بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 221 ـ 230
(221)
النبي إذ ليس كلّ نجم هادياً للإنسان في البر والبحر ، بل هناك نجوم خاصة موجبة للاهتداء ، ولأجل ذلك قال سبحانه : ( وَعَلامات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون ). (1)
    ولم يقل : وبالنجوم هم يهتدون ، ولو كان كلّ نجم هادياً للضال لكان الأنسب الإتيان بصيغة الجمع. ولو افترضنا صحّة الاهتداء بكلّ نجم في السماء ، أفهل يمكن أن يكون كلّ صحابي نجماً لامعاً في سماء الحياة ، هادياً للأُمّة؟!
    هذا قدامة بن مظعون صحابي بدري يعد من السابقين الأوّلين ومن المهاجرين هجرتين ، روي أنّه شرب الخمر وأقام عليه عمر الحد. (2) كما أنّ المشهور أنّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر. (3)
    وقد ارتد طليحة بن خويلد عن الإسلام وادّعى النبوة ، ومثله مسيلمة والعنسي الكذّابان وأمرهما أشهر من أن يذكر.
    إنّ بعض الصحابة خضب وجه الأرض بالدماء ، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطأة حتى إنّه قتل طفلين لعبيد اللّه بن عباس!! وكم وكم بين الصحابة لدة هؤلاء من رجال العيث والفساد قد حفل التاريخ بضبط مساوئهم ، أفبعد هذه البينات يصح لأي ابن أُنثى أن يتقوّل بعدالة الصحابة مطلقاً ويتّخذها مذهباً و يرمي المخالف له ، بما هو بريء منه؟!
الموقف الصحيح من الصحابة
    والنظرية القويمة المستقيمة هي نظرية الشيعة المنعكسة في الدعاء المروي عن الإمام الطاهر علي بن الحسين ( عليهما السَّلام ) ترى أن يدعو اللّه سبحانه في حقّ أصحاب محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا لكلّهم ، بل للّذين أحسنوا
1 ـ النحل : 16.
2 ـ أُسد الغابة : 4/199 وسائر كتب التراجم.
3 ـ أُسد الغابة : 3/312 ـ


(222)
الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، والذين عاضدوه وأسرعوا إلى وفادته وإليك تلك الكلمة المباركة من الصحيفة السجادية :
     « اللّهمّ وأصحاب محمّد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاصة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به ، و من كانوا منطوين على محبته ، يرجون تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات ، إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك و بما حاشوا الخلق عليك ، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم ، اللّهمّ وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا ... ». (1)
خاتمة المطاف
    إنّ لأبي المعالي الجويني كلاماً حول الصحابة دعا فيه إلى أنّ الواجب ، الكف والإمساك عن الصحابة وعمّا شجر بينهم ، نقله الشارح الحديدي في شرحه على نهج البلاغة كما نقل نقد بعض الزيدية له الذي سمعه من أستاذه النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد وعنده جماعة و ما نقله عن أُستاذه رسالة مبسوطة في الموضوع فيها نكات بديعة لا يسعنا إيرادها في المقام ، ولذلك نقتبس بعضها وقد نقل فيها قضايا تعرب عن جريان السيرة على النقد والرد والمشاجرة ، وإليك بعضها :
    1 ـ هذه عائشة أُمّ المؤمنين خرجت بقميص رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقالت للناس : هذا قميص رسول اللّه لم يبل ، وعثمان قد أبلى
1. الصحيفة السجادية : الدعاء الرابع مع شرحه ، في ظلال الصحيفة السجادية ص 55 ـ 59.

(223)
سنته ، ثمّ تقول : اقتلوا نعثلاً قتل اللّه نعثلاً ، ثمّ لم ترض بذلك حتى قالت : أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غداً.
    2 ـ هذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة ، ادّعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك ، فلم ينكر ذلك عمر ، ولا قال : هذا محال وباطل بحجّة أنّ هذا صحابي من صحابة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يجوز عليه الزنا ، كما أنّ عمر لم ينكر على الشهود ولم يقل لهم : ويحكم هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك ، فإنّ اللّه تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأوجب الستر عليهم ، وهلاّ تركتموه لرسول اللّه في قوله : « دعوا لي أصحابي » بل ما رأينا عمر إلاّ قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة الشهادة ، وأقبل يقول للمغيرة : يا مغيرة ذهب ربعك ، يا مغيرة ذهب نصفك ، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك ، حتى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة.
    و هلاّ قال المغيرة لعمر : كيف تسمع فيَّ قول هؤلاء وليسوا من الصحابة وأنا من الصحابة ورسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم! ما رأيناه قال ذلك ، بل استسلم لحكم اللّه تعالى.
    3 ـ وهاهنا ، من هو أمثل من المغيرة وأفضل ، كقدامة بن مظعون ، لمّا شرب الخمر في أيّام عمر ، فأقام عليه الحدّ ، وهو رجل من علية الصحابة ، ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنة; فلم يرد عمر الشهادة ولا درأ عنه الحدّ بحجّة أنّه بدري ، ولا قال قد نهى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن ذكر مساوئ الصحابة ، وقد ضرب عمر أيضاً ابنه حداً فمات ، و كان ممّن عاصر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) و لم تمنعه معاصرته له من إقامة الحدّ عليه.
    4 ـ كيف يصحّ أن يقول رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم؟! لأنّ هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحّ الخبر الصحيح أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ


(224)
قال له : « تقتلك الفئة الباغية ». وقال اللّه سبحانه : ( فَقاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتّى تَفِيء إِلى أَمْرِ اللّه ) (1) فدلّ على أنّها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي فهي مفارقة لأمر اللّه ، ومن يفارق أمر اللّه لا يكون مهتدياً. وكان يجب أن يكون بسر بن أبي أرطأة الذي ذبح ولدي عبيد اللّه بن عباس الصغيرين ، مهتدياً ، لأنّ بسراً من الصحابة أيضاً وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللّذان كانا يلعنان علياً وولديه أ دبار الصلاة ، مهتديين ، وقد كان في الصحابة من يزني ، ومن يشرب الخمر ، كأبي محجن الثقفي ، ومن ارتد عن الإسلام ، كطليحة بن خويلد ، فيجب أن يكون كلّ من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتدياً.
    5 ـ إنّ هذا الحديث « أصحابي كالنجوم » من موضوعات متعصبة الأموية ، فإنّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف ، وكذا القول في الحديث الآخر وهو قوله : « خير القرون القرن الذي أنا فيه » وممّا يدلّ على بطلانه أنّ القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة ، هو شرّ قرون الدنيا ، وهو أحد القرون التي ذكرها في النصّ وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين ، وأوقع بالمدينة ، وحوصرت مكة ، ونقضت الكعبة ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنتصبون في منصب النبوة ، الخمور وارتكبوا الفجور ، كما جرى ليزيد بن معاوية ولزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد ، و أُريقت الدماء الحرام ، وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك ، وإمرة الحجاج ، وإذا تأمّلت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية ، شراً كلّها ، لا خير فيها ولا في رؤسائها وأُمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم. والقرن خمسون سنة فكيف يصحّ هذا الخبر؟
    6 ـ فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنين ) (2) ، وقوله : ( محمّدٌ رسولُ اللّهِ والّذِينَ مَعهُ ... ) (3) وقول
1 ـ الحجرات : 9.
2 ـ الفتح : 18.
3 ـ الفتح : 29.



(225)
النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّ اللّه اطّلع على أهل بدر » إن كان الخبر صحيحاً ، فكلّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفاً غير معصوم ، بأنّه لا عقاب فيه فليفعل ما شاء.
    7 ـ من الذي يجترئ على القول بأنّ أصحاب محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول اللّه تعالى للذي شرفوا برؤيته : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرين ) . (1)
    وبعد قوله : ( قُلْ إِنّي أَخافُ إِنْ عَصَيتُ رَبّي عَذاب يَوم عَظيم ) . (2)
    وبعد قوله : ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاس بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبيلِ اللّه إِنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بما نَسُوا يَومَ الحِساب ). (3) إلاّ من لا فهم له ولا نظر معه ولا تمييز عنده.
    8 ـ والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون في معاصي الأنبياء ويثبتون أنّهم عصوا اللّه تعالى ، وينكرون على من ينكر ذلك ويطعنون فيه ، ويقولون : قدري ، معتزلي ، وربما قالوا : ملحد مخالف لنصّ الكتاب ، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب ، فتارة يقولون : إنّ يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة ، وتارة يقولون : إنّ داود قتل أوريا لينكح امرأته ، وتارة يقولون : إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان كافراً ضالاً قبل النبوة وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر ، فأمّا قدحهم في آدم ( عليه السَّلام ) وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من ينكر ذلك ، فهو رأيهم وديدنهم ، فإذا تكلّم واحد في عمرو بن العاص ومعاوية ، وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح احمرّت وجوههم ، وطالت أعناقهم وتخازرت أعينهم ، وقالوا : مبتدع رافضي ، يسب الصحابة ويشتم السلف ، فإن قالوا : إنّما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب.
    قيل لهم : فاتّبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب ، فإنّه تعالى قال : ( لا تَجِد
1 ـ الزمر : 65.
2 ـ الأنعام : 15.
3 ـ ص : 26.


(226)
قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللّهَ وَرَسُولَه ). (1)
    و قال : ( فَإِنْ بَغَتْ إِحداهُما عَلَى الأُخرى فَقاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتّى تفيَ إلى أَمْرِ اللّه ). (2)
    وقال : ( أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (3) . (4)
قتل الخليفة
    قد تصافق أهل السير والتاريخ أنّ عثمان بن عفان قد حوصر ثمّ هوجم وقتل في عاصمة الإسلام ، قد قتله الصحابةوالتابعون لهم بإحسان ، حتّى منعوا عن تجهيزه وتغسيله ودفنه والصلاة عليه ، وهذا إمام المؤرّخين يتلو علينا كيفية الإجهاز عليه والهجوم على داره بعد محاصرته قرابة أربعين يوماً :
    يقول الطبري : دخل محمّد بن أبي بكر على عثمان فأخذ بلحيته ... ثمّ دخل الناس ، فمنهم من يجأه بنعل سيفه ، وآخر يلكزه ، وجاءه رجل بمشاقص معه فوجأه في ترقوته ، ودخل آخرون فلمّا رأوه مغشياً عليه جرّوا برجله ، وجاء التجيبي مخترطاً سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة فقطع يدها ، واتكأ بالسيف عليه في صدره ، وقتل عثمان رضى اللّه عنه قبل غروب الشمس.
    وفي نصّ آخر يقول : طعن محمد بن أبي بكر جنبيه بمشقص في يده ، وضرب كنانة بن بشر مقدم رأسه بعمود ، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه ، و وثب عمرو بن الحمق فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات إلى آخر ما ذكره. (5)
    وقد وقعت الواقعة بمرأى ومسمع من معظم الصحابة وليس لأحد أن يتفوّه أنّهم لم يكونوا عالمين بها ، فإنّها ما كانت مباغتة ولا غيلة حتى يكونوا في غفلة
1 ـ المجادلة : 22.
2 ـ الحجرات : 9.
3 ـ النساء : 59.
4 ـ الشرح الحديدي : 20/12 ـ 33 ، والرسالة مبسوطة مفصّلة أخذنا المهم منها.
5 ـ تاريخ الطبري : 3/423.


(227)
عنها ، وقد استمر الحوار أكثر من شهرين والحصر حوالي أربعين يوماً ، كلّ ذلك يعرب عن أنّهم كانوا راضين بهاتيك الأحدوثة ، لو لم نقل إنّهم كانوا بين مباشر لها ، إلى خاذل للمودى به ، إلى مؤلّب عليه ، إلى راض بما فعلوا ، إلى محبذ لتلك الأحوال كما هو واضح لمن قرأ تاريخ الدار وقتل الخليفة ، متجرداً عن أهواء وميول أموية.
    فعندئذ يدور الأمر بين أمرين ، بأيّهما أخذنا يبطل الأصل المزعوم من عدالة الصحابة أجمع.
    فإن كان الخليفة قائماً على جادة الحقّ غير مائل عن الطريقة المثلى ، فالمجهزون على قتله والناصرون لهم فسّاق إن لم نقل إنّهم مراق عن الدين لخروجهم على الإمام المفترضة طاعته.
    وإن كان مائلاً عن الحقّ ، منحرفاً عن الطريقة ، مستحقاً للقتل فما معنى القول بعدالة الصحابة كلّهم من إمامهم إلى مأمومهم.
    وأمّا تبرير عمل المجهزين عليه ، المهاجمين على داره بأنّهم كانوا عدولاً خاطئين في اجتهادهم ، فهو خداع وضلال لا يصار إليه ، ولا يركن إليه أي ذي مسكة من العقل إذ أي قيمة لاجتهادهم تجاه نصوص الكتاب؟ قال عزّ من قائل : ( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَساد فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَميعاً ). (1)
كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام )
    وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) تمثل نظريته في حقّ الصحابة رواها نصر بن مزاحم المنقري ( المتوفّى عام 212 هـ ) في حديث عمر بن سعد :
    دخل عبد اللّه بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، والمغيرة بن شعبة مع
1 ـ المائدة : 32.

(228)
أُناس معهم وكانوا قد تخلّفوا عن علي. فدخلوا عليه فسألوه أن يعطيهم عطاءهم ـ و قد كانوا تخلّفوا عن علي حين خرج إلى صفين والجمل ـ فقال لهم علي : « ما خلّفكم عنّي؟ » قالوا : قتل عثمان ولا ندري أحل دمه أم لا؟ وقد كان أحدث أحداثاً ثمّ استتبتموه فتاب ، ثمّ دخلتم في قتله حين قتل ، فلسنا ندري أصبتم أم أخطأتم؟ مع أناّ عارفون بفضلك يا أميرالمؤمنين وسابقتك وهجرتك ».
    فقال علي : « ألستم تعلمون أنّ اللّه عزّ وجلّ قد أمركم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر » فقال : ( وَإِنْ طائِفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الّتي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّه ) (1) ؟
    قال سعد : يا علي أعطني سيفاً يعرف الكافر من المؤمن ، أخاف أن أقتل مؤمناً فأدخل النار؟ فقال لهم علي : « ألستم تعلمون أنّ عثمان كان إماماً بايعتموه على السمع والطاعة فعلام خذلتموه إن كان محسناً ، وكيف لم تقاتلوه إذ كان مسيئاً. فإن كان عثمان أصاب بما صنع فقد ظلمتم ، إذ لم تنصروا إمامكم; وإن كان مسيئاً فقد ظلمتم ، إذ لم تعينوا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقد ظلمتم إذ لم تقوموا بيننا وبين عدونا بما أمركم اللّه به ، فإنّه قال : ( فَقاتِلُوا الّتي تَبْغي حَتّى تَفِيء إِلى أَمْرِ اللّه ) » فردّهم ولم يعطهم شيئاً.
    وكان علي ( عليه السَّلام ) إذا صلّيالغداة والمغرب وفرغ من الصلاة يقول : « اللّهمّ العن معاوية وعمراً وأبا موسى وحبيب بن مسلمة والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد » ، فبلغ ذلك معاوية ، فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس وقيس بن سعد والحسن والحسين. (2)
    وفي كلامه هذا دليل قاطع على أنّ هؤلاء الجائين إلى علي لأخذ عطائهم ، خونة ظلمة لا يمكن الحكم بعدالتهم ، لأنّهم إمّا ظلموا إمامهم العادل ، إذ لم ينصروه وإمّا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولم يعينوا الإمام القائم بالعدل.
1 ـ الحجرات : 9.
2 ـ وقعة صفين : 551 ـ 552.


(229)
    أضف إلى ذلك أنّ الملاعنة من الطرفين أقوى شاهد على فساد إحدى الطائفتين وليس الحقّ خافياً على مبتغيه ، كما أنّ الصبح لا يخفى على ذي عينين.
    وهناك كلام للشيخ التفتازاني في شرح مقاصده أخذته العصبية في الدعوة إلى ترك الكلام في حقّ البغاة والجائرين ، ومع ذلك كلّه فقد أصحر بالحقيقة فقال : ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللذات والشهوات ، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ، ولا كلّ من لقي النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالخير موسوماً ، إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل و التفسيق صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم ، والأنصار ، والمبشّرين بالثواب في دار القرار.
    وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ، ومر الدهور فلعنة اللّه على من باشر أو رضي أو سعى ولعذاب الآخرة أشدّوأبقى.
    فإن قيل : فمن علماء المذاهب من لم يجوز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد؟
    قلنا : تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم ، فرأى المعتنون بأمر الدين ، إلجام العوام بالكلية طريقاً إلى الاقتصاد في الاعتقاد ، بحيث لا تزل الأقدام على السواء ولا تضل الأفهام بالأهواء وإلاّفمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق وكيف لا يقع عليهما الاتفاق ، وهذا هو السرّ فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال وسدّطريق لا يؤمن


(230)
أن يجر إلى الغواية في الم آل مع علمهم بحقيقة الحال ، وجلية المقال ، وقد انكشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال واشرأبت الأهوال ، وحيث لا متسع ولا مجال والمشتكى إلى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. (1)
    إنّ بعض المنصفين من المصريين المعاصرين قد اعترف بالحقّوأراد الجمع بين رأيي السنةوالشيعة في حقّ الصحابة فقال : إنّ منهج أهل السنة في تعديل الصحابة أو ترك الكلام في حقّهم ، منهج أخلاقي; وإنّ طريقة الشيعة في نقد الصحابة وتقسيمهم إلى عادل وجائر منهج علمي ، فكلّ من المنهجين مكمّل للآخر. وهذا هو ما أعربنا عنه في صدر البحث وقلنا : « عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان » أي بين الأخلاق والموضوعية ، وإليك نصّ كلامه :
     « يرى أهل السنة : أنّ الصحابة كلّهم عدول ، وأنّهم جميعاً مشتركون في العدالة وإن اختلفوا في درجتها.
    وأنّ من كفّر صحابياً فهو كافر ، و من فسّقه فهو فاسق.
    وإن طعن في صحابي فكأنّما طعن على رسول اللّه.
    وأنّ من طعن على حضرة الرسول ( عليه السَّلام ) فهو زنديق بل كافر.
    ويرى جهابذة أهل السنّة أيضاً أنّه لا يجوز الخوض فيما جرى بين علي ـ رضي اللّه عن هـ و معاوية من أحداث التاريخ.
    وأنّ من الصحابة من اجتهد وأصاب وهو « علي » و من نحا نحوه.
    وأنّ منهم من اجتهد وأخطأ مثل معاوية وعائشة رضي اللّه عنها و من نحا نحوهما.
    وأنّه ينبغي ـ في نظر أهل السنّة ـ الوقوف والإمساك عند هذا الحكم دون التعرض لذكر المثالب.
    ونهوا عن سب معاوية باعتباره صحابياً ، و شدّدوا النكير على من سب عائشة باعتبارها أُمّ المؤمنين الثانية بعد خديجة وباعتبارها حبّ رسول اللّه.
1 ـ شرح المقاصد : 2 / 306 ـ 307.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس