5/294 حوادث سنة 240; ولاحظ الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير للدكتور رمزي نعناعة : 110 ـ 111.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس