بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 231 ـ 240
(231)
    وما زاد على ذلك فينبغي ترك الخوض فيه وإرجاء أمره إلى اللّه سبحانه. وفي ذلك يقول أبو الحسن البصري وسعيد بن المسيب :
    تلك أُمور طهّر اللّه منها أيدينا وسيوفنا ، فلنطهّر منها ألسنتنا.
    هذه آراء أهل السنّة في عدالة الصحابة وفيما ينبغي أن نقف منهم.
    أمّا الشيعة فيرون أنّ الصحابة كغيرهم تماماً لا فرق بينهم و بين من جاء بعدهم من المسلمين إلى يوم القيامة.
    وذلك من حيث خضوعهم لميزان واحد هو ميزان العدالة ، الذي توزن به أفعال الصحابة كما توزن أفعال من جاء من بعدهم من الأجيال.
    وإنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلاّ إذا كان أهلاً لهذه المنقبة وكان لديه الاستعداد للقيام برسالة صاحب الشريعة ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    وإنّ منهم المعصومين كالأئمّة الذين نعموا بصحبة الرسول ( عليه السَّلام ) كعلي وابنيه ( عليهم السَّلام ).
    ومنهم العدول وهم : الذين أحسنوا الصحبة لعلي بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى.
    ومنهم المجتهد المصيب ، ومنهم المجتهد المخطئ.
    ومنهم الفاسق ، ومنهم الزنديق ـ و هو أقبح من الفاسق وأشدّ نكالاً ـ.
    ويدخل في دائرة الزنديق المنافقون والذين يعبدون اللّه على حرف.
    كما أنّ منهم الكفّار وهم الذين لم يتوبوا من نفاقهم والذين ارتدّوا بعد الإسلام.
    ومعنى هذا أنّ الشيعة ـ و هم شطر عظيم من أهل القبلة ـ يضعون جميع المسلمين في ميزان واحد ولا يفرّقون بين صحابي وتابعي ومتأخر.
    كما لا يفرقون بين مغرق في الإسلام وحديث عهد به إلاّ باعتبار درجة


(232)
الأخذ بما جاء به حضرة الرسول صلوات اللّه عليه والأئمّة الاثنا عشر من بعده.
    وإنّ الصحبة في ذاتها ليست حصانة يتحصّن بها من درجة الاعتقاد.
    وعلى هذا الأساس المتين أباحوا لأنفسهم ـ اجتهاداً ـ نقد الصحابة والبحث في درجة عدالتهم.
    كما أباحوا لأنفسهم الطعن في نفر من الصحابة أخلّوا بشروط الصحبة وحادوا عن محبّة آل محمّد ( عليهم السَّلام ).
    كيف لا ، و قد قال الرسول الأعظم : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي آل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ».
    وعلى أساس من هذا الحديث و نحوه يرون أنّ كثيراً من الصحابة خالفوا هذا الحديث باضطهادهم لآل محمد ، ولعنهم لبعض أفراد هذه العترة. ومن ثمّ ، فكيف يستقيم لهؤلاء المخالفين شرف الصحبة ، وكيف يوسمون بسمة العدالة؟!
    ذلك هو خلاصة رأي الشيعة في نفي صفة العدالة عن بعض الصحابة وتلك هي الأسباب العلمية الواقعية التي بنوا عليها حججهم.
    والمتأمّل يرى أنّ الفرق بين هذين الموقفين كالفرق بين المنهج الأخلاقي والمنهج العلمي ، وأنّ كلا المنهجين مكمل لصاحبه. (1)
    هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير من تاريخ الصحابة وأحوالهم وهي مشحونة بالصواب والخطأ والهدى والضلال. ضعه أمام عقلك وفكرك فاقض ما أنت قاض ولا تتبع الهوى. ( وَإِنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ
1 ـ الأُستاذ حفني داود المصري : نظرات في الكتب الخالدة : 111.

(233)
اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين ). (1) ( وَلِكُلّ درجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَما رَبّكَ بِغافِل عَمّا يَعْمَلُون ) . (2)
( وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوقَ بعْض دَرَجات لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ إِنَّ رَبّكَ سَريعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم ) (3) .
1 ـ المائدة : 42.
2 ـ الأنعام : 132.
3 ـ الأنعام : 165.


(234)
(3)
الإيمان بالقدر خيره و شرّه
    هذا هو الأصل الثالث الذي اتّفقت عليه كلمات أهل الحديث.
    القدر كما ذكره بعض أئمّة اللغة. حدّ كلّ شيء ومقداره. والقضاء بمعنى الحكم البات ، قال سبحانه : ( إِنّا كَّلّ شَيء خَلَقْناهُ بِقَدَر ) (1) وقال تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّإِيّاهُ ) . (2)
    وعلى هذا فالقدر في الأشياء ، هو تحديد وجود الشيء والقضاء هو إبرامه ، ويؤيد ذلك ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) : القدر هو الهندسة ووضع الحدود في البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين. (3)
    القول بالقضاء والقدر على نحو الإجمال من العقائد الإسلامية التي لا يصحّ لمسلم إنكارها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في تفسيرهما وأنّه هل القضاء والقدر بمعنى التقدير والحتم على أفعال الإنسان وخلقها بلا إرادة واختيار منه ، وأنّه في مسرح الحياة مكتوف اليدين فيما كتب وقدر عليه حتى فيما يتعلّق بالتكاليف ( الحلال والحرام ) أو أنّه بمعنى علمه السابق ، على وجود الأشياء وتقديره وتحديده والحكم بوجودها على وجه لا ينافي اختيار العبد وحريته من
1 ـ القمر : 49.
2 ـ الإسراء : 23.
3 ـ الكافي : 1/158.


(235)
الأساس.
    وإن شئت قلت : ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الإلهي مع إعطاء القدرة على الفعل والترك وتعريف الخير والشر ، وبيان عاقبة الأوّل ومغبة الأخير ، فهذا العلم السابق لا يستلزم جبراً ، وعلمه سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين وما يأتون به من العمل من خير أو شر لا ينافي التكليف ، كما لا سببية له في اختيار المكلّفين ولا يقبح معه عقلاً ، العقاب على المعصية ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.
    أمّا سبق علمه سبحانه على خصوصيات الفعل وتحقّقه وعدمه ، فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّه يَسير ). (1)
    وقوله سبحانه : ( وَكُلّ شَيء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر* وَكلُّ صَغيروَكَبِير مُسْتَطَر ). (2)
    وقال عزّ من قائل : ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذنِ اللّه ) . (3)
    و أمّا كون القدر والقضاء لا ينافي التكليف ، فيكفي قوله سبحانه : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (4) وقوله سبحانه : ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين ). (5)
    وقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَشْكرْ فَإِنّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَميد ). (6)
    فاللّه سبحانه خلق الإنسان مزيجاً من العقل والنفس مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء ، فمن عامل بالطاعة بحسن اختياره ، ومن مقترف للمعصية بسوء الخيرة.
    وتدلّ على ذلك الآيات التالية : ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيرات ). (7) ( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ). (8) ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ
1 ـ الحديد : 22.
2 ـ القمر : 52 ـ 53.
3 ـ الحشر : 5.
4 ـ الإنسان : 3.
5 ـ البلد : 10.
6 ـ لقمان : 12.
7 ـ فاطر : 32.
8 ـ يونس : 108.


(236)
وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ) . (1) ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَليْها ). (2) ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) . (3)
    إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حرية الإنسان في اختياره خصوصاً فيما يرجع إلى الطاعة والمعصية.
    إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة :
    إنّه سبحانه « يعلم ما في السماء والأرض إنّ ذلك في كتاب إنّ ذلك على اللّه يسير » (4) و في ضوء ذلك نعتقد بأنّه سبحانه يعلم أعمارنا وأرزاقنا وما يجري في حياتنا من الأحداث ، وما نقوم به من الأفعال كما يعلم مواعيد وفاتنا والكلّ موجود في ( كتاب مُبِين ) . (5)
    لكن علمه السابق بما يجري في صحيفة الكون لا يجعل الإنسان مكتوف اليد أمام الملابسات التي حوله ولا يصيره كالريشة في مهب الريح ، بل هو في الكون محكوم من جهة ومختار من جهة أُخرى ، محكوم بالسنن العامة السائدة على الكون والحياة ولا يمكن الخروج عنها ، مختار في ما تتعلق به إرادته وفي موقفه من الملابسات التي حوله.
    فالنوازل والمصائب والحروب الطاحنة تنتابه ، شاء أم لم يشأ والموت يدمّر حياته وكيانه والسموم القتالة تهلكه والجراثيم الضارية تنحرف بها صحته ، ولكنّه غير مسؤول أمام هذه الأُمور الخارجة عن اختياره ، ولكنّه أمام نعمه سبحانه والإمكانيات التي حوله أمام خيارين : فله أن يستفيد منها بما يمد حياته في الدنيا ويسعده في الآخرة كما أنّ له خلاف ذلك. فلو قلنا : الإنسان مخيَّر لا مسيّّر ، فإنّما
1 ـ الجاثية : 15.
2 ـ الأنعام : 104.
3 ـ الإسراء : 7.
4 ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( ألم تعلم أنّ اللّه يعلم ما في السماء ... ) ( الحج : 70 ).
5 ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( وَيَعْلَمُ ما في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبّة في ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطْب وَلا يابِس اِلاّ في كِتاب مُبين ) ( الأنعام : 59 ).


(237)
نريد هذا الجانب الثاني ، ولو قيل إنّه مسيّر لا مخيّر ، فلابدّ أن يراد منه الجانب الأوّل. ثمّ إنّ في الذكر الحكيم آيات ودلالات وتصريحات على كون الإنسان مخيراً ، وهي على حدّ لا يمكن جمعها في مقام واحد.
    يقول اللّه لِكلِّ بشر على ظهر الأرض : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبل أَنْ يَأْتِيَ يَومٌ لا مَردَّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَومَئِذ يَصَّدّعُون* مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُون ) (1) ، فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟
    وعندما يصف ربّنا جزاء الكذبة والمكّذبين ويبيّن عقبى عملهم ويقول : ( فَلَنُذيقَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَديداً وَلَنَجزِيَنَّهُمْ أَسوأ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءاللّه النّار لَهُمْ فِيها دارُ الخُلْد جَزاءً بِما كانُوا بِ آياتِنا يَجْحَدُون ) (2) هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء؟ وهل هذه النقمة المحسوسة على المجرمين تومئ من قرب أو بعد إلى أنّ القوم كانوا أهل خير فلوى زمامهم قدر سابق أو كتاب ماحق؟ ما أقبح هذا الفهم! في يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم. والقرآن حريص كلّ الحرص على إعلان هذه الحقيقة وهي أنّك واجد ما قدمت لن تؤخذ أبداً بشيء لم تصنعه ، لم تغلب على إرادتك يوماً فيحسب عليك ما لم تشأ. إنّ المغلوب على عقله أو قصده لا يؤاخذ أبداً بل إنّ التكليف يسقط عنه.
    وتدبر قوله تعالى : ( أَلْقيا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّار عَنِيد* مَنّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُرِيب* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللّه ِإِلهاً آخَرَ فَألقِيَاهُ فِي العَذابِ الشَّدِيد* قالَ قَرينُهُ رَبّنا ما أَطغيتُهُ ولكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيد ) (3) ربّنا سبحانه و تعالى ينفي الظلم عن نفسه ويقول إنّه ما عذب إلاّ من فرط وأساء. (4)
1 ـ الروم : 43 ـ 44.
2 ـ فصلت : 27 ـ 28.
3 ـ ق : 24 ـ 27.
4 ـ السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : 148 ـ 149 ، ولكلامه ذيل فراجعه.


(238)
    وعلى ذلك فهنا أمران مسلّمان لا يصح لأحد إنكار واحد منهما :
    1 ـ إنّ للّه سبحانه علماً سابقاً على كلّ شيء ، ومنه أعمال العباد ويعبر عنه بالقدر والتقدير.
    2 ـ الإنسان مخيّر في ما تتعلّق به إرادته ومحكوم فيما هو خارج عن إطار إرادته. وللمسلم الواعي الجمع بينهما على وجه صحيح ، وسوف يوافيك بيان هذا الجمع عند البحث عن عقيدة الأشاعرة في كون الإنسان مسيّراً لا مخيراً. (1)
    وعلى ذلك فالاعتقاد بالتقدير والقضاء أمر لا يمكن لمسلم إنكاره كما أنّ حرية الإنسان في مجال التكليف مثله أيضاً ، فإذاً ما هو الذي وقع مثاراً للنقاش؟
    في النصف الثاني من القرن الأوّل بل قبله بقليل أيضاً ، انتشر القول بالقدر حتى فرق المسلمين إلى قولين : إلى قدري وجبري ، ولكن قد عرفت أنّ القدرية مع أنّها في اللغة بمعنى مثبتة القدر يرادمنه في المصطلح النافون للقدر.
    لابدّمن أن نقف ملياً للتأمل في تشخيص النزاع بين الطرفين.
    فنقول : إنّ التأمّل في عقائد بعض العرب في الجاهلية يوحي بأنّهم كانوا قائلين بالقدر ومثبتين له بشكل يستنتجون منه سلب المسؤولية عن أنفسهم وإلقاءها على عاتق القدر. وهذا التفسير كان رائجاً بينهم وإن لم يعم الجميع ، يقول سبحانه : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخرجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تخرصُون ). (2)
1 ـ لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة ، وسيوافيك إجماله في آخر هذا البحث عند القول بأنّ « القدر لا يلازم الجبر ».
2 ـ الأنعام : 148.


(239)
    ولعلّ قوله سبحانه : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ) (1) يشير إلى أنّهم كانوا يعتذرون بأنّ تقديره سبحانه يلازم الجبر ونفي الاختيار ، واللّه سبحانه يرد على تلك المزعمة بهذا القول.
    فقد بقيت هذه العقيدة الموروثة من العصر الجاهلي في أذهان بعض الصحابة ، فقد روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب ( منهزماً ) فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر اللّه. (2)
    والعجب أنّ تلك العقيدة بقيت في أذهان بعض الصحابة حتّى بعد رحلة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فهذا السيوطي ينقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنى بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنّ اللّه قدّره علي ثمّ يعذّبني؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (3)
    لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر ، فسأل الخليفة عن كون الزنى مقدّراً من اللّه أم لا؟ فلمّا أجاب الخليفة بنعم ، استغرب من ذلك لأنّ العقل لا يسوغ تقديره سبحانه شيئاً بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه ، ولذلك قال : فإنّ اللّه قدره علي ثمّ يعذبني؟ فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه وقال : نعم يابن اللخناء.
1 ـ الأعراف : 28.
2 ـ مغازي الواقدي : 3/904.
3 ـ تاريخ الخلفاء : 95.


(240)
استغلال الأمويين للقدر
    لقد اتّخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيّئة ، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر ، قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها. (1)
    ولأجل ذلك لمّا سألت أُمّ المؤمنين عائشة ، معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها : إن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (2)
    وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد اللّه بن عمر عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد بقوله : إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم. (3)
    وقد كانت الحكومة الأموية الجائرة متحمّسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي ، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد.
    قال الدكتور أحمد محمود صبحى في كتابه « نظرية الإمامة » : إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ، ولكن ب آيديولوجية تمس العقيدة في الصميم ، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه و بين علي ( عليه السَّلام ) قد احتكما فيها إلى اللّه فقضى اللّه له على علي ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة في أمرهم ، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين ، أنّ كلّ ما يأمر به الخليفة ـ حتى و لو كانت طاعة اللّه في خلاف هـ فهو قضاء من اللّه قد قدّر على العباد. (4)
1 ـ الأوائل : 2/125.
2 ـ الإمامة والسياسة : 1/167.
3 ـ الإمامة والسياسة : 1/171 .
4 ـ نظرية الإمامة : 334.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس