بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 211 ـ 220
(211)
الفتنة : ( إِنَّمَا يَستأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَارتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَردَّدُونَ* ولو أرَادُوا الخُرُوجَ لأَعدُّوا لَهُ عُدَّّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبّطهُمْ وَقيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدينَ* لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّخَبَالاً ولأَوضَعوْا خِلاَلَكُمْ يَبغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَليمٌ بِالظّالِمِينَ ) (1) وذيل الآية دليل على كون السمّاعين من الظالمين لا من العدول.
5 ـ خالطو العمل الصالح بغيره
    وهؤلاء هم الذين يقومون بالصلاح والفلاح تارة ، والفساد والعيث مرّة أُخرى ، فلأجل ذلك خلطوا عملاً صالحاً بعمل سيِّء قال سبحانه : ( وَآخَرونَ اعْتَرفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) . (2)
6 ـ المشرفون على الارتداد
    إنّ بعض الآيات تدلّ على أنّ مجموعة من الصحابة كانت قد أشرفت على الارتداد يوم دارت عليهم الدوائر ، وكانت الحرب بينهم و بين قريش طاحنة فأحسّوا بضعفهم وقد أشرفوا على الارتداد ، عرّفهم الحقّ سبحانه بقوله : ( وَطاِئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتهُمْ أَنْفُسهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِليَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شيء قُلْ إنِ الأَمْرَ كُلَّهُ للّهِ يخفونَ في أَنفُسِهِمْ ما لا يبدُونَ لكَ يَقُولُونَ لَو كانَ لَنا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ ما قُتِلْنَا هَاهُنا ). (3)
7 ـ الفاسق
    إنّ القرآن الكريم يحث المؤمنين وفي مقدّمتهم الصحابة الحضور ، على التحرز من خبر الفاسق حتّى يتبيّن ، فمن هذا الفاسق الذي أمر القرآن بالتحرّز منه؟ اقرأ أنت ما نزل حول الآية من شأن النزول واحكم بما هو الحقّ.
1 ـ التوبة : 45 ـ 47.
2 ـ التوبة : 102.
3 ـ آل عمران : 154.


(212)
    قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) . (1)
    فإنّ من المجمع عليه بين أهل العلم أنّه نزل في حقّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وذكره المفسرون في تفسير الآية فلا نحتاج إلى ذكر المصادر.
    كما نزل في حقّه قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مَؤمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوونَ ) (2) ، نقل الطبري في تفسيره بإسناده أنّه كان بين الوليد وعلي كلام ، فقال الوليد : أنا أبسط منك لساناً وأحد منك سناناً وأرد منك للكتيبة. فقال علي : « اسكت فإنّك فاسق » فأنزل اللّه فيهما : ( أَفَمَنْ كانَ مَؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُون ). (3)
    وقد نظم الحديث حسان بن ثابت ( شاعر عصر الرسالة ) وقال :
أنزل اللّه والكتاب عزيز فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقاً ليس من كان مؤمناً عرف سوف يدعى الوليد بعد قليل فعلي يجزى بذاك جناناً في علي و في الوليد قرآناً وعلي مبوّأ إيماناً اللّه كمن كان فاسقاً خواناً وعلي إلى الحساب عياناً ووليد يجزى بذاك هواناً (4)
    أفهل يمكن لباحث حر ، التصديق بما ذكره ابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر ، وفي مقدمتهم أبو زرعة الرازي الذي هاجم المتفحّصين المحقّقين في أحوال الصحابة واتّهمهم بالزندقة.
1 ـ الحجرات : 6.
2 ـ السجدة : 18.
3 ـ تفسير الطبري : 21/62 ، و تفسير ابن كثير : 3/452.
4 ـ « تذكرة الخواص » سبط ابن الجوزي : 115; « كفاية » الكنجي : 55; « مطالب السؤول » لابن طلحة : 20; « شرح النهج » ، الطبعة القديمة : 2/103; « جمهرة الخطب » لأحمد زكي : 2/23. لاحظ « الغدير » : 2/42.


(213)
8 ـ المسلمون غير المؤمنين
    إنّ القرآن يعد جماعة من الأعراب الذين رأوا النبي وشاهدوه وتكلّموا معه ، مسلمين غير مؤمنين وأنّهم بعد لم يدخل الإيمان في قلوبهم قال سبحانه : ( قالَتِ الأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوآ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلتكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). (1)
    أفهل يصحّ عدّ عصابة غير مؤمنين من العدول الأتقياء؟!
9 ـ المؤلّفة قلوبهم
    اتّفق الفقهاء على أنّ المؤّلفة قلوبهم ممّن تصرّف عليهم الصدقات قال سبحانه : ( إِنَّما الصَدقات لِلْفُقَراءِ وَالمَساكينَ وَالعامِلينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغارِمينَ وَفي سَبيلِ اللّهِ وَابنِ السَّبيل فَريضةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَليمٌ حَكيم ) . (2)
    والمراد من ( المؤلّفةِ قُلُوُبُهمْ ) : الذين كانوا في صدر الإسلام ممّن يظهرون الإسلام ، يتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم ، وهناك أقوال أُخر فيهم متقاربة والكلّ يهدف إلى الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلاّ بالعطاء. (3)
10 ـ المولّون أمام الكفّار
    إنّ التولي عن الجهاد والفرار منه ، من الكبائر الموبقة التي ندد بها سبحانه بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُولَّوهُمُ الأَدبَارَ* وَمَنْ يُولّهِمْ يَومئذ دُبُرَهُ إِلاّمُتَحَرِّفاً لّقِتَال أَوْ مُتَحْيّزاً إِلى فِئة فَقَدْ بَ آءَ بِغَضب مِنَ اللّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . (4)
1 ـ الحجرات : 14.
2 ـ التوبة : 60.
3 ـ تفسير القرطبي : 8/187. لاحظ : المغني لابن قدامة : 2/556.
4 ـ الأنفال : 15 ـ 16.


(214)
    إنّ التحذير من التولي والفرار من الزحف ، والحث على الصمود أمام العدو ، لم يصدر من مصدر الوحي إلاّ بعد فرار مجموعة كبيرة من صحابة النبي في غزوة « أُحد » و « حنين ».
    أمّا الأوّل : فيكفيك قول ابن هشام في تفسير الآيات النازلة في أُحد : قال : ثمّ أنّبهم على الفرار عن نبيهم وهم يدعون ، لا يعطفون عليه لدعائه إيّاهم فقال : ( إِذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَى أحَد والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ) . (1)
    وأمّا الثاني : فقد قال ابن هشام فيه أيضاً فلمّا انهزم الناس ورأى من كان مع رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من جفاة أهل مكة ، الهزيمة تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وصرخ جبلة ابن حنبل : ألا بطل السحر اليوم ... (2)
    أفبعد هذا يصحّ أن يعد جميع الصحابة بحجة أنّهم رأوا نور النبوة ، عدولاً أتقياء؟!
    قال القرطبي في تفسيره : قد فر الناس يوم « أحد » وعفا اللّه عنهم ، و قال اللّه فيهم يوم حنين : ( ثمّ ولّيتم مُدبرين ) ثمّ ذكر فرار عدّة من أصحاب النبي من بعض السرايا. (3)
    هذا الإمام الواقدي يرسم لنا تولّي الصحابة منهزمين ويقول : فقالت أُمّ الحارث : فمر بي عمر بن الخطاب فقلت له : يا عمر ما هذا؟ فقال عمر : أمر اللّه. وجعلت أمّ الحارث تقول : يا رسول اللّه من جاوز بعيري فأقتله. (4)
1 ـ آل عمران : 153.
2 ـ سيره ابن هشام : 3/114 ، و 4/444 ، ولاحظ التفاسير.
3 ـ تفسير القرطبي : 7/383.
4 ـ مغازي الواقدي : 3/904. إنّ تعليل الفرار من الزحف بقضاء اللّه يشبه تعليل عبّادَالأوثان شركهم به كما في قوله سبحانه حاكياً عن المشركين : ( لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ) ( الأنعام : 148 ) وتلزم من ذلك تبرئة العصاة والكفّار ، لأنّ أعمالهم كلّها بقضاء منه.


(215)
    هذه هي الأصناف العشرة من صحابة النبي ممّن لا يمكن توصيفهم بالعدالة والتقوى ، أتينا بها في هذه العجالة مضافاً إلى الأصناف المضادة لها ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة وسورة النساء وغيرها من الآيات القرآنية فترى فيها أنّ الإيمان بعدالة الصحابة مطلقاً خطأ في القول ، وزلة في الرأي ، يضاد نصوص الذكر الحكيم ولم تكن الصحابة إلاّ كسائر الناس فيهم صالح تقي ، بلغ القمة في التقى والنزاهة ، وفيهم طالح شقي ، سقط إلى هوة الشقاءوالدناءة.
    ولكن الذي يميّز الصحابة عن غيرهم أنّهم رأوا نور النبوة وتشرّفوا بصحبة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وشاهدوا معجزاته في حلبة المباراة بأُمّ أعينهم ، ولأجل ذلك تحمّلوا مسؤولية كبيرة أمام اللّه وأمام الأجيال المعاصرة لهم واللاحقة بهم ، فإنّهم ليسوا كسائر الناس ، فزيغهم وميلهم عن الحقّ أشدّ لا يعادل زيغ أكثر الناس وانحرافهم ، وقد قال سبحانه في حقّ أزواج النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( يا نِساءَ النَّبيَّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّساء ... ) (1) فلو انحرف هؤلاء فقد انحرفوا في حال شهدوا النور ، ولمسوا الحقيقة ، وشتان الفرق بينهم و بين غيرهم.

الصحابة في السنة النبوية
    إذا راجعنا الصحاح والمسانيد نجد أنّ أصحابها أفردوا باباً بشأن فضائل الصحابة ، إلاّ أنّهم لم يفردوا باباً في مثالبهم بل أقحموا ما يرجع إلى هذه الناحية في أبواب أُخر ، ستراً لمثالبهم ، وقد ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحيحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض ، والوضع الطبيعي لجمع الأحاديث وترتيبها ، كان يقتضي عقد باب مستقل للمثالب في جنب الفضائل حتى يطلع القارئ على قضاء السنّة حول صحابة النبي الأكرم.
1 ـ الأحزاب : 32.

(216)
    روى أبو حازم عن سهل بن سعد قال : قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : إنّي فرطكم على الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني و بينهم ... قال أبو حازم : فسمع النعمان بن أبي عياش وأناأحدّثهم بهذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول؟ فقلت : نعم قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول : إنّهم منّي فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ». أخرجه البخاري ومسلم. (1)
    وظاهر الحديث أنّ المراد بقرينة « بدّل بعدي » أصحابه الذي عاصروه وصحبوه وكانوا معه مدّة ثمّ مضوا.
    روى البخاري ومسلم أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال من أُمّتي ـ فيحلؤون عن الحوض فأقول يا ربّ أصحابي فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ». (2)
    ثمّ قال : وللبخاري : أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني و بينهم فقال : هلم! فقلت : أين؟ فقال : إلى النار واللّه ، فقلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى; ثمّ إذا زمرة أُخرى ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني و بينهم فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين؟ قال : إلى النار واللّه ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلاّمثل همل النعم ». (3)
    وظاهر الحديث « حتى إذا عرفتهم » وقوله « ارتدّوا على أدبارهم
1 ـ جامع الأُصول لابن الأثير : 11/120 ، كتاب الحوض في ورود الناس عليه ، رقم الحديث 7972. و « الفرط » : المتقدّم قومه إلى الماء ، ويستوي فيه الواحد والجمع ، يقال رجل فرط وقوم فرط.
2 ـ جامع الأُصول 11/120 ، رقم الحديث 7973.
3 ـ جامع الأُصول : 11/121 ، و « همل النعم » كناية عن أنّ الناجي عدد قليل ، وقد اكتفينا من الكثير بالقليل ، ومن أراد الوقوف على ما لم نذكره فليرجع إلى « جامع الأُصول ».


(217)
القهقرى » أنّ الذين أدركوا عصره وكانوا معه ، هم الذين يرتدّون بعده.

الصحابة والتاريخ المتواتر
    كيف يمكن عدّالصحابة جميعاً عدولاً والتاريخ بين أيدينا نرى أنّ بعضهم ظهر عليه الفسق في حياة النبي وبعده ، كوليد بن عقبة. أمّا الأوّل فقد عرفت نزول الآية في حقّه; وأمّا الثاني فروى أصحاب السير والتاريخ أنّ الوليد بن عقبة أيّام ولايته بالكوفة شرب الخمر وقام ليصلي بالناس صلاة الفجر فصلّى أربع ركعات ، وكان يقول في ركوعه وسجوده : اشربي واسقني ، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلم ، و قال : هل أزيدكم ... إلى آخر ما ذكروه. (1)
    وبعضهم ظهرت عليه سمة الارتداد عندما بدت علائم الهزيمة عند المسلمين فقال : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر (2) ، و قال الآخر : ألا بطل السحر. (3)
    وهذا رسول اللّه يخاطب ذي الخويصرة عندما قال للنبي في تقسيم غنائم « حنين » : اعدل ، بقوله : « ويحك إن لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟! ثمّ قال : فإنّه يكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة ». (4)
    وهذا أبو سفيان يضرب برجله قبر حمزة ( عليه السَّلام ) ويقول : ذق عقق إنّ الملك الذي كنّا نتنازع عليه أصبح اليوم بيد صبياننا. (5)
1 ـ الكامل لابن الأثير : 2/52 أُسد الغابة : 5/91 وغيرهما. وقد أقام الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) عليه الحد في خلافة عثمان بإصرار من الناس وإلحاح منهم لئلاّ تتعطل الحدود.
2 ـ سيرة ابن هشام : 4/443 والقائل أبو سفيان.
3 ـ سيرة ابن هشام : 4/444 والقائل كلدة بن الحنبل فقال له صفوان : اسكت فض اللّه فاك.
4 ـ سيرة ابن هشام : 4/496.
5 ـ قاموس الرجال : 10/89 نقلاً عن الشرح الحديدي.


(218)
    وهذا أبو سفيان عندما بويع عثمان ، دخل إليه بنو أبيه حتى امتلأت بهم الدار ثمّ أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان : أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا : لا. قال : يا بني أُميّة تلقّفوها تلقّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة. (1)
    أفهل بعد هذه الكلمات الكاشفة عن الردة الخبيثة يصحّ لمسلم أن يعد هؤلاء وأمثالهم من صنف العدول وطبقة الصالحين ويعد جرحهم إبطالاً للكتاب والسنّة و تضعيفاً لشهود المسلمين؟!

آراء الصحابة بعضهم حول البعض
    إنّ النظرة العابرة لتاريخ الصحابة تقتضي بأنّ بعضهم كان يتهم الآخر بالنفاق والكذب ، كما أنّ بعضهم كان يقاتل بعضاً ، ويقود جيشاً لمحاربته ، فقتل بين ذلك جماعة كثيرة ، أفهل يمكن تبرير أعمالهم من الشاتم والمشتوم ، والقاتل والمقتول وعدّهم عدولاً ومثلاً للفضل والفضيلة؟! وإليك نزراً يسيراً من تاريخهم ممّا حفظته يد النقل غفلة عن المبادئ العامة لأصحاب الحديث :
    1 ـ روى البخاري مشاجرة سعد بن معاذ مع سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج ـ في قضية الإفك قال : قام رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فاستعذر يومئذ من عبد اللّه بن أبي وهو على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلاّخيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي ».
    فقام سعد بن معاذ ، أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول اللّه أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ، ففعلنا أمرك.
    فقام رجل من الخزرج : وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ، ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد : كذبت لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
    فقام أسيد بن حضير
1 ـ الشرح الحديدي : 9/53 نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.

(219)
وهو ابن عمّ سعد ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.
    فثار الحيّان : الأوس والخزرج ، حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه قائم على المنبر ، فلم يزل رسول اللّه يخفضهم حتى سكتوا وسكت. (1)
    اقرأ فاقض ، فإنّ هؤلاء يتّهم بعضهم بعضاً بالكذب والنفاق ، ونحن نعتبرهم عدولاً صلحاء ، والإنسان على نفسه بصيرة.
    2 ـ إنّ الحروب الدائرة بين الصحابة أنفسهم والثورة التي أقامها أصحاب النبي ومن اتّبعهم على عثمان بن عفان حتى جرّت إلى قتله ، أفضل دليل على أنّه لا يصحّ تعريف الصحابة وتوصيفهم بالعدالة والتقوى ، إذ كيف يصحّ أن يكون القاتل والمقتول كلاهما على الحقّ والعدالة؟!
    وهذا هو طلحة وهذا الزبير قد جهّزا جيشاً جراراً لحرب الإمام علي ( عليه السَّلام ) وأعانتهما أمّ المؤمنين فقتلت جماعة كثيرة بين ذلك ، فهل يمكن تعديل كلّ هذه الجماعة حتّى الباغين على الإمام المفترض الطاعة بالنصّ أوّلاً ، وببيعة المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثانياً؟!
    وهذا معاوية بن أبي سفيان يعدّ من الصحابة وقد صنع بالإسلام والمسلمين ما قد صنع ممّا هو مشهور في التاريخ ، و من ذلك أنّه حارب الإمام عليّاً عليه الصلاة والسلام في حرب صفين ، وكان علي مع كلّ من بقي من البدريين وهم قريب من مائة شخص ، فهل من حارب هؤلاء الصحابة جميعاً بما فيهم سيد الصحابة علي ( عليه السَّلام ) يعدّ من أهل الفضل والصلاح والعدالة؟! فاقض ما أنت قاض.
    لقد نقل صاحب المنار : أنّه قال أحد علماء الألمان في « الآستانة » لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة : إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية ابن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا « برلين ». قيل له : لماذا؟! قال :
1 ـ صحيح البخاري : 5/118 ـ 119 في تفسير سورة النور.

(220)
لأنّه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب ( الملك لمن غلب ) ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كلّه ، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوروبا عرباً مسلمين. (1)
    هذا خال المؤمنين و من يترحّم عليه خطباء الجمعة والجماعة ، فكيف حال غيره؟! أضف إليه ما له من الموبقات والمهلكات ممّا لا يمكن لأحد إنكاره.
    والاعتذار منه في تبرير أعماله القاسية باجتهاده في ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية وإزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلّفة ، ليس إلاّ ضلالة وخداعاً للعقل ، فإنّه اجتهاد على خلاف ما يريده اللّه وضدّ رسوله ، وإلاّ يصحّ أن يعد جميع المناوئين للإسلام مجتهدين في صدر الإسلام ومؤخّره.
    هذا مجمل القول في هذا الأصل الذي اتّخذه أصحاب الحديث أصلاً من أُصول الإسلام ثمّ أدخله الأشعري في الأُصول التي يتبنّاها أكثر أهل السنّة والجماعة.

التعذير التافه أو أسطورة الاجتهاد
    وما أتفه قول من يريد تبرير عمل هؤلاء بالاجتهاد ، وأنّهم كانوا مجتهدين في أعمالهم وأفعالهم ، أفهل يصحّ تبرير عمل القتل والفتك والخروج على الإمام المفترض طاعته ، بالاجتهاد؟! ولو صحّ هذا الاجتهاد ( ولن يصحّ أبداً ) لصحّ عن كلّ من خالف الحقّ وحالف الباطل من اليهود و النصارى وغيرهم من الطغام اللئام.
    أي قيمة للاجتهاد في قبال النص وصريح السنّة النبوية وإجماع الأُمّة؟! أي قيمة للاجتهاد الذي أباح دماء المسلمين ودمّر كيانهم وشقّ عصاهم وفك عرى وحدتهم ، أي ، وأي ، وأي؟!
    إنّ القائلين بعدالة الصحابة يتمسّكون بما يروون عن النبي أنّه قال : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ». (2) غير أنّ متن الحديث يكذب صدوره عن
1 ـ تفسير المنار : 11/269 في تفسير سورة يونس.
2 ـ جامع الأُصول : 9/ 410 رقم الحديث 6359 ، كتاب الفضائل.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس