بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 271 ـ 280
(271)
حسبه ضلالة. قد تبيّنت الأُمور وثبتت الحجة وانقطع العذر » فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى.
    4 ـ وإنّكم ذكرتم أنّه بلغكم أنّي أقول : إنّ اللّه قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون ، فأنكرتم ذلك عليّ وقلتم : إنّه ليس يكون ذلك من اللّه في علم حتى يكون ذلك من الخلق عملاً.
    5 ـ فكيف ذاك كما قلتم؟! واللّه يقول : ( إِنّا كاشِفُوا العَذابِ قَليلاً إِنَّكُمْ عائِدُون ) (1) يعني العائدين في الكفر وقال : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُون ) . (2)
    6 ـ فزعمتم بجهلكم في قول اللّه : ( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) (3) أنّ المشيئة في أي ذلك أحببتم ، إليكم من ضلالة أو هدى.
    7 ـ واللّه يقول : ( وَما تَشاءُونَ إِلاّأَنْ يَشاء اللّهُ ربُّ العالمينَ ) (4) ، فبمشيئة اللّه لهم شاءوا ، لو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئاً ، قولاً ولا عملاً ، لأنّ اللّه لم يملّك العباد ما بيده و لم يفوّض إليهم ما يمنعه من رسله. فقد حرصت الرسل على هدى الناس جميعاً ، فما اهتدى منهم إلاّمن هداه اللّه; ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعاً ، فما ضلّ منهم إلاّمن كان في علم اللّه ضالاً.
    8 ـ وزعمتم بجهلكم أنّ علم اللّه ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته ولا بالذي يصدّهم عمّا تركوا من طاعته ، ولكنّه بزعمكم كما علم أنّهم سيعملون بمعصيته ، كذلك علم أنّهم سيستطيعون تركها.
    9 ـ فجعلتم علم اللّه لغواً ، تقولون : لو شاء العبد لعمل بطاعة اللّه وإن كان في علم اللّه أنّه غير عامل بها ، ولو شاء ترك معصيته وإن كان في علم
1 ـ الدخان : 15.
2 ـ الأنعام : 28.
3 ـ الكهف : 29.
4 ـ التكوير : 29.


(272)
اللّه أنّه غير تارك لها ، فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علماً ، وإذا شئتم رددتموه وكان جهلاً ، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علماً ليس في علم اللّه ، وقطعتم به علم اللّه عنكم ، وهذا ما كان ابن عباس يعده للتوحيد نقضاً ، وكان يقول : « إنّ اللّه لم يجعل فضله ورحمته هملاً بغير قسم ولا احتظار ، ولم يبعث رسله بإبطال ما كان في سابق علمه » فأنتم تقرّون بالعلم في أمر وتنقضونه في آخر ، واللّه يقول : ( ... يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيديهِمْ وَما خَلفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِشَيء مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ ... ) . (1) فالخلق صائرون إلى علم اللّه ونازلون عليه وليس بينه شيء هو كائن حجاب يحجبه عنه ولا يحول دونه ، إنّه عليم حكيم.
    10 ـ وقلتم : لو شاء لم يعذب بعمل.
    11 ـ بغير ما أخبر اللّه في كتابه عن قوم ( وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُون ) (2) وأنّه سيمتعهم قليلاً ( ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِيمٌ ) (3) ، فأخبر أنّهم عاملون قبل أن يعملوا وأخبر أنّه معذّبهم قبل أن يخلقوا.
    12 ـ وتقولون أنتم إنّهم لو شاءوا خرجوا من علم اللّه في عذابهم إلى ما لم يعلم من رحمته لهم.
    13 ـ ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب اللّه بالرد. ولقد سمّى اللّه رجالاً من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه ، فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييراً ، وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلاً ، فقال : ( وَاذْكُر عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيدِي وَالأَبصار* إِنّا أَخلَصْناهُمْ بِخالِصة ذِكرى الدّار ) (4) فاللّه أعزّ في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه في شيء من ذلك ، فهو المسمّي لهم بوحيه الذي ( لا يَأْتيهِ
1 ـ البقرة : 255.
2 ـ المؤمنون : 63.
3 ـ هود : 48.
4 ـ ص : 45 ـ 46.


(273)
الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِه ) (1) أو أن يشرك في خلقه أحداً ، أو أن يدخل في رحمته من قد أخرجه منها ، أو أن يخرج منها من قد أدخله فيها. ولقد أعظم باللّه الجهل من زعم أنّ العلم كان بعد الخلق ، بل لم يزل اللّه وحده بكلّ شيء عليماً وعلى كلّ شيء شهيداً قبل أن يخلق شيئاً ، وبعد ما خلق لم ينقص علمه في بدئهم ولم يزد بعد أعمالهم ، ولا تغير بالجوائح التي قطع بها دابر ظلمهم ، ولم يملك إبليس هدى نفسه ولا ضلالة غيره.وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم اللّه في خلقه وإهمال عبادته ، وكتاب اللّه قائم بنقض بدعتكم وإفراط قذفكم. ولقد علمتم أنّ اللّه بعث رسوله والناس يومئذ أهل الشرك ، فمن أراد اللّه له الهدى لم تحل ضلالته الّتي كان فيها دون إرادة اللّه له ، ومن لم يرد اللّه له الهدى تركه في الكفر ضالاً فكانت ضلالته أولى به من هداه.
    14 ـ فزعمتم أنّ اللّه أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية ، فعملتم بقدرتكم بطاعته وتركتم بقدرتكم معصيته ، وإنّ اللّه خلو من أن يكون يختص أحداً برحمته أو يحجز أحداً عن معصيته.
    15 ـ وزعمتم أنّ الشيء الذي يقدر إنّما هو عندكم اليسر والرخاء والنعمة وأخرجتم منه الأعمال.
    16 ـ وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من اللّه ضلالة أو هدى أو أنّكم الذين هديتم أنفسكم من دون اللّه ، وأنّكم الذين حجزتموها عن المعصية بغير قوة من اللّه ولا إذن منه.
    17 ـ فمن زعم ذلك فقد غلا في القول ، لأنّه لو كان شيء لم يسبق في علم اللّه وقدره لكان للّه في ملكه شريك ينفذ مشيئته في الخلق من دون اللّه واللّه يقول : ( حَبَِّّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم ) (2) وهم له قبل ذلك كارهون ( وَ كَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ ) (3) وهم له قبل ذلك محبون وما كانوا على شيء من ذلك لأنفسهم بقادرين. ثمّ أخبرنا بما سبق لمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ
1 ـ فصلت : 42.
2 ـ الحجرات : 7.
3 ـ الحجرات : 7.


(274)
من الصلاة عليه والمغفرة له ولأصحابه فقال : ( أَشِدّاءُ عَلَى الكُفّارِ رَُُحماءُ بَيْنَهُمْ ) (1) وقال : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (2) ، فكرماً غفرها اللّه له قبل أن يعملها ثمّ أخبرنا بما هم عاملون قبل أن يعملوا وقال : ( تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً ) (3) . فضلاً سبق لهم من اللّه قبل أن يخلقوا ورضواناً عنهم قبل أن يؤمنوا.
    18 ـ وتقولون أنتم إنّهم قد كانوا ملكوا ردّ ماأخبر اللّه عنهم أنّهم عاملون وإنّ إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله ، فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولاً ولا يكون لوحي اللّه فيما اختار تصديقاً.
    19 ـ بل ( فللّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ ) (4) و ( هي ) في قوله : ه ( لولا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (5) ، فسبق لهم العفو من اللّه فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم ـ
    20 ـ وقلتم : لو شاءوا خرجوا من علم اللّه في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا.
    21 ـ فمن زعم ذلك فقد غلا و كذب ، و لقد ذكر بشراً كثيراً هم يومئذ في أصلاب الرجال وأرحام النساء فقال : ( وَآخرِينَ مِنْهُمْ لمّا يَلْحَقُوا بِهِم ) (6) ، ( والّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخوانِنَا الّذِين سَبَقُونا بالإِيمان ) (7) ، فسبقت لهم الرحمة من اللّه قبل أن يخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة ممّن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا.
1 ـ الفتح : 29.
2 ـ الفتح : 2.
3 ـ الفتح : 29.
4 ـ الأنعام : 149.
5 ـ الأنفال : 68.
6 ـ الجمعة : 3.
7 ـ الحشر : 10.


(275)
    22 ـ ولقد علم العالمون باللّه أنّ اللّه لا يشاء أمراً فيحول مشيئته غيره دون بلاغ ما شاء ، ولقد شاء لقوم الهدى فلم يضلّهم أحد وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا. فقال لموسى وأخيه : ( اذْهَبا إِلى فِرْعَونَ إِنّهُ طَغى* فَقُولا لَهُ قَولاً لَيّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى ) (1) ، وموسى في سابق علمه أنّه يكون لفرعون عدواً وحزناً فقال : ( ونُرِيَ فِرعونَ وهامانَ وجُنُودَهُما مِنهُم ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) . (2)
    23 ـ فتقولون أنتم : لو شاء فرعون كان لموسى ولياً وناصراً ، واللّه يقول : ( ِلَيكونَ لَهُمْ عَدُواً وحَزَناً ) (3) . وقلتم : لو شاء فرعون لامتنع من الغرق واللّه يقول : ( إِنّهُمْ جُنْدٌ مُغرَقُونَ ) (4) . فثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأوّلين ، كما قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه : ( إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة ) (5) فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلي بها ، وكما كان إبليس في سابق علمه أنّه سيكون ( مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) (6) وصار إلى ذلك بما ابتلي به من السجود لآدم فأبى ، فتلقى آدم بالتوبة فرحم و تلقى إبليس باللعنة فغوى ، ثمّ أهبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوماً متوباً عليه ، وأهبط إبليس بنظرته مدحوراً مسخوطاً عليه.
    24 ـ وقلتم أنتم : إنّ إبليس وأولياءه من الجنّ قد كانوا ملكوا ردّ علم اللّه والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال : ( فَالحَقُّ وَالحَقَّ أقُولُ* لأَمْْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ ممّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (7) حتّى لا ينفذ له علم إلاّ بعد مشيئتهم.
1 ـ طه : 43 ـ 44.
2 ـ القصص : 6.
3 ـ القصص : 8.
4 ـ الدخان : 24.
5 ـ البقرة : 30.
6 ـ الإسراء : 18.
7 ـ ص : 84 ـ 85.


(276)
    25 ـ فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في ردّ علم اللّه؟ فإنّ اللّه جلّوعلا لم يشهدكم خلق أنفسكم ، وكيف يحيط جهلكم بعلمه؟ وعلم اللّه ليس بمقصر عن شيء هو كائن ، ولا يسبق علمه في شيء فيقدر أحد على ردّه. ولو كنتم تنتقلون في كلّ ساعة من شيء إلى شيء هو كائن ، لكانت مواقعكم عنده. ولقد علمت الملائكة قبل خلق آدم ما هو كائن من العباد في الأرض ( من الفساد ) وسفك الدماء فيها ، وما كان لهم في الغيب من علم ، فكان في علم اللّه الفساد وسفك الدماء ، وما قالوه تخرصاً إلاّ بتعليم العليم الحكيم لهم فظن ذلك منهم ، وأنطقهم به.
    26 ـ فأنكرتم أنّ اللّه أزاغ قوماً قبل أن يزيغوا وأضلّ قوماً قبل أن يضلّوا.
    27 ـ وهذا ممّا لا يشك فيه المؤمنون باللّه : إنّ اللّه قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم وبرهم من فاجرهم. وكيف يستطيع عبد هو عند اللّه مؤمن أن يكون كافراً أو هو عند اللّه كافر أن يكون مؤمناً؟ واللّه يقول : ( أو َ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحْيَيناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِج مِنْها ) (1) . فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبداً إلاّ بإذن اللّه.
    28 ـ ثمّ آخرون « اتّخذوا » من بعد الهدى ( عِجْلاً جَسَداً ) (2) فضلّوا به ، فعفا عنهم لعلّهم يشكرون ، فصاروا ( مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ ) (3) وصاروا إلى ما سبق لهم. ثمّ ضلّت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا ، فصاروا في علمه إلى ( صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هُمْ خامِدُونَ ) (4) ، فنفذوا إلى ما سبق لهم ، لأنّ صالحاً رسولهم وأنّ الناقة ( فِتْنَةً لَهُمْ ) (5) وأنّه مميتهم كفّاراً ، فعقروها.
1 ـ لأنعام : 122.
2 ـ الأعراف : 148.
3 ـ الأعراف : 159.
4 ـ يس : 29.
5 ـ القمر : 27.


(277)
    29 ـ وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة فابتلي فعصى فلم يرحم ، وابتلي آدم فعصى فرحم. وهمّ آدم بالخطيئة فنسي ، وهمّ يوسف بالخطيئة فعصم ، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك؟ هل كانت تغني شيئاً فيما كان من ذلك حتى لا يكون ، أو تغني فيما لم يكن حتى يكون ، فنعرف لكم بذلك حجّة؟ بل اللّه أعزّممّا تصفون وأقدر.
    30 ـ وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من اللّه ضلالة أو هدى ، وإنّما علمه بزعمكم حافظ وإنّ المشيئة في الأعمال إليكم ، إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة. ثمّ جعلتم بجهلكم حديث رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الذي جاء به أهل السنّة ـ و هو مصدق للكتاب المنزل ـ أنّه من ذنب مُضاه ذنباًخبيثاً ، في قول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حين سأله عمر : « أرأيت ما نعمل أشيء قد فرغ منه أم شيء تأتنفه؟ فقال ( عليه السَّلام ) : « بل شيء قد فرغ منه ». فطعنتم بالتكذيب له ، و تعليم من اللّه في علمه إذ قلتم : إن كنّا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر. والجبر عندكم الحيف.
    31 ـ فسمّيتم نفاذ علم اللّه في الخلق حيفاً.
    32 ـ وقد جاء الخبر أنّ اللّه خلق آدم فنثر ذريّته في يده فكتب أهل الجنّة وما هم عاملون ، وكتب أهل النار وما هم عاملون. وقال سهل بن حنيف يوم صفين : أيّها الناس ، اتهموا رأيكم على دينكم ، فوالذي نفسي بيده ، لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لرددناه. واللّه ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلاّأسهلت بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا.
    33 ـ ثمّ أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حقّ على تأويل باطل تدعون الناس إلى ردّ علم اللّه فقلتم : الحسنة من اللّه والسيّئة من أنفسنا; وقال أئمّتكم وهم أهل السنّة : الحسنة من اللّه في قدر سبق ، والسيّئة من أنفسنا في علم قد سبق.
    34 ـ فقلتم : لا يكون ذلك حتّى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيّئة من أنفسنا.


(278)
    35 ـ وهذا رد الكتاب منكم ونقض الدين ، وقد قال ابن عباس رضي اللّه عنه حين نجم القول في القدر : هذا أوّل شرك هذه الأُمّة ، واللّه ، ما ينتهى بهم سوء رأيهم حتّى يخرجوا اللّه من أن يكون قدر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً.
    36 ـ أنتم تزعمون بجهلكم أنّ من كان في علم اللّه ضالاً فاهتدى ، فهو بما ملك ذلك حتّى كان في هداه ما لم يكن اللّه علمه فيه ، وأنّ من شرح صدره للإسلام فهو ممّا فوض إليه قبل أن يشرحه اللّه له ، وأنّه إن كان مؤمناً فكفر فهو ممّا شاء لنفسه وملك من ذلك لها وكانت مشيئته في كفره أنفذ من مشيئة اللّه في إيمانه.
    37 ـ بل أشهد أنّه من عمل حسنة فبغير معونة كانت من نفسه عليها ، وأنّ من عمل سيئة فبغير حجّة كانت له فيها وأنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء وأنّ اللّه لو أراد أن يهدي الناس جميعاً لنفذ أمره فيمن ضلّ حتّى يكون مهتدياً.
    38 ـ فقلتم : بمشيئته شاء لكم تفويض الحسنة إليكم وتفويض السيئة ، ألقى عنكم سابق علمه في أعمالكم وجعل مشيئته تبعاً لمشيئتكم.
    39 ـ ويحكم ، فواللّه ، ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما آتاهم بقوّة حتى نتق ( الجَبَلَ فَوْقَهُم كَأنّهُ ظُلَّة ) (1) . فهل رأيتموه أمضى مشيئة لمن كان قبلكم في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف في الإسلام كرهاً بموقع علمه بذلك فيه؟ أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبوا أن يؤمنوا حتى أظلَّهم العذاب ف آمنوا و قبل منهم ، ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم. وقال : ( فَلَمّا رأوا بَأْسنا قالُوا آمَنّا باللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرنا بما كُنّا بِهِ مُشْرِكين* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لما رأَوا بَأْسَنا سُنّةَ اللّهِ الّتي قَدْ خَلَتْ في عِبادهِ ) (2) أي علم اللّه الذي قد خلا في خلقه ( وَخَسِرَ هُنالِكَ
1 ـ الأعراف : 171.
2 ـ غافر : 84 ـ 85.


(279)
الكافِرُون ) (1) وذلك كان موقعهم عنده أن يهلكوا بغير قبول منهم ، بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان والخير والشر بيد اللّه يهدي من يشاء ويذر من يشاء ( في طُغيانهم يَعْمَهُون ) (2) . كذلك قال إبراهيم ( عليه السَّلام ) : ( رَبِّ ... واجْنُبْني وَبَنِيَّ أَنْ نعبُدَ الأَصنامَ ) (3) ، قال : ( رَبّنا وَاجْعَلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمةً لَك ) (4) ، أي إنّ الإيمان والإسلام بيدك وإنّ عبادة من عبد الأصنام بيدك ، فأنكرتم ذلك وجعلتموه ملكاً بأيديكم دون مشيئة اللّه عزّوجلّ.
    40 ـ وقلتم في القتل إنّه بغير أجل.
    41 ـ وقد سمّاه اللّه لكم في كتابه فقال ليحيى : ( وَسَلامٌ عَليهِ يَومَ وُُلدَ ويَومَ يَمُوتُ وَيَوَم يُبْعَثُ حَيّاً ) (5) فلم يمت يحيى إلاّ بالقتل ، وهو موت كما مات من قتل شهيداً أو قتل خطأ كما مات بمرض أو بفجأة ، كلّ ذلك موت بأجل استوفاه ورزق استكمله وأثر بلغه ومضجع برز إليه ، ( وَ ما كانَ لِنَفْس أنْ تَمُوتَ إلاّ بِإذنِ اللّهِ كِتاباً مُؤجَّلاً ) (6) ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلاّ بلغته ولا موضع قدم إلاّ وطئته ولا مثقال حبة من رزق إلاّ استكملته ولا مضجع حيث كان إلاّبرزت إليه ، يصدق ذلك قول اللّه عزّوجلّ ( قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلبُون و تُحْشَرُون إِلى جَهَنّم ) (7) ، فأخبر اللّه بعذابهم بالقتل في الدنيا وفي الآخرة بالنار وهم أحياء بمكة.
    42 ـ وتقولون أنتم : إنّهم قد كانوا ملكوا رد علم اللّه في العذابين الذين أخبر اللّه ورسوله أنّهما نازلان بهم.
1 ـ غافر : 85.
2 ـ الأعراف : 186.
3 ـ إبراهيم : 35.
4 ـ البقرة : 128.
5 ـ مريم : 15.
6 ـ آل عمران : 145.
7 ـ آل عمران : 12.


(280)
    43 ـ فقال : ( ثانيَ عِطْفهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدُّنيا خِزْيٌ ) (1) يعني القتل يوم بدر ( ونُذِيقُهُ يَومَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ ) (2) فانظروا إلى ما أرادكم فيه رأيكم كتاباً سبق في علمه بشقائكم إن لم يرحمكم.
    44 ـ ثمّ قول رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « بني الإسلام على ثلاثة أعمال : الجهاد ماض منذ يوم بعث اللّه رسوله إلى يوم تقوم فيه عصابة من المؤمنين يقاتلون الدجّال لا ينقض ذلك جور جائر ولا عدل عادل ، والثانية : أهل التوحيد لا تكفروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل ، والثالثة : المقادير كلّها خيرها وشرها من قدر اللّه ». فنقضتم من الإسلام جهاده ، وجرّدتم شهادتكم على أُمّتكم بالكفر وبرئتم منهم ببدعتكم ، وكذبتم بالمقادير كلّها والآجال والأعمال والأرزاق ، فما بقيت في أيديكم خصلة بني الإسلام عليها إلاّنقضتموها وخرجتم منها.
    هذه رسالة عمر بن عبد العزيز إلى بعض القدريين مجهولي الهوية ، وقد نسب إليهم إنكار علمه الأزلي في أفعال العباد ، ومصائرهم ، ونحن نتبرّأ ممّن ينكر علمه الوسيع المحيط بكلّ شيء ، ونؤمن بما قاله سبحانه : ( وَلا رَطْب وَلا يابس إِلاّ في كِتاب مُبِين ). (3)
    وقوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كتاب من قَبلِ أَنْ نَبرَأَها إِنَّ ذلكَ عَلى اللّهِ يَسير ) . (4)
    ولكن نتبرّأ من كلّ من جعل علمه السابق ذريعة إلى نسبة الجبر إلى اللّه سبحانه ، ونؤمن بأنّ علمه السابق المحيط لا يكون مصدراً لكون العباد مجبورين في مصائرهم وأنّهم يعملون ويفعلون ، ويختارون بمشيئتهم التي منحها اللّه لهم في حياتهم ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيا من حيّ عن بيّنة.
1 ـ الحج : 9.
2 ـ الحج : 9.
3 ـ الأنعام : 59.
4 ـ الحديد : 22.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس