بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 121 ـ 130
(121)
قد بايعوا زيد بن علي ثمّ قالوا له : ابرأ من الشيخين نقاتل معك فأبى وقال : كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما ، فرفضوه وارفضوا عنه ، فسمّوا رافضة ، وقالوا الروافض ولم يقولوا : الرفاض لأنّهم عنوا الجماعات. (1)
    غير أنّ ابن منظور ، وإن أصاب الحقّ في صدر كلامه وجعل للّفظ معنى وسيعاً يطلق على المسلم والكافر ، والمسلم شيعيّه و سنيّه لكن استشهد على وجه تسمية قسم من شيعة علي ( عليه السَّلام ) بها بقول الأصمعي ، وهو منحرف عن علي وشيعته ، فكيف يمكن الاعتماد على قوله ، خصوصاً إذا تضمن تنقيصاً وازدراء بهم ، وليس ذلك بدعاًمن ابن منظور وأضرابه ، بل هو مطرد في كلّ مورد يستشهدون بشيء فيه وقيعة للشيعة ، فترى هناك أثراً من مطعون إلى منحرف إلى ناصبي إلى خارجي و « في كلّواد أثر من ثعلبة » وعلى أي تقدير هذه الفكرة هي المعروفة بين أرباب الملل في تسمية شيعة الإمام بالرافضة ، ونداء محبيه بالرفضة.
    يقول البغدادي في « الفَرْق بينالفِرَق » عند البحث عن الزيدية : وكان زيد بن علي قد بايعه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم على والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك ، فلمّا استمر القتال بينه و بين يوسف بن عمر الثقفي قالوا له : إنّا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر ، بعد أن ظلما جدك علي بن أبي طالب. فقال زيد بن علي : لا أقول فيهم إلاّ خيراً ، وما سمعت من أبي فيهم إلاّ خيراً. وإنّما خرجت على بني أُمية الذين قتلوا جدي الحسين ، وأغاروا على المدينة يوم وقعة الحرة ، ثمّ رموا بيت اللّه بالمنجنيق والنار. ففارقوه عند ذلك ، حتى قال لهم رفضتموني ، ومن يومئذ سمّوا رافضة. (2)
    قال البزدوي أحد المؤلفين في الفرق عند البحث عن مذهب الروافض : « وإنّما سموا روافض ، لأنّهم وقعوا في أبي بكر وعمر فزجرهم زيد فرفضوه
1 ـ لسان العرب : 7/157 ، مادة رفض.
2 ـ الفرق بين الفرق : 35.


(122)
وتركوه فسموا روافض ». (1)
    هذا ما لدى القوم من أوّلهم وآخرهم ، فقد أخذوا بقول الأصمعي الناصبي في التسمية ومن لفّ لفّه وحذا حذوه.
نظرنا في الموضوع
    لا أظن الأصمعي وهو خبير في اللغة يجهل بحقيقة الحال ولكن عداءه قد جرّه إلى هذا التفسير ، فإنّ الحقّ أنّ الرافضة كلمة سياسية كانت تستعمل قبل أن يولد زيد بن علي ومن بايعه من أهل الكوفة ، فالكلمة تطلق على كلّ جماعة لم تقبل الحكومة القائمة ، سواء أكانت حقاً أو باطلاً. هذا هو معاوية بن أبي سفيان يصف شيعة عثمان ـ الذين لم يخضعوا لحكومة علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) وسلطت هـ بالرافضة ويكتب في كتابه إلى « عمرو بن العاص » وهو في البيع في فلسطين أمّا بعد : فإنّه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا (2) مروان ابن الحكم في رافضة أهل البصرة وقدم علينا جرير بن عبد اللّه في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني ، أقبل أُذاكرك أمراً. (3)
    ترى أنّ معاوية يصف من جاء مع مروان بن الحكم بالرافضة وهؤلاء كانوا أعداء علي ومخالفيه ، وما هذا إلاّ لأنّ هؤلاء الجماعة كانوا غير خاضعين للحكومة القائمة آنذاك.
    وعلى ذلك فتلك لفظة سياسية تطلق على القاعدين عن نصرة الحكومة والالتفاف حولها ، وبما أنّه كان من واجب هذه الجماعة البيعة للحكومة والمعاملة معاملة الحكومة الحقة ، ولكنّهم لم يقوموا بواجبهم فتركوه فتفرقوا عنها ، فسمّوا رافضة.
    فقد خرجنا بهذه النتيجة : إنّ كلمة الرفض والرافضة ليستا من
1 ـ أُصول الدين : 248.
2 ـ سقط إلينا : نزل إلينا.
3 ـ وقعة صفين : 29.


(123)
خصائص الشيعة ، بل هي لغة عامة تستعمل في كلّ جماعة غير خاضعة للحكومة القائمة ، وبما أنّ الشيعة منذ تكونها لم تخضع للحكومات القائمة بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فكانت رافضة حسب الاصطلاح الذي عرفت ، ولم يكن ذلك الاصطلاح موهوباً من زيد بن علي لشيعة جدّه. كيف وقد ورد ذلك المصطلح على لسان أخيه محمد الباقر ( عليه السَّلام ) الذي توفّي قبل زيد بن علي وثورته بست سنوات؟!
    روى أبو الجارود عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) : إنّ رجلاً يقول إنّ فلاناً سمّانا باسم ، قال : وما ذاك الاسم؟ قال : سمّانا الرافضة. فقال أبو جعفر ـ مشيراً بيده إلى صدره ـ : وأنا من الرافضة وهو مني ، قالها ثلاثاً. (1)
    وروى أبو بصير فقال : « قلت لأبي جعفر ( عليه السَّلام ) : جعلت فداك اسم سمينا به ، استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا ، قال : « وما هو؟ » قال : الرافضة ، فقال أبو جعفر ( عليه السَّلام ) : « إنّ سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون ، فأتوا موسى ( عليه السَّلام ) فلم يكن في قوم موسى أحد أشدّ اجتهاداً وأشد حباً لهارون منهم ، فسمّاهم قوم موسى الرافضة ». (2)
    وهذه التعابير عن أبي جعفر باقر العلوم ( عليه السَّلام ) أصدق شاهد على أنّ مصطلح الرفض ليس وليد فكرة زيد ، وأجلّه عن هذه النسبة والفكرة ، بل كان مصطلحاً سائداً في أقوام ، فكلّ من لم يخضع للحاكم القائم ، والحكومة السائدة وصار يعيش بلا إمام ولا حاكم سمّي رافضياً والجماعة رافضة أو رفضة.
    وبهذا الملاك أطلق لفظ الرافضي على من لم يعتقد بشرعية حكومة الخلفاء حتى شاع وذاع قبل مقتل زيد كما عرفت وبعده.
    فعن معاذ بن سعيد الحميري قال : « شهد السيد إسماعيل بن محمد الحميري رحمه اللّه ، عند « سوار » القاضي بشهادة فقال له : ألست
1 ـ بحار الأنوار : 65/97 الحديث 2 نقلاً عن المحاسن للبرقي ، المتوفّى عام 274 هـ.
2 ـ بحارالأنوار : 65/97 الحديث 3.


(124)
إسماعيل بن محمد الذي يعرف بالسيد؟ فقال : نعم. فقال له : كيف أقدمت على الشهادة عندي ، وأنا أعرف عداوتك للسلف؟ فقال السيد : قد أعاذني اللّه من عداوة أولياء اللّه ، وإنّما هو شيء لزمني. ثمّ نهض فقال له : قم يا رافضي فواللّه ما شهدت بحقّ ، فخرج السيد رحمه اللّه وهو يقول :
أبوك ابن سارق عنز النبي ونحن على زعمك الرافضو وأنت ابن بنت أبي جحدر ن لأهل الضلالة والمنكر (1)
    وروي أنّه كان عبد الملك بن مروان لمّا سمع من الفرزدق قصيدته المعروفة في مدح الإمام علي بن الحسين قال له : أو رافضي أيضاً أنت؟ فقال الفرزدق : إن كان حبّ آل محمّد رفضاً فأنا هذاك ، فقال عبد الملك : قل فيّ مثل ما قلته فيه وعليّ أن أضعف عطاءك ... . (2)

4 ـ الحشوية
    لقد كثر الكلام حول تفسير الحشوية و ما هو المراد منها ؟ ونحن نأتي هنا بمجمل القول من أوثق المصادر..
    قال الجرجاني : وسمّيت الحشوية حشوية ، لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وجميع الحشوية يقولون بالجبر والتشبيه ، وتوصيفه تعالى بالنفس واليد والسمع والبصر ، وقالوا : إنّ كلّ حديث يأتي به الثقة من العلماء فهو حجّة أيّاً كانت الواسطة. (3)
    وقد ذكر الصفدي : أنّ الغالب في الحنفية معتزلة. والغالب في الشافعية أشاعرة ، والغالب في المالكية قدرية ( لعلّه يعني جبرية ) والغالب في الحنابلة حشوية. (4)
    ونقل الشيخ محمد زاهد الكوثري في تقديمه على كتاب « تبيين كذب
1 ـ الغدير : 2/256 طبع بيروت.
2 ـ أمالي السيد المرتضى : 1/68 في التعليق.
3 ـ التعريفات : 341; الحور العين : 204; معرفة المذاهب : 15.
4 ـ الغيث المنسجم للصفدي : 2/47 ، وراجع ضحى الإسلام لأحمد أمين : 3/71.


(125)
المفتري » وجهاً آخر ، وقال : وكان الحسن البصري من جلة التابعين ، ومن استمر سنين ينشر العلم في البصرة ، ويلازم مجلسه نبلاء أهل العلم ، وقد حضر مجلسه يوماً أُناس من رعاع الرواة ، و لمّا تكلموا بالسقط عنده قال ردّوا هؤلاء إلى حشا الحلقة ـ أي جانبها ـ فسمّوا الحشوية ، ومنهم أصناف المجسمة والمشبهة. (1)
    قال الصادق ( عليه السَّلام ) :
     « العامل على غير بصيرة كالسائر على سراب بقيعة ، لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً ». (2)
1 ـ تبيين كذب المفتري : 11.
2 ـ الوسائل : الباب 18 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 36.


(126)

(127)
الفصل الخامس
نظرة في كتب أهل الحديث
( الحنابلة والحشوية )
    لا نقاش في أنّ الحديث النبوي حجّة إلهية كالقرآن الكريم ولا يعدل المسلم المؤمن عنهما إلى غيرهما ، فالكتاب معجزة خالدة واللفظ والمعنى منه سبحانه ، وأمّا السنّة فلفظها للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والمفاد والمضمون منه سبحانه.
    فلا فرق بين قوله تعالى : ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم ) (1) وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « الصلح جائز بين المسلمين ». (2)
    كما لا فرق بين قوله سبحانه : ( فَتَيمَّمُوا صَعيداً طَيّباً ) (3) وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين ». (4)
    فالمسلم المؤمن باللّه وكتابه ورسالة نبيه لا يفرّق بين كتابه تعالى وكلامه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، كما لا يفرق بين قوله وفعله ، بين إشارته وتقريره ، فكلّ حجّة إلهية يجب العمل على وفقه ولا يكون المسلم مسلماً إلاّ إذا استسلم في هذه المجالات كلّها. قال سبحانه : ( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا
1 ـ الحجرات : 10.
2 ـ التاج الجامع للأُصول : 2/202 ، رواه الترمذي وأبو داود والبخاري.
3 ـ المائدة : 6.
4 ـ سنن الترمذي : 1/212 باب ما جاء في التيمم للجنب.


(128)
تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَي اللّه وَرَسُولهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ ) . (1)
    إنّ للحديث النبوي من جلالة الشأن وعلو القدر مالا يختلف فيه اثنان ، ولا يحتاج في إثباته إلى برهان. إذ هي الدعامة الثانية ـ بعد الذكر الحكيم ـ للدين والأخلاق ، والحكم والآداب ، ممّا يتمتع به المسلمون في دينهم ودنياهم.
    وهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة ، تقتضي مزيد العناية بها ودراستها بأحسن الأساليب العلمية والمنطقية ، حتى يتميّز الصحيح من الزائف ولا ينسب إليه كلّ ما يحمل اسم الحديث والسنّة ، أو كلّ ما يوجد في بطون الكتب وضمائر الأسفار ، معقولاً كان أو غير معقول ، مخالفاً كان للقرآن أو لا.
    إنّ قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « من كذب علي متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار » إخطار أكيد للواعين بأنّ أعداء الدين لبالمرصاد وسوف ينسبون إليه كلّ مغسول من البلاغة ، وعار عن الفصاحة وينقلون منه كلّ معنى ثقيل على الفطرة ، أو مضاد للعقل السليم ، الذي به عرفناه سبحانه وعرفنا براهين رسالة رسوله.
    وقد دق رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بكلامه هذا جرس الإنذار للأُمّة لا سيما للوعاة منهم وحفاظ أحاديثه حتى لا يظنوا أنّ كلّ ما يصل إليهم باسم الحديث هو الحديث النبوي على حقيقته ، بألفاظه ومعانيه ، وليس قبول كلّ حديث ـ ولو كان فيه ما في هـ آية التسليم للّه وللرسول ، وآية عدم التقدّم عليهما في ميادين الأُصول والفروع.
    ويتضح ذلك أشد الوضوح إذا وقفت على ما تلوناه عليك من أنّ الحديث النبوي رزيء بالموضوعات التي تولّى كبرها أعداء الدين والإسلام أوّلاً ، وتجرة الحديث ثانياً ، يضعون الأحاديث تزلّفاً إلى الحكام وتقرّباً منهم.
    هذا هو أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن رسول اللّه مع أنّه لم يصاحب النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلاّ سنتين أو أقلّ منهما جاء بروايات فيها
1 ـ الحجرات : 1.

(129)
طامات وغرائب بقيت على مر الدهر ، وقد أتعب شراح الصحاح والمسانيد أنفسهم الزكية لحلها وتوجيهها. غير أنّ المتحري للحقيقة ومن يرى أنّ الحقّ أولى من الصحابة والصحابي يرى في أحاديثه آثار الوضع والدس والاختلاق بما لا مجال في المقام لذكرها. (1)
    وقد أتينا في بعض الفصول السابقة بإلمامة توقفك على مأساة نقل الحديث والتحدّث به وكتابته ونشره بين الأُمّة ، وعرفت أنّ ترك الكتابة بل ترك التحدث كان فضيلة ، وخلافه بدعة. ولكن الظروف والأحوال ألجأت المسلمين إلى الكتابة والتدوين ونشره في أواخر النصف الأوّل من القرن الثاني.
    ولأجل ذلك صار العثور على الحديث الصحيح الذي حدث به رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمراً صعباً لما مر من دس الدسّاسين ووضع الوضّاعين تزلّفاً إلى أصحاب السلطة والعروش ، وغير ذلك من دواعي الجعل.
    غير أنّ الأحاديث والمأثورات المروية في كتب الحديث ، أخذت لنفسها بعد التدوين مقاماً عالياً ، وأضيفت إليها آراء الصحابة وأقوال التابعين فصار الجميع هو الأصل الأصيل في تنظيم العقائد وتشريع الأحكام سواء أكان موافقاً للقرآن أم مخالفاً ، وسواء أكان موافقاً للعقل السليم أم مخالفاً له ، وقد بلغ التحجّر بهم إلى حدّ أن قالوا :
    1 ـ إنّ السنّة لا تنسخ بالقرآن ، ولكن السنّة تنسخ القرآن وتقضي عليه ، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها. (2)
    2 ـ إنّ القرآن أحوج إلى السنّة من السنّة إلى القرآن. (3)
    3 ـ إنّ القول بعرض الأحاديث على الكتاب قول وضعه الزنادقة. (4)
1 ـ لاحظ في الوقوف على قيمة أحاديث أبي هريرة كتاب « أبوهريرة شيخ المضيرة » للعلاّمة المصري الشيخ محمود أبو رية.
2 ـ مقالات الإسلاميين : 2/251.
3 ـ جامع بيان العلم : 2/234.
4 ـ عون المعبود في شرح سنن أبي داود : 4/429.


(130)
    فبلغ بهم التقليد إلى حدّ صاروا يأخذون بظواهر كلّ ما رواه الرواة من الأخبار والآثار الموقوفة والمرفوعة ، والموضوعة والمصنوعة وإن كانت شاذة أو منكرة أو غريبة المتن أو من الإسرائيليات مثل ما روي عن كعب ووهب و ... أو معارضة بالقطعيات التي تعد من نصوص الشرع ومدركات الحس ويقينيات العقل ويكفّرون من أنكرها ويفسّقون من خالفها ... . (1)
    فإذا كان هذا مصير الحديث مع كونه مصدراً للعقائد والأُصول فلا محالة تنجم عنه مناهج ومذاهب لا تفترق عن معتقدات اليهودية والنصرانية والمجوسية بكثير. فظهرت بينهم مذاهب التجسيم والتشبيه والرؤية والجبر وقدم كلام اللّه وغيره ممّا سبقهم إليه أهل الكتاب في عهودهم القديمة والحديثة. وما هذا إلاّ لأجل أنّ الأحاديث المروية صارت حجّة في مفادها ودليلاً في مضامينها على إطلاقها من دون نظر في إسنادها ، أو دقة في معانيها ، ومن دون عرضها على الكتاب والعقل.
    فإذا كان الحديث بهذا المعنى مصدراً للأُصول والعقائد ، فلا محالة تكون العقيدة الإسلامية أسيرة ما حدث عنه أصحاب الحديث في القرون الثلاثة الأُولى ، فيوجد فيها ما أوعزنا إليه من مسألة التجسيم وأخواتها.
    إنّ التجسيم والتشبيه والجبر وخلق الأعمال ، التي ابتلي بها المسلمون في القرون الأُولى ، وبقيت آثارها إلى العصور الأخيرة ، كلّها من نتائج غفلة عدّة من المحدّثين وتقصيرهم في هذا المجال. فرووا مناكير الروايات ، واغتروا بها ، وبالتالي تورطوا في جهالات متراكمة ، وظلمات متكاثفة ، نأتي بأسماء عدّة من هؤلاء وآثارهم الباقية ، وإلاّفالمحدّثون المشبهون أكثر من هؤلاء بكثير ، إلاّأنّ الدهر أكل على آثارهم وشرب :
    1 ـ عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني ، صاحب المسند ، ولد قبل المائتين بيسير ، وتوفي عام 280 هـ ، له كتاب
1 ـ من كلام السيد رشيد رضا تلميذ الإمام عبده ، لاحظ الأضواء : ص 23.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس