بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 101 ـ 110
(101)
العقائد وطرح قدم القرآن خاصة على بساط البحث مع أنّه لم يرد في ذلك نصّ عن النبي والصحابة.
    قال « زهدي حسن » ـ عند البحث عن تأثير الديانات ـ في تكون العقائد : فمن أهل تلك الأديان من تركوا أديانهم ودخلوا في الإسلام. لكنّهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من عقائدهم القديمة ولم يتسن لهم أن يتجرّدوا من سلطانها ، لأنّ للمعتقدات الدينية على نفوس الناس قوة نافذة وهيمنة عظيمة فلا تزول بسهولة ولا تنسى بسرعة ، ولهذا فإنّهم نقلوا إلى الإسلام ـ عن غير تعمد أو سوء قصد ـ بعض تلك المعتقدات ونشروها بين أهله.
    ومنهم ـ و هذا يصحّ عن الفرس كما سنرى ـ من اعتنق الإسلام لا عن إيمان به أو تحمس له وإنّما لغايات في نفوسهم فعل بعضهم ذلك طمعاً في مال يجنيه أو جاه يناله ، وأقدم البعض الآخر عليه بدافع الحقد على المسلمين الذين هزموا دينهم وهدموا ملكهم ، فأظهروا الإسلام وأبطنوا عداوته ودأبوا على محاربته والكيد له ، فكانوا خطراً عليه كبيراً ، وشراً مستطيراً ، لأنّهم ما انفكوا ينفثون فيه ما في صدورهم من الغل والغيظ ، ويروجون بين أبنائه من الأفكار والآراء ما لا تقره العقيدة الإسلامية حباً في تشويه تلك العقيدة ورغبة في إفسادها.
    وكثيرون من غير المسلمين تمسكوا بأديانهم الأصلية ، لأنّ الإسلام منحهم حرية العبادة ، ولم يتدخل في شؤونهم الخاصة ما داموا يدفعون الجزية ، ولما توطدت أركان الدولة الإسلامية وتوسعت أعمالها في عهد بني أُمية ، ولما لم تكن للعرب الخبرة الكافية في أُمور الإدارة ، فإنّهم اضطروا إلى أن يعتمدوا في تصريف شؤون البلاد على أهل الأمصار المتعلمين الذين اقتبسوا مدنية الفرس وحضارة البيزنطيين ، فأسندوا إليهم أعمال الدواوين. وهكذا كانوا يحيون بين ظهراني المسلمين ، ويحتكون دوماً بهم ... والاحتكاك يؤدي إلى تبادل الرأي ، والآراء سريعة الانتقال شديدة العدوى.
    وقال أيضاً : إنّ الأمويين قربوهم ( المسيحيين ) إليهم ، واستعانوا بهم ، وأسندوا إليهم بعض المناصب العالية ، فقد جعل معاوية بن أبي سفيان


(102)
« سرجون بن منصور » الرومي المسيحي كاتبه وصاحب أمره (1) وبعد أن قضى معاوية بقيت لسرجون مكانته فكان يزيد يستشيره في الملمّات ويسأله الرأي. (2) ثمّ ورث تلك المكانة ولده يحيى الدمشقي (3) الذي خدم الأمويين زمناً ثمّ اعتزل العمل سنة ( 112 هـ / 730 م ) والتحق بأحد الأديرة القريبة من القدس حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية ويصنف الكتب اللاهوتية ، وليس من يجهل الأخطل الشاعر المسيحي الذي قدمه الأمويون وأغدقوا عليه العطايا وجعلوه شاعر بلاطهم. وكيف كان يزيد بن معاوية يعتمد عليه في الرد على أعداء بني أُمية وهجوهم. (4)
    إنّ احتكاك المسلمين بأُولئك المسيحيين لا يمكن أن يكون قد مضى دون أن يترك فيهم أثراً ، ولا سيما برجل ممتاز كيحيى الدمشقي الذي كان آخر علماء اللاهوت الكبار في الكنيسة الشرقية وأعظم علماء الكلام في الشرق المسيحي. (5)

    وقال أحمد أمين عندالبحث عن مصادر القصص في العصر الأوّل : ولا بدّ أن نشير هنا إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصص وأمثالهم (6) ، تجد ذكرهما كثيراً في رواية القصص وفي التاريخ وفي الحديث وفي التفسير ، هما : وهب بن منبه ، وكعب الأحبار.
    فأمّا وهب بن منبه فيمني من أصل فارسي ، وكان من أهل الكتاب الذين
1 ـ تاريخ الطبري : 6/183 وابن الأثير : 4/7.
2 ـ الطبري : 6/194 ـ 199 وابن الأثير : 4/17.
3 ـ هو القديس يحيى الدمشقي ( 81 ـ 137 هـ 700 ـ 754 م ) واسمه العربي منصور. كان يحيى الدمشقي عالماً كبير القدر من علماء الدين وقديساً محترماً في الكنيستين : الشرقية والغربية.
4 ـ الأغاني : 14/117.
5 ـ لاحظ كتاب « المعتزلة » : 23 ـ 24 تأليف زهدي حسن جار اللّه.
6 ـ كذا في المصدر.


(103)
أسلموا ، وله أخبار كثيرة وقصص تتعلّق بأخبار الأول ومبدأ العالم وقصص الأنبياء ، وكان يقول : قرأت من كتب اللّه اثنين وسبعين كتاباً وقد توفي حوالي سنة ( 110 هـ ) بصنعاء.
    وأمّا كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن كذلك ، ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين ، أسلم في خلافة أبي بكر وعمر ـ على خلاف في ذلك ـ و انتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثمّ إلى الشام ، وقد أخذ عنه اثنان ، هما أكبر من نشر علمه : ابن عباس ـ و هذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة ولم يؤثر عنه أنّه ألّف كما أثر عن وهب بن منبه ، ولكن كلّ تعاليم هـ على ما وصل إلينا ـ كانت شفوية ، وما نقل عنه يدلّ على علمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها.
    جاء في « الطبقات الكبرى » حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد اللّه بن القيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ. (1)
    وقد لاحظ بعض الباحثين أنّ بعض الثقات كابن قتيبة والنووي ما رويا عنه أبداً. وابن جرير الطبري يروي عنه قليلاً ، ولكن غيرهم كالثعلبي والكسائي ينقل عنه كثيراً من قصص الأنبياء كقصة يوسف والوليد بن الريان وأشباه ذلك. ويروي « ابن جرير » أنّه جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام وقال له : اعهد ، فإنّك ميت في ثلاثة أيام. قال : وما يدريك؟ قال : أجده في كتاب اللّه عزّوجلّ في التوراة. قال عمر : إنّك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال : اللّهمّ لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنّه قد فني أجلك.
    وهذه القصة إن صحت ، دلّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر ، ثمّ وضعها هو في هذه الصبغة الإسرائيلية ، كما تدلنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل.
    وعلى الجملة : فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم في عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح. (2)

1 ـ طبقات ابن سعد : 7/79.
2 ـ فجر الإسلام : طبع دار الكتاب العربي : 160 ـ 161.


(104)
( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ) . (1)
1 ـ آل عمران : 69.

(105)
العامل الخامس
الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري
    مضى النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى جوار ربّه وقام المسلمون بعده بفتح البلاد ومكافحة الأُمم المخالفة للإسلام والسيطرة على أقطارها ، وكانت تلك الأُمم ذات حضارة وثقافة في المعارف والعلوم والآداب ، وكان بين المسلمين رجال ذوو دراية ورغبة في كسب العلوم وتعلم ما في تلك الحضارات من آداب وفنون فأدّت هذه الرغبة إلى المذاكرة والمحاورة أوّلاً ، ونقل كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً.
    يقول بعض المؤرّخين في هذا الصدد : ولم تلبث كتب أرسطو ، وأنبذقليس ، وهرقليوس ، وسقراط ، وأبيقور ، وجميع أساتذة مدرسة الإسكندرية من الفلاسفة ، أن ترجمت إلى اللغة العربية وكان هناك ما جعل أمر تلك الترجمة سهلاً ، فقد كانت معارف اليونان والرومان منتشرة في بلاد الفرس وسوريا منذ أن وجد العرب في بلاد فارس وسوريا ، فلمّا استولى المسلمون على ما فيها من خزائن العلوم اليونانية قاموا بنقل ما هو باللغة السريانية إلى اللغة العربية.
    وأعان على أمر الترجمة أنّه نقل عدّة من الأسرى إلى العواصم الإسلامية ، فصار ذلك سبباً لانتقال كثيرمن آراء الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي


(106)
وانتشارها بينهم ولا شكّ أنّ بين تلك المعارف ما كان يضاد مبادئ الإسلام وأُسسه وكان بين المسلمين من لم يتدرع في مقابلها ومنهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها.
    فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات ، نظراء : ابن أبي العوجاء ، وحماد بن عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن أياس ، وعبد اللّه بن المقفع ، فهؤلاء وأمثالهم بين غير متدرع وغير متورع ، اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الملاحدة والثنوية من الروم والفرس إلى أن عاد بعض المتفكّرين غير مسلمين للإسلام إلاّ بالقواعد الأساسية كالتوحيد والنبوة و المعاد وكانوا ينشرون آراءهم علناً ويهاجمون بها عقائد المؤمنين.
    نحن نرى في التراث اليوناني بفضل التراجم التي وصلت إلينا أبحاثاً حول علمه سبحانه وإرادته وقدرته وأفعاله حتى مسألة الجبر والاختيار ، وقد كان لتلك الآراء تأثير عميق على عقول المسلمين وهم بين متدرّع بالحضارة الإسلامية يكافح الشبه ويميز الصحيح من الفاسد ، وبين ضعيف في التعقّل والتفكّر ليس له من الشأن إلاّ الأخذ ، فصارت تلك الآراء من مبادئ تكوّن الفرق واختلاق النحل.
دور أهل البيت في عصر الترجمة
    وفي هذا الجو المشحون بالآراء والعقائد الصحيحة وغير الصحيحة ، قام أهل البيت بتربية جموع غفيرة من ذوي الاستعداد على المبادئ الأصيلة والمفاهيم الإسلامية وتعريفهم بالأُصول الدينية المستقاة من الكتاب والسنّة والعقل ، وصاروا يناظرون كلّ فرقة ونحلة بما فيهم الملاحدة والثنوية بأمتن البراهين وأسلمها.
    وقد حفظ التاريخ أسماء طائفة منهم ، كهشام بن الحكم ، وأبي جعفر مؤمن الطاق ، وجابر بن يزيد ، وأبان بن تغلب البكري ، ويونس بن


(107)
عبد الرحمن ، وفضال بن الحسن بن فضال ، ومحمد بن خليل السكاك ، وأبي مالك الضحاك ، وآل نوبخت جميعاً ، إلى غير ذلك ممن برع في علم الكلام ، وناظر الفرق ، بين من تتلمذ على الأئمة ، أو من تتلمذ على خريجي مذهبهم ، وتواصلت حلقات مناظراتهم حتى القرون المتأخرة وألفت كتب في العقائد والكلام والملل والنحل ، يقف القارئ على تاريخهم في كتب الرجال والتراجم وقد حفظ الكثير من نصوص هذه المناظرات والاحتجاجات لحدّ الآن.
    كما قامت المعتزلة بمقاومة هذه التيارات الإلحادية والثنوية ، وبإزالة الشبه بفضل الأُصول القرآنية والعقلية ، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً وإن لم يكونوا ناجحين في كلّ ما هو الحقّ من الأُصول والفروع الإسلامية.
    وبما أنّ أهل الحديث لا يحسنون طريقة المعتزلة في الاحتجاج والبرهنة ، لذا كانوا يعادونهم ، كما أنّ الملاحدة والثنوية كانوا يعادونهم أيضاً ، لما يجدون فيهم من قوّة التفكير والقدرة على الاحتجاج والمناظرة. وعلى ذلك فقد وقعت المعتزلة بين عدوين : أحدهما من الداخل ، وهم أهل الحديث ، والآخر من الخارج ، وهم الملاحدة والثنوية.
    نعم كان بين المسلمين من يأبى الخوض في المسائل العقلية ويكتفي بما وصل إليه من الصحابة ، ويقتصر على ما حصل عليه من الدين بالضرورة وهم الحشوية من أهل الحديث وأكثر الحنابلة ولما التحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بالحنابلة لم يجد محيصاً في الدفاع عن عقائدهم عن الخوض في المسائل الكلامية ، فألّف رسالة أسماها « في استحسان الخوض في الكلام ».


(108)
العامل السادس
الاجتهاد في مقابل النص
    إذا كانت العوامل الخمسة الماضية من عوامل تكون المذاهب الكلامية فالاجتهاد في مقابل النص ممّا يتكون به المذاهب الكلامية والفقهية.
    روى الفريقان أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان مسجى على فراش الموت والحجرة غاصة بأصحابه فقال : « يا أيّها الناس يوشك أن أقبض سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا أنّي مخلف فيكم كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي ». (1)
    فجعل العترة أعدال كتاب اللّه وقرناءه كما أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) جعلهم أمان الأُمّة من الاختلاف وسفينتها من الهلاك ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي ستمر عليك عند البحث عن الشيعة.
    ومع ذلك استأثر القوم بالأمر يوم السقيفة و أوّلوا نصوصه لا يلوون على شيء وقد قضوا أمرهم بينهم دون أن يؤذنوا به أحداً من بني هاشم وأهل بيت النبوة وكأنّه عناهم الشاعر في المثل السائر حيث قال :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
    نرى أنّ الأُمّة بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) رجعوا إلى كلّ صحابي وتابعي وإلى
1 ـ لاحظ ص 36 من كتابنا هذا.

(109)
من أدرك صحبة النبي شهراً أو أقلّ ومع ذلك أعرضوا عن أهل بيته وعترته وهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل ، وما هذا إلاّ اجتهاد في مقابل النصّ.
    وأمّا المذاهب الفقهية التي أُسّست في ظل هذا العامل فحدث عنها ولا حرج ، ويكفي في ذلك المراجعة إلى الكتب الفقهية في المسائل التالية :
    1 ـ إسقاط سهم المؤلّفة قلوبهم من الزكاة مع النص عليه في محكم الذكر.
    2 ـ إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بوفاة رسول اللّه مع النصّ عليه في محكمات الفرقان وصحاح السنن.
    3 ـ الحكم بعدم توريث الأنبياء مع ما في الذكرالحكيم من النصوص الصريحة في توريثهم.
    4 ـ النهي عن متعة الحجّ مع النصّ الوارد عليها في الآية ( 196 ) من سورة البقرة.
    5 ـ النهي عن متعة النساء مع النصّ عليه في محكم الذكر وصحاح الروايات.
    6 ـ إسقاط « حي على خير العمل » من الأذان والإقامة مع كونه جزءاً من كلّ منهما.
    إلى غير ذلك من الموارد التي جمعها العلاّمة الأكبر السيد شرف الدين العاملي ( المتوفّى 1377 هـ ) في كتابه « النص والاجتهاد » وهو من الكتب الممتعة في ذلك الموضوع وفي آخر الكتاب فصل جمع فيه نصوص الإمامة المتوالية من مبدأ أمر الرسول إلى انتهاء عمره الشريف.
( ثُمَّ أَورَثنا الكِتابَ الَّذينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسهِِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّه ذلِكَ هُوَ الفَضْلُ الْكَبير ) (1) .
1 ـ فاطر : 32.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس