بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 191 ـ 200
(191)
الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر.
    وعلّله الشارح التفتازاني بقوله : لأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم. (1)

ما استدلّوا به من روايات لإطاعة الجائر
    وقد أيّدت تلك العقائد بروايات ربما يتصور القارئ انّ لها نصيباً من الحقّ أو حظاً من الصدق لكن الحقّ أنّ أكثرها مفتعلة على لسان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد أفرغها في قالب الحديث جمع من وعاظ السلاطين ومرتزقتهم تحفّظاً على عروشهم وحفظاً لمناصبهم ، وإليك بعض تلك الروايات التي رواها مسلم في صحيحه :
    1 ـ روى مسلم ، عن حذيفة بن اليمان ، قلت : يا رسول اللّه ... إلى أن قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنّتي ، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ، قال : قلت : كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع.
    2 ـ وروي عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة الجاهلية ... إلى أن قال : ومن خرج على أُمّتي يضرب برها وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس منّي ولست منه.
    3 ـ روي عن ابن عباس أنّه قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنّه من فارق الجماعة شبراً فمات ، فميتته جاهلية.
    4 ـ روي عنه أيضاً ، عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : من
1 ـ شرح العقائد النسفية : 185و 186.

(192)
رأى من أميره شيئاً فليصبر ، فإنّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّمات ميتة جاهلية.
    5 ـ روي عن عبد اللّه بن عمر ، أنّه جاء إلى عبد اللّه بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال : أخرجوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إنّي لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدّثك حديثاً سمعت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقوله : من خلع يداً من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
    وقد فسر ابن عمر قول رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بلزوم بيعة يزيد وإطاعته حتى في مسألة الحرة.
    6 ـ روي عن أُمّ سلمة ، أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « ستكون أُمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف بريء و من أنكر سلم ولكن من رضي وتابع ». قالوا يا رسول اللّه : ألا نقاتلهم؟ قال : « لا ما صلّوا ».
    7 ـ روي عن عوف بن مالك في حديث : قيل يا رسول اللّه أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعته. (1)
    وقد أورد ابن الأثير الجزري قسماً من هذه الأحاديث في « جامع الأُصول ». (2)
    8 ـ روى البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : سيكون بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون ، ويفعلون بما يؤمرون وسيكون بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون مالا يؤمرون ، فمن أنكر عليهم برئ ومن أمسك يده سلم ولكن من رضي وتابع. (3)
1 ـ صحيح مسلم : 6/20 ـ 24 ، باب الأمر بلزوم الجماعة ، وباب حكم من فارق أمر المسلمين.
2 ـ لاحظ جامع الأُصول : 4 ، الكتاب الرابع في الخلافة والأمارة ، الفصل الخامس ص 451 الخ.
3 ـ السنن الكبرى : 8/158.


(193)
     9 ـ وروى ابن عبد ربه ، عن عبد اللّه بن عمر : إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر ، وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر. (1)
    10 ـ وهذه الأحاديث تهدف إلى قول أحمد بن حنبل فقد عرفت ما في إحدى رسائله وهذا نصّه : السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمّي أمير المؤمنين ، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة. (2)
    عرض أحاديث إطاعة الجائر على القرآن
    وقبل كلّ شيء يجب علينا أن نعرض تلك الروايات على كتاب اللّه سبحانه فإنّه المحك الأوّل لتشخيص الحديث الصحيح من السقيم.
    قال سبحانه حاكياً عن العصاة والكفّار : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنا اللّهَ وَأَطَعنا الرَّسُولا* و قالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سَادَتَنا وَكُبَرَاءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ العَذابِ وَالعَنْهُمْ لَعْناً كَبيراً ). (3)
    فهذا القسم من الآيات يندّد بقول من يرى وجوب طاعة السلطان الظالم التي توجب ضلالة المطيع له عن السبيل السوي ، وثمة آيات تندّد بعمل من يصبر على عمل الطاغية من دون أن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر ، وترى نفس السكوت والصبر على طغيان الطاغية جرماً وإثماً موجباً للهلاك ، وهذه الآيات هي الواردة حول قوم بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون قرب ساحل من سواحل البحر فتقسّمهم إلى أصناف ثلاثة :
    الأوّل : الجماعة المعتدية العادية التي رفضت حكم اللّه سبحانه حيث حرم عليهم صيد البحر يوم السبت قال سبحانه : ( إِذْ يعدون في السّبت إِذ
1 ـ العقد الفريد : 1/8.
2 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : 2/322.
3 ـ الأحزاب : 66 ـ 68.


(194)
تَأْتيهِمْ حيتانُهُمْ يَوْم سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَومَ لا يَسْبِتُون لا تَأْتيهِمْ ... ). (1)
    الثاني : الجماعة الساكتة التي أهمّتهم أنفسهم لا يرتكبون ماحرم اللّه وفي الوقت نفسه لا ينهون الجماعة العادية عن عدوانها ، بل كانوا يعترضون على الجماعة الثالثة التي كانت تقوم بواجبها الديني من إرشاد الجاهل والقيام في وجه العاصي والطاغي ، بقولهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) . (2)
    الثالث : الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر معتبرين ذلك وظيفة دينية عريقةونصيحة لازمة للإخوان وقد حكى اللّه سبحانه عن لسانهم في محكم كتابه العزيز حيث قال : ( مَعْذِرةً إِلى ربِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُون ) . (3)
    نرى أنّ اللّه سبحانه أباد الطائفتين الأوّليين وأنجى الثالثة. قال سبحانه : ( فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذاب بَئيس بِما كانُوا يَفْسُقُون ) . (4)
    فالآية الأخيرة صريحة في حصر النجاة في الناهين عن السوء فقط وهلاك العادين والساكتين عن عدوانهم ، فلو كان السكوت والصبر على عدوان العادين أمراً جائزاً لماذا عمّ العذاب كلتا الطائفتين؟ أو ما كان في وسع هؤلاء أن يعتذروا للقائمين بالأمر بالمعروف ، بأنّ في القيام والخروج وحتى في النصيحة بالقول ، تضعيفاً لقوة الأُمّة وفكّاً لعراها؟
    فلو دلّت الآية الأُولى على حرمة طاعة الظالم في الحرام ، ودلّت الآية الثانية على حرمة السكوت في مقابل طغيان العادين ، فهناك آية ثالثة تدلّ على حرمة الركون إلى الظالم يقول سبحانه : ( وَلا تَركَنُوا إِلى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّار ). (5)
1 ـ الأعراف : 163.
2 ـ الأعراف : 164.
3 ـ الأعراف : 164.
4 ـ الأعراف : 165.
5 ـ هود : 113.


(195)
    أو ليس تأييد الحاكم الجائر والدعاء له في الجمعة والجماعات وإقامة الصلاة بأمره ، وإدارة كلّ شأن خوّل منه إليه ، يعد ركوناً إلى الظالم؟! فما هو جواب هؤلاء المرتزقة في ما يسمّى بالدول الإسلامية الذين يعترفون بجور حكامهم وانحرافهم عن الصراط السوي ، ومع ذلك يدعون لهم عقب خطب الجمعات بطول العمر ودوام السلامة ويديرون الشؤون الدينية حسب الخطط التي يرسمها ويصوّرها لهم أُولئك الحكام ، الذين يعدهم هؤلاء المرتزقة محاور ومراكز ، ويعدّون أنفسهم أقماراً تدور في أفلاكها ، اللّهمّ إلاّ أن يعتذر هؤلاء بعدم التمكّن ممّا يجب عليهم من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على مراتبها المختلفة ، ولكنّه عذر لا يقبل في كثير من الأحيان ، وعلى ذلك الأساس فما قيمة تلك الروايات المعارضة لنصوص الكتاب وصريح الذكر الحكيم؟!
أحاديث معارضة لأحاديث طاعة الجائر
    إنّ هناك روايات تنفي صحّة الروايات السابقة وتجعلها في مدحرة البطلان وقد نقلها أصحاب الصحاح والسنن أيضاً وعند المعارضة يؤخذ من السنّة الشريفة ما يوافق كتاب اللّه الحكيم. وإليك نزراً من تلك الروايات :
    قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « اسمعوا : سيكون بعدي أمراء ، فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس منّي ولست منه ، وليس بوارد علي الحوض ». (1)
    هذا بعض ما لدى السنّة من الروايات ، و أمّا ما لدى الشيعة فنأتي ببعضها :
    1 ـ عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « ألا ومن علق سوطاً بين يدي سلطان ، جعل اللّه ذلك السوط يوم القيامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً يسلّطه اللّه عليه في نار جهنم وبئس المصير ».
1 ـ جامع الأُصول : 4/75 نقلاً عن الترمذي والنسائي.

(196)
    2 ـ وعنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ، ومن لاق لهم دواة أو ربط لهم كيساً ، أو مد لهم مدة قلم ، فاحشروهم معهم ».
    3 ـ وعنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « من خفّ لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار ».
    4 ـ وقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّتباعد من اللّه ».
    5 ـ وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السَّلام ) أنّه قال : « من أحبّ بقاء الظالمين ، فقد أحبّ أن يعصى اللّه ».
    6 ـ و عنه ( عليه السَّلام ) أنّه قال : « من سوّد اسمه في ديوان الجبّارين حشرهاللّه يومالقيامة حيراناً ».
    7 ـ وعنه ( عليه السَّلام ) أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم ، فقد خرج عن الإسلام ».
    8 ـ وعن الإمام الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السَّلام ) أنّه قال : « ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة ، أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها ، لا ، ولا مدة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يفرغ اللّه من الحساب ». (1)
    وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأهل بيته المعصومين ( عليهم السَّلام ) الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثّة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكلّ الوسائل الممكنة ، فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ ما مرّ من الروايات الحاثة على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه ، والرضا بجوره ، جميعها
1 ـ راجع لمعرفة هذه الأحاديث وسائل الشيعة : 12 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، الأحاديث 6 ، 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15و الباب 44 الحديث 5 و 6.

(197)
ممّا لفّقه رواة السوء والجور بإيعاز من السلطات الحاكمة في تلك العصور المظلمة ، فنسبوه إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو ـ روحي فدا هـ منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسنّة الصحيحة.
    ولو لم يكن في المقام إلاّ قول علي ( عليه السَّلام ) في خطبته : « ... وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ... » (1) لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).

    وفي ختام الكلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما قاله الإمام أبو الشهداء الحسين بن علي ( عليهما السَّلام ) لأهل الكوفة حيث خطب أصحابه وأصحاب الحرّ ( قائد جيش عبيد اللّه بن زياد آنذاك ) فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال : « أيّها الناس إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيّر ». (2)
    وهذه النصوص الرائعة المؤيّدة بالكتاب والسنّة وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين قاموا في وجه الطغاة من بني أُمّية وبني العباس ، تشهد بأنّ ما نسب إلى الصحابة والتابعين من الاستسلام والسكوت على ظلم الظالمين لكون ذلك من عقيدتهم الإسلامية ما هو إلاّ بعض مفتعلات أصحاب العروش وقد وضعها وعّاظهم ومرتزقتهم ، وإلاّفالطيّبون من الصحابة والتابعين بريئون من هذه النسبة.
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 3.
2 ـ تاريخ الطبري : 4/304 ، حوادث سنة 61.


(198)
صراع بين العقيدة والوجدان
    نرى أنّ بعض الشباب المسلم في البلاد الإسلامية ، قد انخرطوا في الأحزاب السياسية ، ورفضوا الدين من أساسه ، ولعلّ بعض السبب هو أنّهم وجدوا في أنفسهم صراعاً بين العقيدة والوجدان. فمن جانب ، توحي إليهم فطرتهم وعقيدتهم الإنسانية السليمة ، أنّه تجب مكافحة الظالمين ، والخروج عليهم ، ونصرة المظلومين وانتزاع حقوقهم من أيدي الظالمين; ومن جانب آخر يسمعون من علماء الدين أو المتزيين بلباسهم ، أنّه لا يجوز الخروج على السلطان ، بل تجب طاعته وإن أمر بالظلم والعدوان. فحينئذ يقع الشاب في حيرة من أمره بين اتّباع الفطرة والعقل السليم ، واتّباع كلام هؤلاء العلماء الذين ينطقون باسم الدين خصوصاً إذا كان المتكلّم رجلاً يكيل له المجتمع الاحترام والإكبار ، ويعرفه التاريخ بالخطيب الزاهد ، كالحسن البصري فإنّه عندما سئل عن مقاتلة الحجاج ـ ذلك السيف المشهر على الأُمّة والإسلام ـ فأجاب : أرى أن لا تقاتلوه ، فإنّه إن يكن عقوبة من اللّه ، فما أنتم برادّيها ، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين.فخرج السائلون من عنده وهم يقولون مستنكرين ما سمعوا منه : أنطيع هذا العلج. ثمّ خرجوا مع ابن الأشعث إلى قتال الحجاج. (1)
    فإذا سمع الشاب الثوري هذه الكلمة من عميد الدين وخطيب هـ كما يقال ـ عاد يصف جميع رجال الدين بما وصف به الحسن البصري ، وبالتالي يخرج من الدين ويتركه ، ويصف الدين سناداً للظالم وملجأ له.
    وفي الختام نوجه نظر الأعلام من السنّة إلى خطورة الموقف في هذه الأيّام ، وأنّ أعداءالإسلام لبالمرصاد يصطادون الشباب بسهام الدعاية الكاذبة ، ويعرّفون الإسلام بأنّه سند الظالمين وركن الجائرين بحجة أنّه ينهى عن الخروج على السلطان الجائر.
1 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد : 7/164.

(199)
    والمسلم غير العارف بالدين وما أُلصق به ، لا يميّز بين الحقيقة الناصعة وبين ما أُلبس عليها من ثوب رديء قاتم.
    وليس هذا أوّل ولا آخر مورد يجد الشاب الثوري صراعاً في نفسه بين العقلية الإنسانية والدعاية الكاذبة عن الإسلام ، فيختار وحي الفطرة ويصبح ثائراً على القوى الطاغية ، ويظن أنّه ترك الإسلام بظن أنّ المتروك هو الدين الحقيقي الذي أنزله اللّه تعالى على النبي محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، و هذه الجريمة متوجهة بالدرجة الأُولى إلى هذا النمط من العلماء.
    فواجب علماء الدين أن يرجعوا إلى المصادر الإسلامية الصحيحة في تشخيص ما هو من صميم الدين عمّا أُلصق به ، ولا يقتنعوا بما كتب باسم الدين عن السلف الصالح ، وليس كلّ ما نسب إلى السلف الصالح ، أو قالوا به من صميم الدين ، كما أنّه ليس كلّ سلف صالحاً ، بل هم بين صالح وطالح ، وسعيد وشقي ، وعالم وجاهل ، وليس كلّ سلف أفضل وأتقى وأعلم من كلّ خلف ، فليذكروا المثل السائر : « كم ترك الأوّل للآخر » ، فليدرسوا الأُصول المسلّمة من رأس ، نعم لا أنكر أنّ هناك أُناساً واقفين على الحقيقة ولكنّهم يكتمونها ، لأنّ مصالحهم الشخصية لا تقتضي إظهارها ، وقد نزل فيهم قوله سبحانه : ( إِنَّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ أُولئكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُون ) (1) ، كما أنّ بينهم شخصيات لامعة جاهروا بالحقيقة وأصحروا بها واشتروا رضا الرب بأثمان غالية وتضحيات ثمينة.
    فهذا إمام الحرمين يقول : إن الإمام إذاجار وظهر ظلمه وغشمه ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه ، فلأهل الحل والعقد ، التواطؤ على ردعه ، ولو بشهر السلاح ونصب الحروب. (2)
    في الختام نعطف نظر القارئ الكريم إلى قوله سبحانه عندما يأمر
1 ـ البقرة : 159.
2 ـ شرح المقاصد : 2/272.


(200)
المؤمنات بالبيعة مع النبي ويقول : ( ولا يَعْصينَك فِي مَعْرُوف ) (1) فيقيد إطاعة النبي وحرمة مخالفته بما إذا أمر بالمعروف ، ومن المعلوم أنّ النبي الأكرم معصوم لا يأمر بالمنكر أبداً وإنّما هو لتعليم غيره ، فهل يجوز لمسلم أن يقول بوجوب طاعة السلطان الجائر إذا أمر بالجور والمنكر؟!
( وَقالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا* رَبّنا آتِهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ الْعَذابِ والعَنْهُمْ لَعْناً كَبيراً ) . (2)
1 ـ الممتحنة : 12.
2 ـ الأحزاب : 67 ـ 68.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس