بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 201 ـ 210
(201)
(2)
عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان
    عدالة الصحابة كلّهم بلا استثناء ، ونزاهتهم من كلّ سوء هي أحد الأُصول التي يتديّن بها أهل الحديث ، وقد راجت تلك العقيدة بينهم حتى اتخذها الإمام الأشعري أحد الأُصول التي يبتني عليها مذهب أهل السنّة جميعاً (1) ، ونحن نعرض هذه العقيدة على الكتاب أوّلاً ، وعلى السنّة النبوية الصحيحة ثانياً ، وعلى التاريخ ثالثاً حتى يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره إن شاء اللّه تعالى ، ولكن قبل أن ندخل في صلب المسألة نقدّم تعريف الصحابي فنقول :
من هو الصحابي؟
    إنّ هناك تعاريف مختلفة للصحابي نأتي ببعضها على وجه الإجمال :
    1 ـ قال سعيد بن المسيب : « الصحابي ، ولا نعدّه إلاّ من أقام مع رسولاللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين ».
    2 ـ قال الواقدي : رأينا أهل العلم يقولون : كلّ من رأى رسول اللّه وقد أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول اللّه ، ولو
1 ـ مقالات الإسلاميين : 1/323 يقول : « ويعرفون حقّ السلف الذين اختارهم اللّه سبحانه بصحبة نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عمّا شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم »; لاحظ أيضاً كتاب « السنّة » : 49.

(202)
ساعة من نهار ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدّمهم في الإسلام.
    3 ـ قال أحمد بن حنبل : أصحاب رسول اللّه كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.
    4 ـ قال البخاري : من صحب رسول اللّه أو رآه من المسلمين فهو أصحابه.
    5 ـ وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب : لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة ، قليلاً كان أو كثيراً ، ثمّ قال : ومع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته و لا يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى ، أو سمع منه حديثاً فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله ، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول و معمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً ».
    6 ـ وقال صاحب الغوالي : لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع ، الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصصه بمن كثرت صحبته.
    قال الجزري بعد ذكر هذه النقول ، قلت : وأصحاب رسول اللّه على ما شرطوه كثيرون فإنّ رسول اللّه شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه « هوازن » مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً ، وكلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة ، وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان ، وكذلك حجة الوداع ، وكلّهم له صحبة. (1)
    ولا يخفى أنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة والعرف العام ، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن
1 ـ أُسد الغابة : 1/11 ـ 12 ، طبع مصر.

(203)
جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة ، فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّالرؤية عن بعيد أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة أو الإقامة معه زمناً قليلاً.
    وأظن أنّ في هذا التبسيط والتوسع غاية سياسية ، لما سيوافيك أنّ النبي قد تنبّأ بارتداد ثلة من أصحابه بعد رحلته فأرادوا بهذاالتبسيط ، صرف هذه النصوص إلى الأعراب وأهل البوادي ، الذين لم يكن لهم حظ من الصحبة إلاّلقاء قصير وسيأتي أنّ هذه النصوص راجعة إلى الملتفين حوله الذين كانوا مع النبي ليلاً ونهاراً ، صباحاً ومساءً إلى حدّ كان النبي يعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم وأسمائهم ، فكيف يصحّ صرفها إلى أهل البوادي والصحاري من الأعراب ، فتربّص حتى تأتيك النصوص.
    وعلى كلّ تقدير فلسنا في هذا البحث بصدد تعريف الصحابة وتحقيق الحقّ بين هذه التعاريف غير أنّا نركز الكلام على أنّ أهل السنّة يقولون بعدالة هذا الجم الغفير المدعوين باسم الصحابة ، وإليك كلماتهم :

عدالة الصحابة جميعهم
    قال ابن عبد البر : نثبت عدالة جميعهم. (1)
    وقال ابن الأثير : إنّ السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال الحرام إلى غير ذلك من أُمور الدين ، إنّما تثبت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها. وأوّلهم والمقدّم عليهم أصحاب رسول اللّه ، فإذاجهلهم الإنسان كان بغيرهم أشدّجهلاً وأعظم إنكاراً ، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم ، هم وغيرهم من الرواة حتى يصحّ العمل بما رواه الثقاة منهم وتقوم به الحجّة ، فإنّ المجهول لا تصحّ روايته ولا ينبغي العمل بما رواه. والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّفي الجرح والتعديل ، فإنّهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح ، لأنّ اللّه عزّوجلّ ورسوله زكياهم وعدلاهم ، وذلك مشهور
1 ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب : 1/2 في هامش « الإصابة ».

(204)
لا نحتاج لذكره. (1)
    وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من الإصابة : اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة. وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل اللّه لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، ثمّ نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً إلى أن قال : روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسو لاللّه فاعلم أنّه زنديق ، وذلك أنّ الرسول حقّ ، والقرآن حقّ ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (2)
    هذه كلمات القوم وكم لها من نظائر نتركها طلباً للاختصار.

تقييم نظرية عدالة الصحابة كلهم
    تقييم هذه النظرية يتم بتبيين أُمور :
    1 ـ إنّ البحث عن عدالة الصحابي أو جرحه ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ولا لإبطال شهود المسلمين ، لما سيوافيك من أنّ الكتاب شهد على فضل عدّة منهم ، وزيغ آخرين وهكذا السنّة ، إنّما الغاية في هذا البحث هي الغاية في البحث عن عدالة التابعين ومن تلاهم من رواة القرون المختلفة ، فالغاية في الجميع هي التعرّف على الصالحين والطالحين ، حتى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء والتجنب عن أخذه عن غيرهم ، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمل العبء الثقيل ، لما كان عليه لوم فلو قال أبو زرعة ـ مكان قوله الآنف ـ هذا القول : « إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه ، أو خيره أو شره ، حتى يأخذ دينه عن
1 ـ أُسد الغابة : 2/3.
2 ـ الإصابة : 1/17.


(205)
الخيرة الصادقين ، ويحترز عن الآخرين ، فاعلم أنّه من جملة المحقّقين في الدين والمتحرين للحقيقة » ، لكان أحسن وأولى بل هو الحسن والمتعيّن.
    ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً ، يريد التثبت في أُمور الدين ، والتحقيق في مطالب الشريعة ، بالزندقة وأنّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة ، وما شهود المسلمين إلاّالآلاف المؤلّفة من أصحابه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فلا يضر بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم ، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصنف من المجروحين. ما هكذا تورد يا سعد الإبل!!.
    2 ـ إنّ هذه النظرية تكوّنت ونشأت من العاطفة الدينية التي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وجرّتهم إلى تبنّي تلك الفكرة وقد قيل : من عشق شيئاً ، عشق لوازمه وآثاره.
    إنّ صحبة الصحابة لم تكن بأكثر ولا أقوى من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط فما أغنتهما عن اللّه شيئاً ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثلاً لِلّذينَ كَفَرُوا امرأَةَ نُوح وَامرأَةَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيئاً وَقيلَ ادخُلا النّار مَعَ الدّاخلين ) . (1)
    إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي ، وقد قال سبحانه في شأن أزواجه : ( يا نِساءَ النَّبيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة مُبَيِّنة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسيراً ) . (2)
    3 ـ إنّ أساتذة العلوم التربوية كشفوا عن قانون مجرب ، وهو أنّ الإنسان الواقع في إطار التربية ، إنّما يتأثر بعواملها إذا لم تكتمل شخصيته الروحية والفكرية ، لأنّ النفوذ في النفوس المكتملة الشخصية ، والتأثير عليها والثورة على أفكارها وروحياتها ، يكون صعباً جدّاً ( ولا أقول أمراً محالاً ) بخلاف ما إذا كان الواقع في إطارها صبياً يافعاً أو شاباً في عنفوان شبابه ، إذ عندئذ يكون قلبه
1 ـ التحريم : 10.
2 ـ الأحزاب : 30.


(206)
وروحه كالأرض الخالية تنبت ما ألقي فيها ، وعلى هذا الأساس لا يصحّ لنا أن نقول : إنّ الصحبة والمجالسة وسماع بعض الآيات والأحاديث ، أوجدت ثورة عارمة في صحابة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأزالت شخصياتهم المكونة طيلة سنين في العصر الجاهلي ، وكونت منهم شخصيات عالية تعد مثلاً للفضل والفضيلة.
    مع أنّهم كانوا متفاوتين في السن ومقدار الصحبة ، مختلفين في الاستعداد والتأثر ، وحسبك أنّ بعضهم أسلم وهو صبي لم يبلغ الحلم ، وبعضهم أسلم وهو في أوّليات شبابه ، كما أسلم بعضهم في الأربعينات والخمسينات من أعمارهم ، إلى أن أسلم بعضهم وهو شيخ طاعن في السن يناهز الثمانين والتسعين.
    فكما أنّهم كانوا مختلفين في السن عند الانقياد للإسلام ، كذلك كانوا مختلفين أيضاً في مقدار الصحبة فبعضهم صحب النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة ، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة وربما أدركوا من الصحبة سنة أو شهراً أو أيّاماً أو ساعة ، فهل يصحّ أن نقول : إنّ صحبة ما ، قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة وملكات رديةوكونت منهم شخصيات ممتازة أعلى وأجل من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح؟!
    إنّ تأثير الصحبة عند من يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادة كيمياوية تستعمل في تحليل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب ، فكأنّ الصحبة قلبت كلّ مصاحب إلى إنسان مثالي يتحلّى بالعدالة ، وهذا ممّا يردّه المنطق والبرهان ، وذلك لأنّ الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز ( فَلَو شاء لَهَداكم أَجْمَعين ) (1) بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحقّ وصبهم في بوتقات الكمال مستعيناً بالأساليب الطبيعية والإمكانيات الموجودة كتلاوة القرآن الكريم ، والنصيحة بكلماته النافذة ، وسلوكه القويم وبعث رسله ودعاة دينه إلى الأقطار ونحو
1 ـ الأنعام : 149.

(207)
ذلك ، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، فلا يصحّ لنا أن نرمي الجميع بسهم واحد.
    إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي : أنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوّة الإيمان و رسوخ العقيدة إلى درجات عالية ، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة ، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.
    هذا هو مقتضى التحليل حسب الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل ، ولا يصحّ القضاء البات إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتى نقف على نظره فيهم كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم ، وملاحظة سلوكهم وحياتهم في زمنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وبعده.

الصحابة في الذكر الحكيم
    نرى أنّ الذكر الحكيم يصنف صحابة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ويمدحهم في ضمن أصناف نأتي ببعضها :
1 ـ السابقون الأوّلون
    يصف الذكر الحكيم السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بأنّ اللّه رضي عنهم وهم رضوا عنه ، قال عزّمن قائل : ( وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنْصارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسان رَضَيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتَها الأَنْهارُ خالِدينَ فِيها أَبداً ذلِكَ الفَوزُ العَظيم ) (1) .
1 ـ التوبة : 100.

(208)
2 ـ المبايعون تحت الشجرة
    يصف سبحانه جماعة من الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة بنزول السكينة عليهم ، ويقول في محكم كتابه : ( لَقَدَ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنينَ إِذْيُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكينَة عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتحاً قَريباً ) . (1)
3 ـ المهاجرون
    وهؤلاء هم الذين يصفهم تعالى ذكره بقوله : ( لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَموالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) . (2)
4 ـ أصحاب الفتح
    هؤلاء هم الذين وصفهم اللّه سبحانه وتعالى في آخر سورة الفتح بقوله : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطأَهُ فَ آزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاع لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجراً عَظيماً ) . (3)

الأصناف الأُخر للصحابة
    فالناظر المخلص المتجرّد عن كلّ رأي مسبق ، يجد في نفسه تكريماً لهؤلاء الصحابة غير أنّ القضاء البات في عامة الصحابة يستوجب النظر إلى كلّ الآيات
1 ـ الفتح : 18.
2 ـ الحشر : 8.
3 ـ الفتح : 29.


(209)
القرآنية الواردة في حقّهم فعندئذ يتبيّن لنا أنّ هناك أصنافاً أُخرى من الصحابة غير ما سبق ذكرها ، تمنعنا من أن نضرب الكلّ بسهم واحد ، ونصف الكلّ بالرضا وبالرضوان. وهذا الصنف من الآيات يدلّ بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضاد الأصناف السابقة في الخلقيات والملكات والسلوك والعمل ، وإليك لفيفاً منهم :
1 ـ المنافقون المعروفون
    المنافقون المعروفون بالنفاق الذين نزلت في حقّهم سورة المنافقين ، قال سبحانه : ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافقينَ لَكاذِبُونَ ... ). (1)
    فهذه الآيات تعرب بوضوح عن وجود كتلة قوية من المنافقين بين الصحابة آنذاك وكان لهم شأن فنزلت سورة قرآنية كاملة في حقّهم.
2 ـ المنافقون المختفون
    تدلّ بعض الآيات على أنّه كانت بين الأعراب القاطنين خارج المدينة ومن نفس أهل المدينة ، جماعة مردوا على النفاق وكان النبي الأعظم لا يعرف بعضهم ، ومن تلك الآيات قوله سبحانه : ( وَمِمَّنْ حَولَكُمْ مِنَ الأَعرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النّفاق (2) لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) . (3)
    لقد أعطى القرآن الكريم عناية خاصة بعصبة المنافقين وأعرب عن نواياهم وندد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمّد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، والمنافقين.
1 ـ المنافقون : 1.
2 ـ مردوا على النفاق : تمرّنوا عليه وتمارسوا عليه.
3 ـ التوبة : 101.


(210)
    وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي ، بين معروف عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب ، وغير معروف بذلك ، ولكن مقنّع بقناع التظاهر بالإيمان والحب للنبي ، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم ، وهناك ثلة من المحقّقين كتبوا حول النفاق والمنافقين رسائل وكتابات ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم ، فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم (1) ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي ، وعلى ذلك لا يصحّ لنا الحكم بعدالة كلّ من صحب النبي مع غض النظر عن تلك العصابة المجرمة ، المتظاهرة بالنفاق أو المختفية في أصحاب النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
3 ـ مرضى القلوب
    وهذه المجموعة من الصحابة لم يكونوا من زمرة المنافقين بل كانوا يلونهم في الروحيات والملكات مع ضعف في الإيمان والثقة باللّه ورسوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال سبحانه في حقّهم : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّغُرُوراً ) . (2)
    فأنّى لنا أن نصف مرضى القلوب الذين ينسبون خلف الوعد إلى اللّه سبحانه وإلى رسوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالتقوى والعدالة؟
4 ـ السمّاعون
    تلك المجموعة كانت قلوبهم كالريشة في مهب الريح تتمايل تارة إلى هؤلاء وأُخرى إلى أُولئك بسبب ضعف إيمانهم ، وقد حذّر الباري عزّوجلّ المسلمين منهم حيث قال عزّمن قائل ، واصفاً إيّاهم ب ـ « السمّاعون » لأهل
1 ـ النفاق والمنافقون : تأليف الأُستاذ إبراهيم علي سالم المصري.
2 ـ الأحزاب : 12.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس