بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 251 ـ 260
(251)
الإذعان به و بنتائجه ولوازمه وهو كون الإنسان مجبوراً مسيراً فلا محالة يصحّ الاحتجاج به أيضاً في مقام الاعتذار.
    وبالجملة : لا مناص عن اختيار أحد الأمرين : إمّا الإذعان بالقدر ونتائجه ولوازمه ومنها الاحتجاج على المولى سبحانه في مقام المخالفة ، وإمّا رفض ذلك الاعتقاد والقول بكون الإنسان مخيراً مختاراً. فالجمع بين الإذعان بالقدر وعدم الاحتجاج به أشبه بالأخذ بالشجرة وإضاعة الثمرة.
    ثمّ إنّ ابن تيمية قد التجأ في حلّ العقدة إلى جواب آخر : وهو أنّ القدر لا يحتج به ، قال : « وليس القدر حجّة لابن آدم ولا عذراً بل القدر يؤمن به ولا يحتج به والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين فإنّ القدر إن كان حجّة وعذراً لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه ، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن لأحد أن يفعله ، وهو ممتنع طبعاً ، محرم شرعاً ، ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطرة الخلق وعقولهم ، لم تذهب إليه أُمّة من الأُمم ، ولا هو مذهب أحدمن العقلاء ». (1)
    وكان على ابن تيمية أن يتنبّه عندئذ فيجعل عدم احتجاج العقلاء بالقدر دليلاً على بطلان القدر بالمعنى الذي اختاره وتديّن به ، وإلاّفلو صحّ القدر لا يصحّ أن يقال « لا يحتج به ».
    وبالجملة : إمّا أن يؤمن بالقدر ويحتج به ، وإمّا أن لا يؤمن به ولا يحتج به.
    وهناك أمر آخر ، وهو : أنّ القائل بالقدر يصرح بوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره ، وبما أنّ القدر فعل اللّه سبحانه ، فتكون النتيجة كون الخير والشر من أفعاله سبحانه وتقديراته حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته. مع أنّ صريح الصحاح من الأحاديث خلافه وأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « والشر ليس إليك ». (2)
1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : 1/88 ـ 91.
2 ـ سنن النسائي : 2/130 ، كتاب الصلاة ، أبواب الافتتاح ، باب « نوع آخر من الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة ».


(252)
    وعلى ذلك فيجب تفسير الشر بشكل يناسب مقام الرب كالجدب و المرض والفقر والخوف. وإطلاق الشر عليها نوع مجاز وتأويل.

محاولة للجمع بين القدر وصحّة التكليف
    إنّ بعض المتحذلقين في العصر الحاضر لمّا رأى أنّ القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الروايات لا يجتمع مع الاختيار والحرية ويناقض صحّة التكليف ، صار بصدد الجمع بينهما فقال : « إنّ للقدر أربع مراتب :
    المرتبة الأُولى : العلم : علمه الأزلي الأبدي ، فلا يتجدّد له علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم.
    المرتبة الثانية : الكتاب : فنؤمن بأنّ اللّه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالأَرضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتاب انَّ ذلكَ على اللّهِ يَسِير ) . (1)
    المرتبة الثالثة : المشيئة : فنؤمن بأنّ اللّه تعالى قد شاء كلّ ما في السماوات والأرض لا يكون شيء إلاّبمشيئته ، ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن.
    المرتبة الرابعة : الخلق : فنؤمن بأنّ ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء و هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيل* لَهُ مقالِيدُ السّماواتِ والأرض ) (2) ».
    وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من اللّه نفسه ولما يكون من العباد. فكلّ ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك ، فهي معلومة للّه تعالى مكتوبة عنده واللّه قد شاءها وخلقها. ثمّ يقول :
    ولكنّنا مع ذلك نؤمن بأنّ اللّه تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة ، بهما يكون الفعل ، والدليل على أنّ فعل العبد باختياره وقدرته أُمور. ثمّ استدل ب آيات تثبت للعبد إتياناً بمشيئته وإعداداً بإرادته مثل قوله سبحانه : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُم ) (3) وقوله : ( وَلَو
1 ـ الحج : 70.
2 ـ الزمر : 62 ـ 63.
3 ـ البقرة : 223.


(253)
أَرادُوا الخُرُوجَ لأَعدّوا لَهُ عُدَّة ) (1) . (2)
    انظر إلى التناقض الذي ارتكبه الكاتب المعاصر وهو بصدد بيان العقيدة الإسلامية ، إذ لو كان فعل العبد معلوماً للّه ومكتوباً في اللوح المحفوظ وقد شاء اللّه فعله وخلقه ، فكيف يكون للعبد اختيار وقدرة بهما يوجد الفعل؟ وهل الفعل بعد علمه تعالى وكتابته ، ومشيئته وخلقه يكون محتاجاً إلى شيء آخر حتّى يكون لاختيار العبد وقدرته دور في ذلك المجال؟ « هل قرية وراء عبادان »؟؟!
    فكما أنّه لا يكون للعباد دور في خلق السماوات والأرض بعد ما تعلّق به علمه سبحانه وكتبه في لوحه ، وشاء وجوده ، وخلقه ، فهكذا أفعال عباده بعد ما وقعت في إطار هذه المجالات الأربعة.
    وبالجملة فعندما تحقّق الخلق من اللّه لا تكون هناك أية حالة انتظارية في تكوّن الفعل ووجوده. فلا معنى لأن يكون للعبد بعد خلقه سبحانه دور أو تأثير. وأمّا مسألة « الكسب » الذي أضافه إمام الأشاعرة إلى « الخلق » فعده سبحانه خالقاً والعبد كاسباً ، فسيوافيك أنّه ليس للكسب مع معقول بعد تمامية الخلقة ، فتربص حتى حين.

صراع بين الوجدان وظواهر الأحاديث
    لا شكّ أنّ كلّ إنسان يجد من صميم ذاته أنّ له قدرة واختياراً ولا يحتاج في إثباته إلى الاستدلال بالآيات والروايات كما ارتكبه الكاتب وهذا شيء لا يمكن لأحد إنكاره ، ولذلك صحّ التكليف وحسن بعث الأنبياء وعليه يدور فلك الحياة في المجتمع الإنساني.
    والقدر بالمعنى الذي تصرح به الأحاديث لا يجتمع مع اختيار العبد وقدرته ، فلو صحّ القدر بالمعنى المعروف بين أهل الحديث لم يكن مناص في
1 ـ التوبة : 46.
2 ـ « عقيدة أهل السنّة والجماعة » بقلم محمد صالح العثيمين من منشورات الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة : ص 27 ـ 29.


(254)
الصراع عن ارتكاب أحد أمرين : إمّا إنكار القدر و القضاء وهو لا يصحّ أن يصدر من مسلم مؤمن بكتاب اللّه ، وإمّا إنكار القدرة والاختيار وهو يخالف الوجدان والفطرة السليمة ، وأمّا الجمع بينهما فهو أمر غير ممكن.
    والحقّ أنّ الاعتقاد بالقدر بالمعنى الوارد في الروايات السابقة لا ينفك عن الجبر قيد شعرة ، وللعبد الاحتجاج على المولى بأنّ الفعل ـ بعد تنزّله من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة ومنهما إلى درجة المشيئة فدرجة الخلق والإيجاد ـ يكون عندئذ مخلوقاً للّه سبحانه و فعلاً له ، وكلّ فاعل مسؤول عن فعل نفسه لا فعل غيره. ( وَلاتَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى ) (1) . ولا تكون حينئذ للفعل أية صلة بالعبد إلاّ كونه ظرفاً للصدور ومحلاً لإيجاده سبحانه.
    ولكن الإمامية مع اعترافهم بالمراتب الأربع للقدر لا يرونه ملازماً للجبر ، بل يرون للعبد بعدها اختياراً وحرية. ولأجل ذلك يجب تركيز الكلام في تفسير كون الفعل مورداً لمشيئته وكونه مخلوقاً له سبحانه ، وإليك بيان هذين الأمرين :
القول بالقدر لا يلازم الجبر
    إنّ منشأ توهم الجبر وكون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً ً أحد أمرين :
    1 ـ كون فعله متعلّقاً لمشيئته سبحانه وما شاء اللّه يقع حتماً.
    2 ـ كونه خالقاً لكلّ شيء حتّى أفعال عباده وإلاّ بطل التوحيد في الخالقية.
    وبالبيان التالي يظهر بطلان التوهم المذكور ، وأنّ واحداً من الأصلين لا يقتضي الجبر ، إذا فسر على الوجه الصحيح ، لا على الوجه الذي يتبنّاه أهل الحديث وحتى الأشاعرة. فنقول :
1 ـ الأنعام : 164.

(255)
الأمر الأوّل : تعلّق مشيئته بالأفعال
    أمّا كون أفعال العباد متعلّقة لمشيئته سبحانه ، فهناك من ينكر ذلك ويقول : إنّ التقدير يختص بما يجري في الكون من حوادث كونية ممّا يتعلّق به تدبيره سبحانه ، وأمّا أفعال العباد فليست متعلّقة بالتقدير والمشيئة ، بل هي خارجة عن إطارهما ، والحافز إلى ذاك التخصيص هو التحفّظ على الاختيار ونفي الجبر ، فهذا القول يعترف بالقدر ولكن لا في أفعال العباد بل في غيرها.
    يلاحظ عليه : أنَّّ الظاهر من الآيات أنّ فعل العباد تتعلّق به مشيئة اللّه ، وأنّه لولا مشيئته سبحانه لما تمكن من الفعل.
    يقول الراغب : لولا أنّ الأُمور كلّها موقوفة على مشيئة اللّه وأنّ أفعالنا معلّقة بها وموقوفة عليها لما أجمع الناس على تعليق الاستثناء به في جميع أفعالنا نحو ( سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرينَ ) ، ( سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ صابِراً ) ، ( يَأِتْيكُمْ بِهِ الّلهُ إن شاء ) ، ( ادخُلُوا مِصْرَ إن شاءَ اللّهُ ) ، ( قُلْ لا أملِكُ لِنَفْسِي َنْفْعاً ولا ضَرّاً إلاّ ما شاءَ اللّهُ ) ، ( وَما يكونُ لَنا أنْ نعودَ فِيها إلاّأن يشاءَ اللّهُ ربُّنا ) ، ( ولا تَقُولَنَّ لِشَيء إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غداً * إلاّ أن يشاءَ اللّهُ ) . (1)
    وهناك آيات أُخر لم يذكرها « الراغب » :
    1 ـ قوله سبحانه : ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أو ترَكْتُمُوها قائِمَةً عَلَى أُصُولِها فبإذنِ اللّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقين ) . (2)
    فالإذن هنا بمعنى المشيئة وما ذكر من القطع والإبقاء من باب المثال.
    2 ـ قوله سبحانه : ( إن هُوَ إلاّ ذِكْرٌ لِلعالَمِين* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيم* وما تَشاؤُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ربُّ العَالَمِينَ ) . (3)
    3 ـ قوله سبحانه : ( إنَّ هَذِهِ تَذْكِرةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخذَ إلى ربّهِ سَبِيلاً*
1 ـ المفردات : 271.و الآيات كالتالي : الصافات : 102 ، الكهف : 69 ، هود : 33 ، يوسف : 99 ، الأعراف : 188 و 89 ، والكهف : 23 ـ 24.
2 ـ الحشر : 5.
3 ـ التكوير : 27 ـ 29.


(256)
وما تَشاءُونَ إلاّ أن يَشاءَ اللّهُ إنّ اللّهَ كانَ علِيماً حكِيماً ) . (1)
    4 ـ قال سبحانه : ( كَلاّ بَلْ لا يَخافُونَ الآخِرةَ* كَلاّ إنّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ* و ما يَذْكُرُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ هُوَ أهْلُ التَّقْوى و أهْلُ المَغْفِرَةِ ). (2)
    وجه الدلالة في الآيات الثلاث واحدة ومفعول الفعل ( وما تشاءون ) في الآية الأُولى هو الاستقامة. معناه وما تشاءون الاستقامة على الحقّ إلاّ أن يشاء اللّه ذلك ، كما أنّ المفعول في الآية الثانية عبارة عن اتّخاذ الطريق والمعنى وما تشاءون اتّخاذ الطريق إلى مرضاة اللّه تعالى إلاّأن يشاء اللّه تعالى ، كما أنّ المفعول للفعل ، ( وما يذكرون ) في الآية الثالثة هو القرآن ، أي وما يذكرون القرآن ولا يتذكّرون به إلاّ أن يشاء اللّه.
    إذا عرفت ذلك ففي الآيات الثلاث الأخيرة احتمالان :
    الأوّل : المراد أنّكم « لا تشاءون الاستقامة أو اتّخاذ الطريق أو التذكّر بالقرآن إلاّ أن يشاء اللّه أن يجبركم عليه ويلجئكم إليه ، ولكنّه لا يفعل ، لأنّه يريد منكم أن تؤمنوا اختياراً لتستحقوا الثواب ، ولا يريد أن يحملكم عليه » واختاره أبو مسلم كما نقله عنه « الطبرسي » وحاصله : وما تشاءون واحداً من هذه الأُمور إلاّأن يشاء اللّه إجباركم وإلجاءكم إليه ، فحينئذ تشاءون ولا ينفعكم ذلك ، والتكليف زائل ، ولم يشأ اللّه هذه المشيئة ، بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب. (3)
    وعلى هذا فالآيات خارجة عمّا نحن فيه ، أعني : كون أفعال البشر على وجه الإطلاق ـ اختيارية كانت أو جبرية ـ متعلّقة لمشيئته سبحانه.
    الثاني : إنّ الآية بصدد بيان أنّ كلّ فعل من أفعال البشر ومنها الاستقامة واتخاذ الطريق والتذكّر لا تتحقّق إلاّ بعد تعلق مشيئته سبحانه بصدورها غير أنّ
1 ـ الإنسان : 29 ـ 30.
2 ـ المدثر : 53 ـ 56.
3 ـ مجمع البيان : 5/39 و 413 و 446.


(257)
لتعلّق مشيئته شرائط ومعدّات منها كون العبد متجرّداً عن العناد واللجاج متهيئاً لقبول الصلاح والفلاح موقعاً نفسه في مهب الهداية الإلهية ، فعند ذلك تتعلّق مشيئته بهداية العبد ، وبما أنّ الكفّار المخاطبين في الآية لم يكونوا واجدين لهذا الشرط لم تتعلّق مشيئته باستقامتهم واتّخاذ الطريق والاتّعاظ بالقرآن.
    وليس هذا بكلام غريب وإنّه هو المحكّم في الآيات الراجعة إلى الهداية فإنّ له سبحانه هدايتين : هداية عامة تفيض إلى عامة البشر : مؤمنهم وكافرهم وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (1) وهناك هداية خاصة تفيض منه سبحانه إلى من جعل نفسه في مهب الرحمة واستفاد من الهداية الأُولى ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَيَهْدي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) (2) ، والظاهر من مجموع الآيات حول المشيئة هو الاحتمال الثاني دون الأوّل واختاره العلاّمة الطباطبائي فقال في تفسير سورة الإنسان.
    الاستثناء من النفي يفيد أنّ مشيئة العبد متوقّفة في وجودها على مشيئته تعالى فلمشيئته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيئة العبد وليست متعلّقة بفعل العبد مستقلاً وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبرياً ولا أنّ العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه ، شاء اللّه أو لم يشأ ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد. (3)
    هذا كلّه في الصغرى أي كون أفعال العباد متعلقة لمشيئته سبحانه. إنّما الكلام في الكبرى وهو أنّ تعلّق المشيئة بفعل العبد لا يستلزم الجبر ، وهذه هي النقطة الحسّاسة في حلّ عقدة الجبر مع القول بكون أفعالنا متعلّقة لمشيئته.
    بيان ذلك أنّ هناك فرضين :
    1 ـ تعلّقت مشيئته سبحانه بصدور الفعل من العبد إيجاداً واضطراراً.
    2 ـ تعلّقت مشيئته سبحانه بصدوره منه عن إرادة واختيار.
1 ـ الإنسان : 3.
2 ـ الشورى : 13.
3 ـ الميزان : 20/ 142.


(258)
    فالقول بالجبر إنّما هو نتيجة الفرض الأوّل دون الثاني.
    إنّ مشيئته سبحانه تعلّقت بصدور كلّ فعل عن فاعله مع الخصوصية الموجودة فيه ، كالصدور عن لا شعور في النار بالنسبة إلى الحرارة والصدور عن اختيار في الإنسان بالنسة إلى التكلم والمشي. وعلى ذلك يجب أن تصدر الحرارة من النار عن اضطرار ، ويصدر التكلّم أو المشي عن الإنسان باختيار وإرادة.
    فلو صدر الأوّل عن النار بغير هذا الوضع ، أو الثاني من الإنسان بغير هذه الكيفية لزم التخلّف عن مشيئته سبحانه وهو محال ، إذ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
    ومجرّد كون الفعل متعلّقاً لمشيئته وأنّ ما شاء يقع ، لا يستلزم القول بالجبر ، ولا يصير الإنسان بموجبه مسيّراً إذا كان الفعل صادراً عن الفاعل بالخصوصية المكتنفة به. فالنار فاعل طبيعي تعلقت مشيئته سبحانه بصدور أثرها ( أي الحرارة ) عنها بلا شعور.
    والإنسان فاعل مدرك شاعر مريد ، تعلّقت مشيئته سبحانه بصدور فعله عنه مع الشعور والإرادة. فلو صدر الفعل في كلا الموردين لا مع هذه الخصوصيات لزم التخلّف. فتنزيه ساحته عن وصمة التخلّف يتوقّف على القول بأنّ كلّ معلول يصدر عن العلّة. لكن بالخصوصية التي خلقت معها. فقد شاء اللّه سبحانه أن تكون النار فاعلاً موجباً ، ويصدر عنها الفعل بالإيجاب ، كما شاء أن يكون الإنسان فاعلاً مختاراً ويصدر الفعل عنه لكن بقيد الاختيار والحرية.
    ولقائل أن يقول : إنّ تعلّق المشيئة المهيمنة من اللّه سبحانه على صدور الفعل من العبد عن اختيار موجب لكون صدور الفعل أمراً قطعياً وعدم المناص إلاّعن إيجاده ومع هذا كيف يكون الفعل اختيارياً فإنّ معناه أنّ له أن يفعل وله أن لا يفعل وهذا لا يجتمع مع كون صدور الفعل قطعياً.
    والجواب : إنّ قطعية أحد الطرفين لا تنافي كون الفعل اختيارياً ، وذلك بوجهين :


(259)
    1 ـ بالنقض بفعل الباري سبحانه ، فإنّ الحسن قطعي الصدور ، والقبيح قطعي العدم ، ومع ذلك فالفعل اختياري له واللّه سبحانه يعامل عباده بالعدل والقسط قطعاً ولا مناص عنه ولا يعاملهم ظلماً وجوراً قطعاً وبتاتاً ، ومع ذلك ففعله سبحانه المتّسم بالعدل ، اختياري لا اضطراري.
    2 ـ إنّ تعلّق مشيئته سبحانه بأفعال العباد ، يرجع لباً إلى تعلّقها بحريتهم في الفعل والعمل ، وعدم وجود موجب للجوئهم إلى أحد الطرفين حتماً فشاء اللّه سبحانه كونهم أحراراً غير مجبورين ، مختارين غير مضطرين حتى يهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حي عن بيّنة. هذا كلّه حول المشيئة.

الأمر الثاني : خلق الأفعال
    وأمّا كون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه فهذا أصل يجب الاعتراف به بحكم التوحيد في الخالقية ، وبحكم أنّ ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وََكِيلٌ ) . (1)
    إلاّ أنّه يجب تفسير التوحيد في الخالقية ، وليس معناه انحصار الفاعلية والخالقية ، أعمّ من المستقل وغير المستقل باللّه سبحانه ، بأن يكون هناك فاعل واحد يقوم مقام جميع العلل والفواعل المدركة وغير المدركة ، كما هو الظاهر من عبارات القوم في تفسير التوحيد في الخالقية ، إذ معنى ذلك رفض مسألة العلية والمعلولية بين الأشياء.
    وهذا ما لا يوافق عليه العقل ولا الذكر الحكيم ، بل معناه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير اللّه ، ولا فاعل مستقل سواه سبحانه ، وأنّ كلّ ما في الكون من كواكب وجبال ، وبحار وعناصر ، ومعادن وسحب ، ورعود وبروق ، وصواعق ونباتات ، وأشجار وإنسان وحيوان وملك وجن ، وعلى الجملة كلّ ما يطلق عليه عنوان الفاعل والسبب كلّها علل وأسباب غير مستقلة
1 ـ الزمر : 62.

(260)
التأثير ، وأنّ كلّ ما ينسب إلى تلك الفواعل من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب بالاستقلال. وإنّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى اللّه سبحانه ، فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباط بعضها ببعض مخلوقة للّه ، فإليه تنتهي العلية ، وإليه تؤول السببية ، وهو معطيها للأشياء ، كما أنّ له تجريدها عنها إن شاء ، فهو مسبب الأسباب وهو معطّلها.
    وهذا هو نتيجة الجمع بين الآيات الناصة على حصر الخالقية باللّه سبحانه ، والآيات المثبتة لها لغيره ، كما في قوله سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيح ـ على نبيّنا وآله و ( عليه السَّلام ) ـ : ( أنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكونُ طيراً بِإِذْنِ اللّه ) (1) ، وقوله سبحانه : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقينَ ). (2)
    فهذا الصنف من الآيات الذي يسند الخلق إلى غيره سبحانه إذا قورن بالآيات الأُخرى المصرحة بانحصار الخالقية باللّه سبحانه ، مثل قوله تعالى : ( قُل اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار ) (3) يستنتج أنّ الخالقية المستقلة غير المستندة إلى شيء سوى ذات الخالق منحصرة باللّه سبحانه ، وفي الوقت نفسه الخالقية والفاعلية غير المستقلة المفاضة من الواهب سبحانه إلى الأسباب ، تعم عباده وجميع الفواعل المدركة وغير المدركة.
    وعلى ذلك فكلّ فعل صادر عن فاعل طبيعي أو مدرك كما يعد فعله سبحانه كذلك يعدّ فعلاً للعبد ، لكن بنسبتين.
    فاللّه سبحانه فاعل لها بالتسبيب ، وغيره فاعل لها بالمباشرة. فليست ذاته سبحانه مبدأً للحرارة بلا واسطة النار ، أو للأكل والمشي بلا واسطة
1 ـ آل عمران : 49.
2 ـ المؤمنون : 14.
3 ـ الرعد : 16.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس