بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 111 ـ 120
(111)
الفصل الرابع
في معنى القدرية والمعتزلة والرافضة والحشوية
    إنّ كتب الملل والنحل مشحونة باصطلاحات يستخدمونها في التعبير عن الفرق ويعبرون عن أكثرهم بإدخال ياء النسبة إلى أصحاب الرأي ، غير أنّ هناك اصطلاحات اختلفوا في معناها أو وقع لهم الاشتباه في تفسيرها ، فلنذكر هاهنا القسم الأخير :
    1 ـ القدرية
    قد تداول استعمال لفظ القدرية في علمي الملل والكلام ، فأصحاب الحديث كإمام الحنابلة ومتكلّمي الأشاعرة يطلقونها ويريدون منها « نفاة القدر ومنكريه » بينما تستعملها المعتزلة في مثبتي القدر والمقرين به ، وكلّ من الطائفتين ينزجر من الوصمة بها ويفر منها فرار المزكوم من المسك; وذلك لما رواه أبو داود في سننه ، والترمذي في صحيحه ، من روايات في ذم القدرية والقدح فيهم. وإليك بيانها :
    1 ـ عبد اللّه بن عمر : إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : القدرية مجوس هذه الأُمّة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم.
    2 ـ عبد اللّه بن عباس : إنّ النبي قال : لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم. (1)
1 ـ أي لا تحاكموهم وتناظروهم ولا تجادلوهم. وفي المصدر عمر بن الخطاب مكان « عبد اللّه بن عباس ».

(112)
    3 ـ عبد اللّه بن عباس قال : قال رسول اللّه : صنفان من أُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية. (1)
    ولأجل هذه الروايات يتهم كلّ من الطائفتين ، الأُخرى بالقدرية لينزّه نفسه من ذلك العار والشنار.
    ولا يخفى أنّ متون الأحاديث تعرب عن كونها موضوعة على النبي الأكرم ، خصوصاً الحديث الأخير فقد جاء فيه : المرجئة والقدرية معاً ، إذ إنّ هذين المصطلحين برزا بين المسلمين في النصف الثاني من القرن الأوّل عندما اتّهم معبد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي بالقدر والإرجاء ، و ذاع هذان الاصطلاحان بين المسلمين إلى الآن ومن البعيد وجودهما في زمن الرسول الأعظم وشيوعهما في ذلك العصر ، وعند ذلك كيف يتكلّم الرسول بكلمات بعيدة عن أذهان أصحابه ، وغريبة على مخاطبيه ، كلّ ذلك يثير الشكّ أو سوء الظن بوضع هذه الأحاديث ودسّها بين المسلمين ، حتى يتسنّى لكلّ من الطائفتين ، تعيير الأُخرى بها والنيل من كرامتها ، وما ذكرناه من التشكيك وإن كان لا يخرج عن دائرة الاستحسان ، غير أنّ وقوع الضعاف في أسنادها يؤيد ذلك التشكيك ويقوّيه.
    أمّا الحديث الأوّل ، فقد رواه أبو داود في سننه بالسند التالي :
    حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، قال : حدثني بمنى عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي. (2)
    ويكفي في ضعف الحديث ، أنّ أبا حازم سلمة بن دينار ، لم يدرك عبد اللّه بن عمر ، وقد روى عنه في مواضع بوسائط ، لا يثبت منها شيء. (3)
    وأمّا الحديث الثاني ، فقد رواه أيضاً بالسند التالي :
1 ـ جامع الأُصول : 10/526. راجع سنن أبي داود : 4/222 ، باب في القدر ، الحديث 6491 و 6492; سنن الترمذي : ج 4 ، كتاب القدر باب 13 ، الحديث 2149.
2 ـ سنن أبي داود : 4/222 ، الباب في القدر ، الحديث 4691.
3 ـ جامع الأُصول : 10/526 قسم التعليق; واللآلي المصنوعة : 1/258.


(113)
    حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقري أبو عبد الرحمن ، قال حدثني سعيد بن أبي أيوب ، قال حدثني عطاء بن دينار ، عن حكيم بن شريك الهذلي ، عن يحيى بن ميمون الحضرمي ، عن ربيعة الجرشي ، عن أبي هريرة ، عن عمر بن الخطاب. (1)
    ويكفي في ضعف الحديث أنّ في أسناده ، حكيم بن شريك الهذلي البصري الذي هو مجهول. (2)
    وأمّا الحديث الثالث ، فقد رواه الترمذي في سننه بالسند التالي :
    حدثنا واصل بن عبد الأعلى الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن القاسم بن حبيب ، وعلي بن نزار ، عن نزار عن عكرمة. (3)
    ويكفي في ضعف الحديث أنّ قاسم بن حبيب ضعيف ، ونزار وابنه علي ، من المجاهيل.
    أفيصح الاحتجاج بأحاديث هذه أسنادها؟
    هذه حال الأحاديث الواردة في الصحاح. غير أنّ هناك أحاديث وردت في غيرها تختلف مع ما ورد فيها سنداً ، وإن كانت تتحد لفظاً. وقد جمعها السيوطي في كتابه « اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ». (4)
    مثلاً : روى ابن عدي ، بسند عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعاً : إنّ لكلّ أُمّة مجوساً ، وإنّ مجوس هذه الأُمّة القدرية ، فلا تعودوهم إذامرضوا ، ولا تصلّوا عليهم إذا ماتوا.
    وفي سنده جعفر بن الحارث ، قال عنه السيوطي : ليس بشيء.
    ورواه خيثمة بسند عن أبي هريرة ، وفي سنده غسان ، قال عنه السيوطي : مجهول.
1 ـ سنن أبي داود : 4/228 ، باب في القدر ، الحديث 4710.
2 ـ جامع الأُصول : 1/526 ، قسم التعليق.
3 ـ سنن الترمذي : 4/454 ، باب ما جاء في القدرية ، رقم الحديث 2149.
4 ـ لاحظ ج1 ، ص 254 ـ 256.


(114)
    ورواه الدارقطني ، بسند عن أبي هريرة ، وفيه مجاهيل ، حتى قال النسائي : هذا الحديث باطل كذب. (1)
    ونكتفي بهذا المقدار في البحث عن سند الروايات.
    هذا حال رجال الأحاديث المذكورة ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن الاحتجاج بأحاديث هذا شأنها ، وعلى فرض صحتها فالصحيح تفسير القدرية بمعنى مثبتي القدر والحاكمين به ، لا نفاته. فإنّ تلك الكلمة كأشباهها من العدلية وغيرها تطلق ويراد منها مثبتو مبادئها ، أعني : العدل ، لا نفاتها. وإطلاق تلك الكلمة وإرادة النفي منها من غرائب الاستعمالات.
    نعم أخرج أبو داود في سننه (2) ، عن حذيفة بناليمان قال : « قال رسول اللّه : لكلّ أُمّة مجوس ، ومجوس هذه الأُمّة الذين يقولون لا قدر ».
    وهذا الحديث على فرض صحته يمكن أن يكون قرينة على تفسير القدرية في هذا المورد ، ويكشف عن أنّ ذلك الاستعمال البعيد عن الأذهان ، كان مقروناً بالقرينة. ولكن الاحتجاج بالحديث غير تام ، إذ في سنده عمر مولى غفرة ، عن رجل من الأنصار ، عن حذيفة ، فالراوي والمروي عنه مجهولان. (3)
فقه الحديث
    وبعد ذلك كلّه ، ففقه الحديث يقتضي أن نقول : إنّ المراد من القدرية هم مثبتو القدر ، لا نفاته ، بقرينة تشبيههم بالمجوس ، فإنّ المجوس معروفة بالثنوية ، وإنّ خالق الخير غير خالق الشر ، ومبدع النور غير مبدع الظلمة ، وإنّ هناك إلهين خالقين في عالم واحد ، يستقل كلّ في مجاله الخاص ، حسب ما يناسب ذاته.
    والقائل بالقدر يحكّم القدر على أفعاله سبحانه وأفعال عباده ، فكأنّ
1 ـ اللآلي المصنوعة : 1/258.
2 ـ سنن أبي داود : 4/222 ح 4692.
3 ـ الجرح والتعديل : 6/143.


(115)
التقدير إله حاكم على أفعال اللّه وأفعالهم ، فإذا قدر شيئاً وقضى لا يمكن له نقض قضائه وقدره ، بل يجب عليهما أن يصيرا حسب ما قدر ، فالفواعل على هذا المعنى ـ سواء أكانت شاعرة عالمة بذاتها وأفعالها أو غير شاعرة وعالمة ـ مسيّرة لا مخيّرة ، لأجل حكومة القدر وسيادته على اللّه وأفعاله وعلى حرية عبده ، فأي إله أعلى وأسمى من القدر بهذا المعنى. فصحّ تشبيه القدرية ـ بهذا المعنى ـ بالمجوس القائلين بالثنوية وتعدد الإله.
    وأمّا نفاة القدر الذين يقولون لا قدر ولا قضاء بل للّه الحكم في أوّله وآخره ، وأنّ عباده مخيّرون في أعمالهم وأفعالهم ، فهم أشبه بالموحدين من القائلين بالمعنى السابق الذكر.
    نعم يمكن تقريب كون النفاة بحكم المجوس ببيان آخر وهو : أنّ تلك الفرقة يعتقدون بالتفويض ، وأنّ الإنسان مفوض إليه في فعله ، مستقل في عمله وكلّ ما يقوم به. فعند ذلك يكون الإنسان فاعلاً غير محتاج في فعله إلى خالقه وبارئه ، ويصير نداً له سبحانه وتعالى فكما هو مستقل في خلقه فذاك أيضاً مستقل في عمله.
    وهذا الاعتقاد يشبه قول الثنوية ، من الاعتقاد بخالقين مستقلين : خالق النور وخالق الظلمة. وفي مورد البحث يعتقد نفاة القدر بخالقين : اللّه سبحانه بالنسبة إلى ما سواه غير أفعال الإنسان ، والإنسان في مجال أفعاله وأعماله ، فلكلّ مجال خاص ، وهذا الاعتقاد يخالف التوحيد في الخالقية والفاعلية ، وأنّه ليس هناك إلاّ خالق واحد ، كما أنّه ليس هناك فاعل مستقل. فكلّ ما في الوجود من الآثار مع استناده إلى مبادئها ومؤثراتها ، مستند إلى اللّه سبحانه ، وسيوافيك توضيحه عند البحث في القضاء والقدر.
    ولا يخفى ما في هذا الوجه من الوهن ، لأنّ الحديث يركز على كونهم بمنزلة المجوس ، لأجل كونهم نافين للقدر ، لا لأجل كونهم قائلين بالتفويض ، وأنّ الإنسان بعد الوجود ، مفوض إليه فعله وعمله ، ولا صلة لفعله إلى اللّه سبحانه بوجه من الوجوه. وقولهم بالتفويض وإن كان يصحح ذلك ، لكنّه


(116)
ليس مذكوراً في الحديث فالحقّ تفسير الحديث بالقائلين بالقدر والمثبتين له على الوجه الذي عرفته ، لا بنفاته.
    هذا ، والقاضي عبد الجبار نقل حديثاً يوضح لنا مفاد هذا الحديث حيث قال : « لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً ، قيل له : ومن القدرية يا رسول اللّه؟ قال : « قوم يزعمون أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي وعذبهم عليها. والمرجئة قوم يزعمون أنّ الإيمان بلا عمل ». (1)
    ونقل أيضاً قول الرسول : « لعن اللّه القدرية على لسان سبعين نبياً ، قيل : من القدرية يا رسول اللّه؟قال : « الذين يعصون اللّه تعالى ويقولون كان ذلك بقضاء اللّه وقدره ... وهم خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس ». (2)
    وقد رواه بعض المفسرين أيضاً ، كالزمخشري في كشافه (3) ، والرازي في مفاتيحه. (4)
    هذا وإنّ تنبّؤ النبي الأكرم عن طائفة باسمهم دون أن يذكر وصفهم بعيد جداً.
    وهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي أنّه لا شكّ أنّ للّه سبحانه قضاء وقدراً ، وانّه لا يمكن للمؤمن العارف بالكتاب والسنّة إنكار ذلك ، وقد قال سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا في أَنفُسِكُمْ إِلاّ في كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ) (5) وقال سبحانه : ( إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم ). (6)
1 ـ المغني : 8/326 ( المخلوق ).
2 ـ شرح الأُصول الخمسة : 775 ، الطبعة الأُولى.
3 ـ الكشاف : 1/103.
4 ـ المفاتيح : 13/184.
5 ـ الحديد : 22.
6 ـ الدخان : 3 و 4.

(117)
    وهذه الآيات والأحاديث المتضافرة التي نقلها أصحاب الحديث لا تترك منتدحاً لمسلم أن ينكر القضاء والقدر ، نعم الكلام في تفسيرهما وتحديد معناهما على نحو لا يضاد ولا يخالف حاكمية اللّه واختياره أوّلاً ، ولا يزاحم حرية الإنسان وإرادته ثانياً ، إذ كما أنّ القدر والقضاء من الأُمور اليقينية ، فكذا حاكميته سبحانه واختياره ، وحرية العبد وإرادته من الأُمور اليقينية أيضاً وسوف يوافيك أنّ معنى القضاء والقدر الثابتين في الشرع ، ليس كما تصوّره أصحاب الحديث والأشاعرة : من تحكيم القدر على اختياره سبحانه ، وإرادة عباده. بل تقديره وقضاؤه لا يعني إبطال حرية الإنسان واختياره ، ولأجل كون المقام من مزال الأقدام ، نهى الإمام أمير المؤمنين البسطاء عن الخوض في القضاء والقدر ، فقال في جواب من سأله عن القدر : « طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر اللّه فلا تتكلّفوه ». (1)
    ولكن كلامه ( عليه السَّلام ) متوجه إلى البسطاء من الأُمّة الذين لا يتحملون المعارف العليا ، لا إلى أهل المعرفة والنظر. ولأجل ذلك وردت جمل شافية في القضاء والقدر عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) وسيوافيك شطر منها عند عرض مذهب أهل الحديث في هذا الموقف.

2 ـ الاعتزال والمعتزلة
    المعتزلة طائفة من العدلية نشأت في أوائل القرن الثاني الهجري ، ويرجع أصلها إلى « واصل بن عطاء » تلميذ الحسن البصري ، ولهم منهج كلامي خاص وأُصول معينة اتفقوا عليها ، وسوف نرجع إلى دراسة مذهبهم بعد الفراغ من دراسة مذهب أهل الحديث أوّلاً ، والأشاعرة ثانياً ، غير أنّ الذي نركز عليه هنا هو الوقوف على وجه تسميتهم بالمعتزلة تارة ، ووصف مدرستهم بالاعتزال أُخرى ، وهناك آراء ستة نشير إلى بعضها :
    أ. دخل رجل على الحسن البصري ( المتوفّى عام 110 هـ ) فقال : يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم
1 ـ شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده : قسم الحكم ، الرقم 287.

(118)
كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج; وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ، بل العمل ليس ـ على مذهبهم ـ ركناً من الإيمان ، ولا يضر مع الإيمان معصية ، كمالا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
    فتفكّر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب ، قال واصل بن عطاء ( تلميذه ) : أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ، ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر.
    ثمّ قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد ، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن ، فقال الحسن : اعتزل عنّا واصل ، فسمّي هو وأصحابه معتزلة. (1)
    وقد كان لمسألة مرتكب الكبائر دوي عظيم في تلك العصور ، وهو أمر أحدثه الخوارج في البيئات الإسلامية تعييراً لعلي ( عليه السَّلام ) حيث إنّه بزعمهم ارتكب الكبيرة لمّا حكّم الرجال في أمر الدين ، وليس للرجال شأن في هذا المجال ، فعادوا يكفّرونه حسب معاييرهم الباطلة. ولأجل ذلك انتشر السؤال عن حكم مرتكب الكبيرة ، هل هو كافر أو مؤمن فاسق؟ فالتجأ واصل بن عطاء إلى القول بالمنزلة بين المنزلتين.
    وظاهر الرواية ، أنّ واصل بن عطاء أجاب عن السؤال ارتجالاً وبلا تروّ ، غير أنّا نرى أنّ المعتزلة اتّخذوه أصلاً من الأُصول الخمسة التي لا يختلف فيها أحد منهم ، فيبدو أنّه انتهى إلى تلك النظرية عن تحقيق وتفكير وتبعه أصحابه طوال قرون من دون أن يكون هناك حافز سياسي أو داع غير إراءة الحقّ وإصابة الواقع.
    ومع ذلك كلّه نرى عبد الرحمن بدوي يعتبر تلك الفكرة منهم فكرة سياسية اتّخذوها ذريعة على ألاّ ينصروا أحد الفريقين المتنازعين ( أهل السنّة والخوارج ) حيث قال : وإنّما اختار المعتزلة الأوّلون هذا الاسم ، أو على الأقل
1 ـ الفرق بين الفرق : 118 الملل والنحل للشهرستاني : 1/48.

(119)
تقبّلوه ، بمعنى المحايدين أو الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين ( أهل السنة والخوارج ) على الآخر في المسألة السياسيّة الدينية الخطيرة : مسألة الفاسق ما هو حكمه؟ هل هو كافر مخلّد في النار كما يقول الخوارج ، أو هو مؤمن يعاقب على الكبيرة بقدرها كما يقول أهل السنّة ، أو هو في منزلة بين المنزلتين وهو ما يقول به المعتزلة. (1)
    ب. وهناك رأي ثان في وجه تسميتهم بها ، يظهر ممّا ذكره أبو الحسين محمد ابن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي ( المتوفّى عام 377 هـ ) حيث يقول : وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن علي ( عليه السَّلام ) معاوية وسلم إليه الأمر ، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس ، وقد كانوا من أصحاب علي ، ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا : نشتغل بالعلم والعبادة فسمّوا بذلك معتزلة. (2)
    وهذا الرأي قريب من جهة أنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل ، عن الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) لأنّهم يقرّون بأنّ مذهبهم يصل إلى واصل بن عطاء ، وأنّ واصلاً يستند إلى محمد بن علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) المعروف بابن الحنفية بواسطة ابنه أبي هاشم وأنّ محمداً أخذ عن أبيه ، وأنّ علياً أخذ عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). (3)
    وعلى ذلك فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن ( عليه السَّلام ) مع معاوية.
    والذي يبعد ذلك أنّ من الأُصول الاعتقادية للمعتزلة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى هذا الأصل خرجت أوائلهم على الوليد الفاسق بن يزيد ابن عبد الملك ونصروا يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك الذي كان على خط
1 ـ مذاهب الإسلاميين للدكتور عبد الرحمن بدوي : 1/37.
2 ـ التنبيه والرد : 36.
3 ـ رسائل الجاحظ تحقيق عمر أبي النصر : 228 ، وغيره ممّا كتب في تاريخ المعتزلة كطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ، والمنية والأمل لأحمد بن يحيى بن المرتضى.


(120)
الاعتزال ، وقد فصّل الكلام فيه المسعودي في تاريخه (1) ، وعلى ذلك فلا يصح أن يقال إنّهم لزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة.
    والحقّ أن يقال : إنّ هناك طائفتين سمّيتا بالمعتزلة ، لا صلة بينهما سوى الاشتراك في الاسم ، ظهرت إحداهما بعد تصالح الإمام الحسن بن علي ( عليهما السَّلام ) مع معاوية ، وهؤلاء طائفة سياسية بحتة. وطلعت الأُخرى في زمن الحسن البصري بعد اعتزال واصل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد ، وهؤلاء طائفة كلامية عقائدية.
    هذا وإنّ المعروف في وجه التسمية هو الوجه الأوّل دون الثاني ودون سائر الوجوه البالغة ستة أوجه.
    وسيوافيك بيان تلك الأوجه الستة عند بيان عقائد المعتزلة في الجزء الثالث من هذه الموسوعة.

3 ـ الرفض والرافضة ووجه التسمية
    الرفض : بمعنى الترك. قال ابن منظور في اللسان : « الرفض تركك الشيء تقول : رفضني فرفضته ، رفضت الشيء أرفضه رفضاً. تركته وفرقته ، والرفض ، الشيء المتفرق والجمع : أرفاض ».
    هذا هو المعنى اللغوي وأمّا حسب الاصطلاح في الأعصار المتأخرة فهو يطلق على مطلق محبي أهل البيت تارة ، أو على شيعتهم جميعاً أُخرى ، أو على طائفة خاصة منهم ثالثة.
    وعلى كلّ تقدير فهذاالاصطلاح اصطلاح سياسي أُطلق على هذه الطائفة وهو موضوع لا كلام فيه ، إنّما الكلام في وجه التسمية ومبدأ نشوئها ، فإنّنا نرى ابن منظور يقول في وجه التسمية « الروافض : جنود تركوا قائدهم وانصرفوا ، فكلّ طائفة منهم رافضة ، والنسبة إليهم رافضي ، والروافض قوم من الشيعة سمّوا بذلك لأنّهم تركوا زيد بن علي ، قال الأصمعي : كانوا
1 ـ مروج الذهب : 3/212 ـ 226.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس