بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 241 ـ 250
(241)
    وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويين من الذين كانوا في خدمة خلفائهم وأُمرائهم فهذا عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام الشهيد الحسين ( عليه السَّلام ) لمّا اعترض عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي بقوله : اخترت همذان والري على قتل ابن عمك فقال عمر : كانت أُمور قضيت من السماء ، وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّما أبى. (1)
    ويظهر أيضاً ممّا رواه الخطيب عن أبي قتادة عندما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة فقالت عائشة : ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق سمعت النبي يقول : تفترق أُمّتي على فرقتين ، تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم ، مخفون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبهم إلي ، وأحبهم إلى اللّه. قال : فقلت : يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟!
    قالت : يا قتادة وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً ، وللقدر أسباب ». (2)
    وقد كان حماس الأمويين في هذه المسألة إلى حدّ قد كبح ألسن الخطباء عن الإصحار بالحقيقة ، فهذا الحسن البصري الذي كان من مشاهير الخطباء ووجوه التابعين ، وكان يسكت أمام أعمالهم الإجرامية ولكن كان يخالفهم في القول بالقدر بالمعنى الذي كانت تعتمد عليه السلطة آنذاك. فلمّا خوّفه بعض أصدقائه من السلطان ، وعد أن لا يعود.
    روى ابن سعد في طبقاته عن أيّوب قال : نازلت الحسن في القدر غير مرّة حتّى خوفته من السلطان ، فقال : لا أعود بعد اليوم. (3)
    كيف وقد جلد محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة في مخالفته في القدر.
    قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : « إنّ محمّد بن إسحاق اتّهم بالقدر ، وقال الزبير عن الدراوردي : وجلد ابن إسحاق يعني في القدر. (4)
1 ـ طبقات ابن سعد : 5/148.
2 ـ تاريخ بغداد : 1/160.
3 ـ طبقات ابن سعد : 7/167.
4 ـ تهذيب التهذيب : 9/38 ـ 46.


(242)
أحاديث مختلقة لا تفارق الجبر
    وفي ظل هذا الإصرار على القضاء والقدر بهذا المعنى نسجت أحاديث لا تفارق الجبر قيد شعرة. وإليك أمثلة منها :
    1 ـ روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب ، عن عبد اللّه قال : حدّثنا رسول اللّه وهو الصادق أنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً ، ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها; وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها. (1)
    2 ـ وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا ربّ أشقي أو سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، ثمّ تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص. (2)
    3 ـ قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال : يا رسول اللّه بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن فيما العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال : لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، قال : ففيم العمل؟ قال : اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله. (3)
    فبناء على الحديث الأوّل لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما
1 ـ صحيح مسلم : 8/44 كتاب القدر.
2 ـ صحيح مسلم : 8/45 كتاب القدر.
3 ـ جامع الأُصول : 1/516 صحيح مسلم : 8/48.


(243)
لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنّة أو النار ، فكلّما أراد من شيء يكون الكتاب السابق حائلاً بينه و بين إرادته.
    والحديث الثاني يدلّ على أنّ الإنسان لا يقدر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والأدعية والصدقات ، وأنّ الكتاب الذي سبق ، حاكم على الإنسان فلا يزاد ولا ينقص وهو يخالف النصوص الثابتة في القرآن والسنّة من تغيير المصير والزيادة والنقص على المكتوب ، بالأعمال الصالحة أو الطالحة.
    إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا الشكل الذي يجعل الإنسان مكتوف اليدين في بحر الحياة ممّا ترغب عنه الفطرة السليمة.
    إنّ هذه الأحاديث قد نسجت وفق المعتقدات السائدة للسلطة آنذاك حتى تبرر أنّ الوضع الاجتماعي آنذاك لا يمكن تغييره أبداً فإنّه شيء قد فرغ منه. فالفقير يجب أن يبقى هكذا ، والغني كذلك يبقى غنياً ، وهكذا المظلوم والظالم.
    ترى أنّهم قد رووا عن عبد اللّه بن عمر ، عن أبيه قال : يا رسول اللّه أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع ـ أو مبتدأ ـ أو فيما قد فرغ منه؟ فقال : « بل فيما قد فرغ منه ، يا ابن الخطاب وكلّ ميسر; أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء ».
    وفي رواية قال : لما نزلت ( فَمِنْهُمْ شَقيٌّ وَسَعيدٌ ) (1) سألت رسول اللّه ، فقلت : يا نبي اللّه فعلام نعمل ، على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : « بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر! ولكن كلّ ميسر لما خلق له ». (2)
    وهذا الحديث يعرب عن أنّه قد تم القضاء على الناس في الأزل وجعلهم صنفين وكل ميسر لما خلق له ، لا لما لم يخلق له ، فأهل السعادة ميسرون
1 ـ هود : 105.
2 ـ جامع الأُصول : 10/516 ـ 517 ، وفيه أخرجه الترمذي.


(244)
للأعمال الصالحة فقط ، وأهل الشقاء ميّسرون للأعمال الطالحة فقط.
    وهذه المرويات في الصحاح والمسانيد ـ و قد تقدّم بعضها ـ (1) لا تفترق عن الجبر وهي تناقض الأُصول المسلّمة العقلية والنقلية وحاشا رسول اللّه وخيرة أصحابه أن ينبسوا بها ببنت شفة وإنّما حيكت على منوال عقيدة السلطة ، وعند ذلك لا تعجب ممّا يقوله أحمد بن حنبل في رسائله :
    القدر خيره وشره وقليله وكثيره وظاهره وباطنه وحلوه ومرّه ومحبوبه ومكروهه وحسنه وسيّئه وأوّله وآخره من اللّه. قضاء قضاه ، وقدر قدّره ، لا يعدو أحد منهم مشيئة اللّه ولا يجاوز قضاءه ، بل كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له ، واقعون فيما قدر عليهم لأفعالهم وهو عدل منه عزّ ربّنا وجلّ. والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر. (2)
    وقد سرى الجهل إلى أكثر المستشرقين فاستنتجوا من هذه النصوص أنّ الإسلام مبني على القول بالجبر وفي ذلك يقول « ايرفنج » ـ من أعلام الكتاب في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ـ : القاعدة السادسة من قواعد العقيدة الإسلامية هي الجبرية ، وقد أقام محمد جلّ اعتماده على هذه القاعدة لنجاج شؤونه الحربية ، وهذا المذهب الذي يقرر أنّ الناس غير قادرين بإرادتهم الحرة على اجتناب الخطيئة أو النجاة من العقاب ، ويعتبره بعض المسلمين منافياً لعدل اللّه ، فقد تكونت عدّة فرق جاهدت وهم لا يعتبرون من أهل السنّة. (3)
    هذا غيض من فيض ممّا يمكن أن يذكر حول القول بالقدر وسيوافيك توضيحه والمضاعفات الناجمة عنه عند البحث عن عقيدة الأشاعرة.
    إنّ هنا كلمة للشيخ « محمد الغزالي » المعاصر حول القدر والجبر يعرب
1 ـ لاحظ ص 156 ـ 161 من هذا الجزء.
2 ـ طبقات الحنابلة : 1/15 بتصرّف يسير ، وقد تقدّم نصّ الرسالة.
3 ـ حياة محمد : 549.


(245)
عن أنّ المحقّقين من أهل السنّة بدأوا يدرسون الإسلام من جديد أو يدرسون الأُصول الموروثة من أبناء الحنابلة وأهل الحديث من رأس وقد رد على القول بالقدر المستلزم للجبر رداً عنيفاً يعرب عن حريته في الرأي وشجاعته الأدبية في تحليل عقائد الإسلام نقتبس منه ما يلي :
    فمن الناس من يزعم أنّ الحياة رواية تمثيلية خادعة ، وأنّ التكليف أُكذوبة وأنّ الناس مسوقون إلى مصائرهم المعروفة أزلاً طوعاً أو كرهاً وأنّ المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة والغريب أنّ جمهوراً كبيراً من المسلمين يجنح إلى هذه الفرية بل إنّ عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر ، ولكنّهم حياءً من اللّه يسترون الجبر باختيار خافت موهوم ، وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها وكانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع.
    إنّ العلم الإلهي المحيط بكلّ شيء وصّاف كشّاف يصف ما كان ويكشف ما يكون والكتاب الدالّ عليه يسجل للواقع وحسب!لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً إنّه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص ولا أثر لها في سلب أو إيجاب.
    إنّ هذه الأوهام ( التقدير سالب للاختيار ) تكذيب للقرآن والسنّة ، فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك والقول بأنّ كتاباً سبق علينا بذلك ، وأنّه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً ، هذا كلّه تضليل وإفك لقوله تعالى : ( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ) (1) ، ( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) . (2)
    والواقع أنّ عقيدة الجبر تطويح بالوحي كلّه وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة بل هي تكذيب للّه والمرسلين قاطبة ومن ثمّ فإنّنا
1 ـ الأنعام : 104.
2 ـ الكهف : 29.


(246)
نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم وغيره : إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ... . (1)
    ونظير ذلك ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنّه سئل عن قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أنفُسِهِمْ ألستُ بربِّكُمْ قاَلُوا بَلَى شَهِدْنا أن تقُولُوا يومَ القِيامَِةِ إنّا كُنّا عِنْ هذا غافِلين ) (2) قال عمر ابن الخطاب : سمعت رسول اللّه يسأل عنها فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّ اللّه خلق آدم ثمّ مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريّة فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثمّ مسح على ظهره فاستخرج منه ذريّة فقال : هؤلاء خلقت للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول اللّه ففيم العمل؟ قال : فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : إنّ اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة ، وإذا خلق العبد للنّار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله اللّه النار ». (3)
    فإنّ هذا التفسير المنسوب لعمر يسير في اتجاه مضاد للتفسير البديهي المفهوم من الآيات البينات.
    على أنّه ليس هنا أثر من الجبر الإلهي في الآية التي ورد الحديث في تفسيرها ولا يفيد أنّ اللّه خلق ناساً للنار يساقون إليها راغمين ، وخلق ناساً للجنّة يساقون إليها محظوظين! وإنّ التعلق بالمرويات المعلولة إساءة بالغة للإسلام.
    كلّ ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمد لدين اللّه ودنيا الناس ،
1 ـ قد مرّ نصّ الحديث في ص 264.
2 ـ الأعراف : 172.
3 ـ صحيح الترمذي : 5/266 ، رقم الحديث 3075.


(247)
وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله ، وكأنّهم يقولون للناس : أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه ، فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من الخط المرسوم لكم مهما بذلتم!
    إنّ هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربّنا ، ولا اقتداء دقيقاً بسنة نبيّنا إنّه تخليط قد جنينا منه المر!
    وكلّ أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأُخروي يجب أن لا نلتفت إليه فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدها حديث واهي السند أو معلول المتن ، لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا ننسى أنّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر وصعود وهبوط والسفينة تحكمها الأمواج ولا تحكم الأمواج ، ويعني هذا أن نلزم موقفاً محدداً بإزاء الأوضاع المتغيرة التي تمر بنا هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب.
    أمّا الأوضاع التي تكتنفنا فليست من صنعنا ومنها يكون الاختيار الذي يبت في مصيرنا ، إنّ تصوير القدر على النحو الذي جاءت به بعض المرويات غير صحيح ، وينبغي أن لا ندع كتاب ربّنا لأوهام وشائعات تأباها روح الكتاب ونصوصه.
    القرآن قاطع في أنّ أعمال الكافرين هي التي أردتهم ( يا أَيُّهَا الَّذينَ كَفَروا لا تَعْتَذِرُوا الْيَومَ إِنّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) (1) وقاطع في أنّ أعمال الصالحين هي التي تنجيهم ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) . (2)
    فلا احتجاج بقدر ولا مكان لجبر وعلى من يسيئون الفهم أو النقل أن لا يعكّروا صفو الإسلام.
    جاءت في القدر أحاديث كثيرة نرى أنّها بحاجة إلى دراسة جادة حتى يبرأ المسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التي أصابتهم قديماً وحديثاً. (3)
1 ـ التحريم : 7.
2 ـ الأعراف : 43.
3 ـ السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : 144 ـ 157 بتلخيص.


(248)
تكوين القدرية كرد فعل
    و لمّا كان القدر والقضاء بالمعنى الذي تروّجه السلطة الأموية مخالفاً للفطرة والعقل قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركّزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته فيما يرجع إلى سعادته وشقائه ، وفيما عينت للثواب والعقاب ، ولكن السلطة اتهمتهم بنفي القضاء والقدر ومخالفة الكتاب والسنة ثمّوضعت السيوف على رقاب بعضهم ، هذا هو معبد الجهني اتّهموه بالقدر ( نفي القدر ) ذهب إلى الحسن البصري فقال له : إنّ بني أُميّة يسفكون الدماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر اللّه ، فقال : كذب أعداء اللّه. (1)
    ومعبد هذا قد اتّهم بالقدرية وأنّه أخذ هذه العقيدة عن رجل نصراني ، ولكنّه اتهام في غالب الظن قد أُلصق به وهو منه براء وهذا الذهبي يعرّفه بقوله : إنّه صدوق في نفسه ، وإنّه خرج مع ابن الأشعث على الحجاج حتى قتل صبراً ، ووثّقه ابن معين ونقل عن جعفر بن سليمان أنّه حدثه مالك بن دينار قال لقيت معبداً الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهوجريح وكان قاتل الحجاج في المواطن كلّها. (2)
    ولا أظن أنّ الرجل الذي ضحى بنفسه في طريق الجهاد ومكافحة الظالمين ينكر ما هو من أوضح الأُصول وأمتنها ، ولو أنكر فإنّما أنكر المعنى الذي استغله النظام آنذاك ويشهد بذلك محاورته الحسن البصري الآنفة.
    ومثله غيلان الدمشقي فقد اتّهم بنفس ما اتهم به أُستاذه ، فهذا الشهرستاني يقول : كان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد. وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز ، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته ، فأفتى بقتله ، فصلب على باب كيسان بدمشق. (3)
1 ـ الخطط المقريزية : 2/356.
2 ـ ميزان الاعتدال : 4/141.
3 ـ الملل النحل للشهرستاني : 1/47.


(249)
    وقد صارت مكافحة هذا الاتجاه الظاهر عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي ومحاربته سبباً لظهور المفوّضة الذين كانوا يعتقدون بتفويض الأُمور إلى العباد وأنّه ليس للّه سبحانه أي صنع في أفعالهم ، فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ، مستغنياً عن اللّه سبحانه فصار كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء والقدر حاكماً على كلّ شيء ولا يمكن تغييره بأي صورة أُخرى من الصور. فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد ويميلان إلى جانبي الإفراط والتفريط في الخلق وسيوافيك تفصيل القول في محله.

الاحتجاج بالقدر
    إنّ القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية من شأنه أن يجعل الإنسان مسلوب الاختيار ، مسيراً في حياته غير مختار في أفعاله فعند ذلك يصحّ للعبد أن يحتجّ على المولى في عصيانه ومخالفته.
    ومن العجيب انّه جاء في الصحيحين حديث عن أبي هريرة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « احتجّ آدم وموسى فقال موسى : يا آدم أنت أبوالبشر الذي خلقك اللّه بيده ، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ » فقال له آدم : أنت موسى الذي كلّمك اللّه تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً « وعصى آدم ربّه فغوى » قبل أن أخلق؟ قال : بأربعين سنة قال فحج آدم موسى ». (1)
    وقد اضطرب القائلون بالقدر ومالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذا الحديث وأمثاله إذ لو صحّ القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية لكان باب العذر للعبد مفتوحاً على مصراعيه.
    والعجب من ابن تيمية حيث فسر الحديث في رسالة أسماها
1 ـ جامع الأُصول : 10/523 ـ 525; صحيح البخاري : 4/158 و 6/96 و 8/126 و 9/148.

(250)
ب ـ « الاحتجاج بالقدر » بأنّ موسى لم يلم آدم إلاّمن جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل لا لأجل أنّ تارك الأمر الإلهي مذنب عاص ، ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولم يقل : لماذا خالفت الأمر؟ ولماذا عصيت؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم ، بالتسليم للقدر وشهود الربوبية كما قال اللّه تبارك و تعالى : ( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَة إِلاّبِإِذْنِ اللّه ) . (1)
    ووجه العجب : أنّ ابن تيمية قصر النظر على كلام موسى حيث اعترض على آدم بأنّه لماذا أخرج نفسه وذريته من الجنة ، ولم يلتفت إلى جواب آدم ، فإنّه صريح في الاحتجاج بالقدر في مورد العصيان وأنّ معصيته كانت أمراً مقدراً قبل أن يخلق فلم يكن بد منها حيث قال لموسى : أنت موسى الذي كلمك اللّه تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً « وعصى آدم ربّه فغوى » قبل أن أخلق ، قال : بأربعين سنة قال : فحج آدم موسى. (2)
    وعلى ذلك فموسى وإن لم يلم آدم إلاّمن جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل ، لكن لما كانت المصيبة نتيجة المعصية ، احتج آدم على موسى بأنّ المعصية لما كانت أمراً مقدراً وهو بالنسبة إليها مسيراً ، وكانت المصيبة نتيجة لها ، فهو معذور في المصيبة الّتي عمّته وذريته. فالكلّ من السبب والمسبب كانا خارجين عن قدرته واختياره فلا لوم على المصيبة لعدم صحّة اللوم على المعصية المقدّرة قبل خلقته بأربعين سنة.
    ثمّ إنّ كثيراً من القائلين بالقدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث لمّا رأوا في صميم عقلهم وأغوار فكرهم أنّه لا يجتمع معالتكليف ، صاروا إلى الإجابة بأصل مبهم جداً ، وهو أنّه « لا يحتج بالقدر ».
    و عندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي :
    لو كان القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث أمراً صحيحاً يجب
1 ـ التغابن : 11.
2 ـ الاحتجاج بالقدر : 18.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس