بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 151 ـ 160
(151)
يتحرز عن كلتا الطائفتين ، فليس هنا وجه ثالث يلتجئ إليه أهل الحديث والحنابلة والأشاعرة.
    فظهر أنّ قولهم بأنّ للّه يداً كالأيدي ، لا مفاد صحيح له.
    وبعبارة ثالثة : إنّ لفظة اليد إمّا مشترك معنوي يطلق على جميع مصاديقه وأفراده من الواجب والممكن بوضع ومعنى واحد. أو مشترك لفظي يجري على كلّ من الواجب والممكن بمعنى ووضع خاص.
    فعلى الأوّل يجب أن يكون بين يد الإنسان ويد الواجب وجه مشترك وهو عين القول بالتشبيه.
    وعلى الثاني يجب أن يكون المعنى الذي يجري على الإنسان مبائناً لما يجري على اللّه سبحانه فهل هو البخل والجود؟ فهذا هو التأويل بزعمكم ، أو غيرهما فبيّنوه لنا ما هو؟

الصحاح والمسانيد ومسألة التشبيه والتجسيم
    ربما يتصوّر القارئ أنّ أمثال كتاب « السنّة » لابن حنبل وكتاب « التوحيد » لابن خزيمة ، تشتمل على أحاديث التشبيه والتجسيم ، وأمّا الصحاح فهي خالية عن هذه الأساطير. ولكنّه إذا سبرها سرعان ما يرجع عن هذه الفكرة ويرى أنّ الصحاح كلّها وعلى رأسها الصحيحان قد زخرت بها ، حتّى مع غض النظر عن رؤية اللّه بهذه العيون المادية على ما رووا عن رسول اللّه من أنّه قال : « إنّكم ترون ربّكم عياناً كما ترون هذا القمر » فالصحاح أيضاً تزخر بأحاديث التشبيه والتجسيم والجبر وما أشبه ذلك التي ورثها الرواة المسلمون من اليهود المجسمة والمجبرة ... وإليك نماذج من ذلك :
1 ـ إنّ للّه مكاناً
    قد احتل تحيّزاللّه سبحانه بمكان معين في الصحاح مكانة عظيمة فتارة ترى أنّ مكانه حيال المصلّي وأمام وجهه ، وأُخرى بأنّه فوق العرش وهو يئط


(152)
تحته أطيط الرحل بالراكب ، وثالثة بين السحب الكثيفة ، وإليك بعض ما روي في ذلك المجال :
    1 ـ روى عبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه بيده ثمّ أقبل على الناس فقال : « إذا كان أحدكم يصلي لا يبصق قبل وجهه فإنّ اللّه قبل وجهه إذا صلّى ». (1)
    2 ـ روى جبير بن محمد عن جدّه قال : أتى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أعرابي فقال : يا رسول اللّه جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق اللّه لنا ، فإنّا نستشفع بك على اللّه ونستشفع باللّه عليك.
    قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فمازال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثمّ قال : ويحك إنّه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه ، شأن اللّه أعظم من ذلك ، ويحك أتدري ما اللّه : إنّ عرشه على سماواته لهكذا ، وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنّه ليئط به أطيط الرحل بالراكب.
    قال ابن بشار : إنّ اللّه فوق عرشه وعرشه فوق سماواته. (2)
    3 ـ روى أبو رزين قال : قلت : يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : « كان في عماء ، ما تحته هواء و ما فوقه هواء و ماء ثمّ خلق عرشه على الماء ». (3)
    قال ابن منظور : العماء ( ممدودة ) : السحاب المرتفع وقيل الكثيف. قال أبو زيد هو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال وقال ابن سيده : العماء : الغيم الكثيف الممطر.
1 ـ صحيح البخاري : 1 ، كتا ب الصلاة باب « حك البزاق باليد في المسجد » ولاحظ أيضاً كتاب الصلاة باب « هل يلتفت لأمر ينزل » و صحيح مسلم : 2 ، باب « النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة ».
2 ـ سنن أبي داود : 4/232 ، رقم الحديث 4726 ، باب في الجهمية.
3 ـ سنن ابن ماجة : 1/78 ، باب فيما أنكرت الجهمية.


(153)
    وعلى هذه الأحاديث نسجت عقيدة أهل الحديث والسلفية ، وقال ابن تيمية محيي طريقتهم في القرن الثامن بعد اندراسها :
    إنّه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، علي على خلقه. (1)
    إنّ هذه الروايات ونظائرها التي اكتفينا بالقليل منها أوجدت حجاباً غليظاً أمام الحقائق ، فلم يقدر أحد حتى المتحرّرون من أهل السنّة كالشيخ محمّد عبده وأتباع منهجه وتلامذة مدرسته على رفض تلك النصوص المخالفة للعقل الذي به عرف سبحانه وصدق نبيّه وإعجاز كتابه. حتى التجأ الإمام أحمد ـ لأجل هذه الأحاديث ـ إلى تأويل الآيات الدالّة على كونه سبحانه محيطاً بالعالم كلّه ، أعني قوله سبحانه : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) (2) وقال : إنّ المراد هو إحاطة علمه سبحانه لا معيته وجوداً. (3)

نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا
    لم يقتنع أصحاب الحديث بما وصفوا به سبحانه من نسبة التحيز والمكان إليه حتى أثبتوا له الهبوط إلى السماء الدنيا. روى أبو هريرة أنّ رسول اللّه قال : « ينزل ربنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟ ». (4)
    بل لم يقتنعوا بهذا وأثبتوا له الضحك. وهذا البخاري روى في حديث : فلمّا أصبح غدا إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : ضحك اللّه الليلة أو عجب من فعالكما. (5)
1 ـ مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية ، والعقيدة الواسطية ص 401.
2 ـ الحديد : 4.
3 ـ السنّة : 36.
4 ـ صحيح البخاري : 2/53 باب « الدعاء والصلاة من آخر الليل ».
5 ـ صحيح البخاري : 5/34 باب ( وَيؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) من كتاب مناقب الأنصار.


(154)
    وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « يضحك اللّه لرجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ». قالوا : كيف يا رسول اللّه؟ قال : « يقتل هذا فيلج الجنة ثمّ يتوب اللّه على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثمّ يجاهد في سبيل اللّه فيستشهد ». (1)
له سبحانه أعضاء ، كأعضاء الإنسان
    وذهب أصحاب الصحاح في المجال إلى أكثر من ذلك ولم يقفوا عند ما ذكرناه من الصفات حتى أخذوا يصوّرونه كإنسان له أعضاء كالوجه واليد والأصابع والحقو ، والساق والقدم ، والقلم يخجل من نشر هذه الأساطير التي أدرجت ـ مع الأسف ـ باسم الحديث عن النبي الخاتم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في الكتب وزخرت بها الصحاح ، ونسجت على منوالها العقائد والأُصول ، وعدّ من خالفها مرتداً كافراً يضرب عنقه وتقسم أمواله على الورثة.
    ولأجل إيقاف القارئ على صدق ما ادّعيناه في حقّ أصحاب الصحاح نأتي من كلّ مورد بنموذج أو نموذجين :
1 ـ الوجه
    عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « خلق اللّه آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ... ». (2)
    عن أبي هريرة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإنّ اللّه خلق آدم على صورته ». (3)
    وقد أخذه أبو هريرة عن الأحبار و على رأسهم كعب الأحبار أُستاذه في
1 ـ صحيح مسلم : 6/40 ، باب « بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة » من كتاب الإمارة.
2 ـ صحيح البخاري : 8/50 كتاب الاستئذان باب « بدو السلام ».
3 ـ صحيح مسلم : 8/32 باب « النهي عن ضرب الوجه » من كتاب البر والصلة والآداب.


(155)
الأساطير والقصص. فهذه هي التوراة قد جاء فيها في الإصحاح الخامس من سفر التكوين : لما خلق اللّه آدم ، خلقه على صورة اللّه.
    وكان على أبي هريرة أن يبيّن عرض وجه آدم بعد أن بين أنّ طوله كان ستين ذراعاً ، واللّه يعلم طول وجهه وعرضه وهو القائل ( لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم ) . (1)
2 ـ له سبحانه يدان
    روى أبوهريرة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « إنّ يمين اللّه ملأى لاتغيضها نفقة ، سحّاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنّه لم ينقص ما في يمينه ، وعرشه على الماء وبيده الأُخرى الفيض أو القبض ، يرفع ويخفض ». (2)
3 ـ له سبحانه أصابع
    روي عن عبد اللّه قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا محمد إنّ اللّه يجعل السماوات على أصبع والأرضين على اصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلائق على أصبع فيقول أنا الملك. فضحك النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثمّ قرأ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( وَمَا قَدَروا اللّهَ حقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَميعاً قَبضتُهُ يَومَ القِيامَةِ وَالسَّمواتُ مَطوياتٌ بيمينهِ سُبحانهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُون ). (3)
4 ـ له سبحانه حقو! (4)
    عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « خلق اللّه الخلق
1 ـ التين : 4.
2 ـ صحيح البخاري : 9/124 ، باب « وكان عرشه على الماء » من كتاب التوحيد.
3 ـ صحيح البخاري : 6/126 تفسير سورة الزمر. والآية 67 من سورة الزُّمر.
4 ـ الحقو : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف.



(156)
فلمّا فرغ قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن ، فقال له : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : ألا ترضين أنّ أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ، قالت : بلى يا رب قال : فذاك ». (1)
5 ـ اللّه سبحانه وساقه!
    روي عن أبي سعيد قال : سمعت النبي يقول : « يكشف ربّنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً ». (2)
6 ـ اللّه سبحانه وقدمه!
    روي عن أنس ، عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول : قط قط ». (3)
    هذه نماذج ممّا ورد في الصحاح من أحاديث التشبيه والتجسيم اكتفينا من كلّ مورد بحديث واحد. وقد تركت هذه الأحاديث آثاراً سلبية في معتقدات المسلمين فمن مشبه يقول : اعفوني من الفرج واللحية وسلوني عمّا وراء ذلك (4) ، إلى متمسك بظواهرها لكن بلا تكييف ، إلى مؤول يحملها على معان بعيدة عن ظاهرها ليتخلص عن مغبة التجسيم.
    ولو أنّهم رجعوا إلى الذكر الحكيم وعرضوا هذه الأحاديث عليه لميّزوا الصحيح عن الزائف ، والمقبول عن المردود. ( وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ ) . (5)
1 ـ صحيح البخاري : 6/134.
2 ـ صحيح البخاري : 6/159 تفسير سوره ن والقلم.
3 ـ صحيح البخاري : 6/138 تفسير سورة ق.
4 ـ الملل والنحل للشهرستاني : ص 105 فصل المشبهة.
5 ـ النساء : 66.



(157)
الجبر في ثوب الإيمان بالقدر
    ذلك بعض ما ورد في الصحاح حول التجسيم والتشبيه وإنّا نجل النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وصحابته الأخيار عن أن ينبسوا بشيء منها ببنت شفة ، وإنّما هي أساطير وأوهام أخذها الضعاف من الرواة عن الأحبار والرهبان من دون اكتراث ولا مبالاة.
    وأمّا أحاديث الجبر ونفي الاختيار وأنّ الإنسان في الحياة كالريشة في مهب الرياح فحدّث عنها ولا حرج. فالصحاح تزخر بها في باب الإيمان بالقدر ، وسيوافيك بعضها عند البحث عنه ، ولو صحت هذه الأحاديث لما بقي لبعث الأنبياء وتكليف العباد بالواجبات والمحرّمات وغيرها معنى معقول.
    ونذكر هنا ما لا نذكره هناك :
    1 ـ روى الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : خرج علينا رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول اللّه إلاّ أن تخبرنا. فقال للذي بيده اليمنى : هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ، وقال للذي في شماله : هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثمّ أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً. قال أصحابه : ففيم العمل يا رسول اللّه إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال : سدّدوا وقاربوا فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنّة ، وإن عمل أي عمل ، وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار ، وإن عمل أي عمل ، ثمّ قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بيده فنبذهما ثمّ قال : فرغ ربكم من عمل العباد ، فريق في الجنة وفريق في السعير. (1)
1 ـ جامع الأُصول : 10/513 ، رقم الحديث 7555.

(158)
    ولا يخفى أنّ السؤال الوارد في الحديث موجه جدّاً ، والجواب عنه غير مقنع ، فما معنى قوله : « سددوا وقاربوا »؟ لأنّه إذا كان الأمر قد فرغ منه فما معنى التسديد والتقارب؟! وما معنى الحث على التوبة والإنابة؟! ولماذا جعل فريقاً في الجنّةوفريقاً في السعير مع كونه رحماناً على الكل ، لا قسيّاً ولا متعنّتاً؟!
    2 ـ روى البخاري ومسلم والترمذي عن علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) : قال : « كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ، ثمّ قال : ما منكم من أحد إلاّوقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا : يا رسول اللّه أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال : اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة. وأمّا من كان من أهل الشقاء ، فسيصير لعمل أهل الشقاء ، ثمّ قرأ ( فَأَمّا مَنْ أَعْطى واتَّقى* وَصَدَّقَ بِالحُسْنى* فَسَنُيَسِّرهُ لِلْيُسْرى ) (1) . أخرجه البخاري ومسلم. (2)
    وفي رواية الترمذي قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقعد وقعدنا ومعه مخصرة فجعل ينكت بها ثمّ قال : ما منكم من أحد أو من نفس منفوسة ، إلاّ وقد كتب اللّه مكانها من الجنة والنار ، وإلاّ وقد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل : يا رسول اللّه أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منّا من أهل السعادة ليكونن إلى أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى أهل الشقاوة. فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : بل اعملوا فكلّ ميسر ، فأمّا أهل السعادة ، فييّسّرون لعمل أهل السعادة ، وأمّا أهل الشقاوة ، فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثمّ قرأ ( فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى* وَصَدَّقَ بِالحُسْنى* فَسَنُيَسِّرهُ لِلْيُسرى* وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى* وَكَذَّبَ بِالحُسْنى* فَسَنُيَسِّرهُ لِلْعُسرى ) (3) . (4)
1 ـ الليل : 5 ـ 7.
2 ـ جامع الأُصول : 10/513 ، رقم الحديث 7555.
3 ـ الليل : 5 ـ 10.
4 ـ جامع الأُصول : 10/515 ـ 516 ، رقم الحديث 7557 وذيله.


(159)
    3 ـ وفي أُخرى للترمذي : قال : بينما نحن مع رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو ينكت في الأرض إذ رفع رأسه إلى السماء ثمّ قال : ما منكم من أحد إلاّ قد علم ـ و في رواية إلاّقد كتب ـ مقعده من النار ومقعده من الجنة ، قالوا : أفلا نتّكل يا رسول اللّه؟ قال : لا ، اعملوا ، فكلّ ميسر لما خلق له. وأخرج أبو داود الرواية الأُولى من روايتي الترمذي. (1)
    و هذه الروايات لا تصف العبد فقط بأنّه مكتوف اليد بل تصف اللّه أيضاً مكتوف اليد ومغلولها فلا يخضع القدر لقدرته ، فلا يقدر على تغييره وتبديله. وهذا بنفسه نفس عقيدة اليهود التي نقلها القرآن عنهم ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيديهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشاء ) . (2)
كلام أحمد حول القدر
    السابر في كتب أهل الحديث يرى أنّهم يهتمون بأمر التقدير أكثر من اهتمامهم بسائر المسائل العقائدية ، وكأنّ الاعتقاد بالتقدير عندهم أهمّ من الاعتقاد بالمبدأ والمعاد.
    ولأجل ذلك لا ترى تشاجراً ولا بحثاً مبسوطاً حول إمكان المعاد ، ورفع شبهاته وتبيين خصوصياته. ولكن التقدير قد احتل مكانة مرموقة في مجال العقيدة.
    وهذا القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى قد أخرج في كتابه ما أملاه أحمد ابن محمد بن حنبل أو كتبه باسم « عقيدة أهل السنّة » وممّا جاء فيه (3) : قال : والقدر خيره وشره ، وقليله وكثيره ، وظاهره وباطنه ، وحلوه ومره ، ومحبوبه ومكروهه ، وحسنه وسيئه ، وأوّله وآخره ، من اللّه ، قضاء قضاه ، وقدر قدّره عليهم ، لا يعدو واحد منهم مشيئة اللّه عزّوجلّ ، ولا يجاوز قضاءه ، بل
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ المائدة : 64.
3 ـ طبقات الحنابلة : 1/25 ـ 27.


(160)
هم كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له ، واقفون فيما قدر عليهم لأفعاله ، وهو عدل منه عزّربّنا وجل ، والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر ، من غير أن يكون لأحد من الخلق على اللّه حجّة ، بل للّه الحجّة البالغة على خلقه ، ( لا يُسْألُ عَمّا يَفْعلُ وهُمْ يُسألُونَ ) (1) وعلم اللّه عزّ وجلّ ماض في خلقه بمشيئة منه ، قد علم من إبليس ومن غيره ممّن عصا هـ من لدن أن عصى تبارك و تعالى إلى أن تقوم الساعة ـ المعصية ، وخلقهم لها ، وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها. وكلّ يعمل لما خلق له ، وصائر لما قضى عليه وعلم منه ، لا يعدو واحد منهم قدر اللّه ومشيئته. واللّه الفاعل لما يريد ، الفعّال لما يشاء.
    ومن زعم أنّ اللّه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة وأنّ العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية ، فعملوا على مشيئتهم ، فقد زعم أنّ مشيئة العباد أغلظ من مشيئة اللّه تبارك و تعالى ، فأي افتراء أكثر على اللّه عزّوجلّ من هذا؟
    ومن زعم أنّ الزنى ليس بقدر ، قيل له : أرأيت هذه المرأة ، حملت من الزنى وجاءت بولد ، هل شاء اللّه عزّوجلّ أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال : لا ، فقد زعم أنّ مع اللّه خالقاً وهذا هو الشرك صراحاً.
    ومن زعم أنّ السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ، ليس بقضاء وقدر ، فقد زعم أنّ هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره ، وهذا صراح قول المجوسية. بل أكل رزقه وقضى اللّه أن يأكله من الوجه الذي أكله.
    ومن زعم أنّ قتل النفس ليس بقدر من اللّه عزّوجلّ ، وأنّ ذلك ( ليس ) بمشيئته في خلقه ، فقد زعم أنّ المقتول مات بغير أجله. وأي كفر أوضح من هذا. بل ذلك بقضاء اللّه عزّ وجلّ وذلك بمشيئته في خلقه ، وتدبيره فيهم ، وما جرى من سابق علمه فيهم. وهو العدل الحقّ الذي يفعل ما يريد ، ومن أقرّ بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقماءة. (2)
1 ـ الأنبياء : 23.
2 ـ طبقات الحنابلة للقاضي محمد بن أبي يعلى : 1/25 ـ 26.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس