بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: 281 ـ 290
(281)
    فمنكر علمه السابق المحيط بكلّ شيء ضالّ مضلّ ، ومن استنتج منه الجبر مثله في الضلالة والغواية ، عصمنا اللّه جميعاً من الزلّة ، والعثرة في العلم والعمل.
    ولأجل أن يقف القارئ الكريم على أنّه كان في تلك العصور الحرجة رجال من أهل السنّة يذهبون إلى غير ما ذهب إليه أصحاب السلطة الأمويون ننشر رسالة الحسن البصري في ذلك المجال ، وهي رسالة قيمة. (1)
1 ـ الهدف هو نشر هذه الرسالة لما فيها من فائدة ، ولا صلة له بتقييم الحسن البصري في كلّ ما يقول أو ما يروى عنه أو ينسب إليه ، فإنّ لبيان ذلك مجالاً آخر.

(282)
4 ـ رسالة الحسن البصري في الدفاع
عن نظرية الاختيار
    قال القاضي عبد الجبار : المشهور أنّ عبد الملك بن مروان كاتبه بأنّه قد بلغنا عنك من وصف القدر ما لم يبلغنا عن أحد من الصحابة ، فاكتب بقولك إلينا في هذا الكتاب ، فكتب إليه :
    بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    سلام عليك
    أمّا بعد : فإنّ الأمير أصبح في قليل من كثير مضوا ، والقليل من أهل الخير مغفول عنهم ، و قديماً قد أدركنا السلف الذين قاموا بأمر اللّه ، واستنّوا بسنّة رسوله ، فلم يبطلوا حقاً ، ولا ألحقوا بالرب تعالى إلاّ ما ألحق بنفسه ، ولا يحتجون إلاّ بما احتج اللّه تعالى به على خلقه بقوله الحقّ : ( وَماخَلَقْتُ الجنَّ والإِنسَ إِلاّ ِليعبُدُونِ ) (1) . ولم يخلقهم لأمر ثمّ حال بينهم و بينه ، لأنّه تعالى ليس بظلام للعبيد ولم يكن في السلف من ينكر ذلك ولا يجادل فيه ، لأنّهم كانوا على أمر واحد متسق. (2) وإنّما أحدثنا الكلام فيه ، حيث أحدث الناس النكرة له ، فلمّا أحدث المحدثون في دينهم ما أحدثوه ، أحدث المتمسّكون بكتابه ما يبطلون به المحدثات ، ويحذرون به من المهلكات.
1 ـ الذاريات : 56.
2 ـ في مخطوطة أيا صوفيا : متفقين.


(283)
    وذكر : إنّ الذي أوقعهم فيه تشتت الأهواء ، وترك كتاب اللّه تعالى ، ألم تر إلى قوله : ( قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقيِن ) (1) . فافهم أيّها الأمير ما أقوله ، فإنّ ما نهى اللّه عنه فليس منه ، لأنّه لا يرضى ما يسخط ، وهو من العباد ، فإنّه تعالى يقول : ( ولا يَرضى لِعبادِهِ الكُفرَ وَإِنْ تشكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) . (2)
    فلو كان الكفر من قضائه وقدره ، لرضي به ممّن عمله ، وقال تعالى : ( وَقَضى ربُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيّاهُ ) (3) ؟! وقال : ( وَالّذي قدَّرَ فَهَدى ) (4) ولم يقل والذي قدّر فأضل ، لقد أحكم اللّه آياته وسنّة نبيّه ( عليه السَّلام ) فقال : ( قُلْ إِنْ ضَلَلتُ فَإِنّما أَضِلُّ عَلى نَفسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِليَّ رَبِّّي ) (5) . وقال : ( الّذي أَعطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى ) (6) . ولم يقل ثمّ أضل ، وقال : ( إِنّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (7) ، ولم يقل إنّ علينا للضلال ولا يجوز أن ينهى العباد عن شيء في العلانية ، ويقدره عليهم في السر ، ربّنا أكرم من ذلك وأرحم ولو كان الأمر كما يقول الجاهلون ما كان تعالى يقول : ( اعْمَلُوا ما شِئْتُم ) (8) . ولقال : اعملوا ما قدرت عليكم ، وقال : ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَتَقدَّمَ أو يَتَأخَّرَ ) (9) . لأنّه جعل فيهم من القوّة ذلك لينظر كيف يعملون ، ولو كان الأمر كما قاله المخطئون ، لما كان إليهم أن يتقدّموا ولا يتأخّروا ، ولا كان لمتقدم حمد فيما عمل ، ولا على متأخّر لوم ، ولقال : جزاء بما عمل بهم ، ولم يقل جزاء بما عملوا وبما كسبوا ، وقال تعالى : ( وَنَفْس وَما سَوّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها
1 ـ النمل : 64.
2 ـ الزمر : 7.
3 ـ الإسراء : 23.
4 ـ الأعلى : 3.
5 ـ سبأ : 50.
6 ـ طه : 50.
7 ـ الليل : 12.
8 ـ فصلت : 40.
9 ـ المدثر : 37.


(284)
وَتَقواها ) . (1) أي بيّن لها ما تأتي و ما تذر ثمّ قال : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها ). (2) فلو كان هو الذي دسّاها ما كان ليخيب نفسه ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وقوله تعالى : ( رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لنَا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعفاً فِي النّار ). (3)
    فلو كان اللّه هو الذي قدّم لهم الشر ، ما قال ذلك ، وقال تعالى : ( رَبّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا ) (4) . فالكبراء أضلّوهم دون اللّه تعالى ، بل قال تعالى : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (5) ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنّما يَشْكُرُلِنَفْسِهِ ) (6) . وقال : ( وَأَضلَّ فِرعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدَى ). (7) وقال تعالى : ( وما أضَلَّنا إلاّ المُجْرِمُون ) (8) . ( وأضَلَّهُمُ السّامِرِي ) (9) . ( إنَّ الشيطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) (10) . ( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشّيطانُ أعْمَالَهُم ). (11) و قال : ( وَ أمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحبُّوا العَمى عََلى الهُدى ) (12) فكان بدو الهدى من اللّه واستحبابهم العمى بأهوائهم وظلم آدم نفسه ، ولم يظلمه ربّه فقال : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (13) . وقال موسى : ( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ إنّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِين ) (14) . فغواه أهل الجهل وقالوا : ( فَإِنَّ
1 ـ الشمس : 7 و 8.
2 ـ الشمس : 9 و 10.
3 ـ ص : 61.
4 ـ الأحزاب : 67.
5 ـ الإنسان : 3.
6 ـ لنمل : 40.
7 ـ طه : 79.
8 ـ الشعراء : 99.
9 ـ طه : 85.
10 ـ الإسراء : 53.
11 ـ النحل : 63.
12 ـ فصلت : 17.
13 ـ الأعراف : 23.
14 ـ القصص : 15.


(285)
اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (1) ولِمَ لم ينظروا إلى ما قبل الآية وما بعدها ، ليبيّن لهم أنّه تعالى لا يضلّ إلاّ بتقدّم الكفر والفسق ، كقوله تعالى : ( ويُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ ) (2) . وقوله : ( فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ ) (3) . ( وما يُضِلُّ بهِ إِلاّ الفاسِقِين ) (4) .
    وبين الحسن في كلامه الوعيد ، فقال : إنّه تعالى قال : ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفأنتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النّارِ ) (5) . وقال : ( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الّذِيَن فَسَقُوا ) . (6) وقال تعالى : ( أُدْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّة ) (7) . فكيف يدعوهم إلى ذلك وقد حال بينهم وبينه؟ وقال : ( وَما أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (8) . فكيف يجوز ذلك و قد منع خلقه من طاعته؟ قال : والقوم ينازعون في المشيئة وإنّما شاء اللّه الخير بمشيئته قال : ( يُريدُ اللّهُ بِكُُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ) (9) . وقال في ولد الزنى إنّه من خلق اللّه ، وإنّما الزاني وضع نطفته في غير حقّها ، فتعدّى أمر اللّه ، واللّه يخلق من ذلك ما يشاء وكذلك صاحب البذر إذا وضعه في غير حقّه. (10)
    وقال في الرسالة : إنّ اللّه تعالى أعدل وأرحم من أن يعمي عبداً ، ثمّ يقول له : أبصر وإلاّ عذبتك ، وإذا خلق اللّه الشقي شقياً ، ولم يجعل له سبيلاً إلى السعادة فكيف يعذبه؟! وقد قال اللّه تعالى لآدم وحواء : ( فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ) (11) . فغلبهما الشيطان على هواه ثمّ قال : ( يا بَنِي
1 ـ فاطر : 8.
2 ـ إبراهيم : 27.
3 ـ الصف : 5.
4 ـ البقرة : 26.
5 ـ الزمر : 19.
6 ـ يونس : 33.
7 ـ البقرة : 208.
8 ـ النساء : 64.
9 ـ البقرة : 185.
10 ـ كذا في النسخة والظاهر : حقله.
11 ـ الأعراف : 19.


(286)
آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيطانُ كَما أَخرجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجِنَّةِ ) . (1) وليس للشيطان عليهم سلطان إلاّ ليعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شك. وبعث اللّه الرسول نوراً ورحمة فقال : ( اسْتَجِيُبوا للّهِ وللرّسُولِ ) (2) وقال : ( اسْتَجِيبُوا لرَبِّكُم ) (3) وقال : ( أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ ) (4) و ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوه ) (5) وقال : ( وَما كُنّا مُعذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (6) فكيف يفعل ذلك ثمّ يعميهم عن القبول. وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ ) (7) وينهى عمّا أمر به الشيطان قال في الشيطان : ( يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصحابِ السَّعِيرِ ) (8) فمن أجاب الشيطان كان من حزبه ، فلو كان كما قال الجاهلون لكان إبليس أصوب من الأنبياء ( عليهم السَّلام ) إذ دعاؤه إلى إرادة اللّه تعالى وقضائه ، ودعت الأنبياء إلى خلاف ذلك ، وإلى ما علموا أنّ اللّه قد حال بينهم و بينه.
    وقال القوم فيمن أسخط اللّه : إنّ اللّه جبلهم على إسخاطه ، وكيف يسخط أن عملوا بقضائه عليهم وإرادته ، واللّه يقول : ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَدَاكَ ) (9) وهؤلاء الجهّال يقولون : إنّ اللّه قدّمه وما أضلّهم سواه : ( لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولو شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ ) (10) فلو كان الأمر كما زعموا ، لكان الدعاء والأمر لا تأثير له ، لأنّ الأمر مفروغ منه ، لكن التأويل على غير ما قالوه وقد قال تعالى : ( ذلِكَ يَوٌم مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلِكَ
1 ـ الأعراف : 27.
2 ـ الأنفال : 24.
3 ـ الشورى : 47.
4 ـ الأحقاف : 31.
5 ـ الأنعام : 153.
6 ـ الإسراء : 15.
7 ـ النحل : 90.
8 ـ فاطر : 6.
9 ـ الحج : 10.
10 ـ الأنعام : 137.


(287)
يَومٌ مَشْهُود ) (1) ، والسعيد ذلك اليوم هو المتمسّك بأمر اللّه والشقي هو المضيع.
    وقال في الرسالة : واعلم أيّها الأمير ، أنّ المخالفين لكتاب اللّه تعالى وعدله يحيلون في أمر دينهم بزعمهم على القضاء والقدر ثمّ لا يرضون في أمر دنياهم إلاّ بالاجتهاد والتعب والطلب والأخذ بالحزم فيه. وذلك لثقل الحقّ عليهم ، ولا يعولون في أمر دنياهم وفي سائر تصرفهم على القضاء والقدر ، فلو قيل لأحدهم : لا تستوثق في أُمورك ، ولا تقفل حانوتك احترازاً لمالك و اتّكل على القضاء والقدر ، لم يقبل ذلك ، ثمّ يعوّلون عليه في الذي قال :
    وما يحتجون به أنّ اللّه تعالى قبض قبضة فقال : « هذا في الجنّة و لا أُبالي. وقبض أُخرى و قال : هذا في النار ولا أُبالي ». فإنّهم يرون ربّهم يصنع ذلك ، كالمقارع بينهم المجازف ، فتعالى اللّه عمّا يصفونه.
    فإن كان الحديث حقّاً ، فقد علم اللّه تعالى أهل الجنّة وأهل النار ، قبل القبضتين وقبل أن خلقهم ، فإنّما قبض اللّه أهل الجنة الذين في علمه أنّهم يصيرون إليها ، و إنّما مرادهم أن يقرروا في نفوس الذين يقبلون ما رووه ، أن تكون أعمال الناس هباءً منثوراً ، من حيث قد فرغ من الأمر ، وكيف يصح ذلك مع قوله : ( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْن َمِنْهُ و تَنْشَقّ الأرضُ وتَخِرُّالجِبَالُ هَدّاً* أن دَعَوْا للرّحمنِ وَََلداً ) (2) وهو الذي حملهم عليه.
    وما معنى قوله : ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُون ) (3) وقد منعهم؟ وكيف يقول : ( ما كانَ لأَهلِ المَدينةِ ومَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعرابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ) (4) بل كان يجب أن يقول : ما كان لأهل المدينة أن يعملوا بما قضيت عليهم (5) ، ولما قال : ( فَلَولا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّة يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي
1 ـ هود : 103.
2 ـ مريم : 90 ـ 91.
3 ـ الانشقاق : 20.
4 ـ التوبة : 120.
5 ـ كذا في النسخة والظاهر : إلاّ بما قضيت عليهم.


(288)
الأرْضِ ) (1) . وهو الذي حال بينهم و بين الطاعة.
    وإذا كان الأمر مفروغاً منه ، فكيف يقول : ( لَيْسَ عَلَيالأعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) (2) وكيف ابتلى العباد فعاقبهم على فعلهم؟ وكيف يقول : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيَل إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (3) وكيف يقول : ( قَدَّرَ فَهَدَى ) (4) ولم يقل قدّر فأضل ، وكيف يصحّ أنّه خلقهم للرّحمة والعبادة بقوله : ( فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَالنّاسَ عَلَيْها ) (5) وقوله : ( فَطَركُمْ أَوّّلَ مَرَّة ) (6) وقوله : ( إِلاّمَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) (7) فإذا خلقهم لذلك ، فكيف يصحّ أن لا يجعل لهم سبيلاً ، ويقرهم على السعادة والشقاء على ما يذكرون.
    وكيف يبتلي إبليس بالسجود لآدم ، فإذا عصى يقول له ( فَاهْبِطْ مِنها ) (8) ويجعله شيطاناً رجيماً؟ وكيف يقول : ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ) (9) وكيف يحذر آدم عداوته. إن كان الأمر مفروغاً منه على ما تقولون؟
    وقال في الرسالة : واعلم أيّها الأمير ما أقول : إنّ اللّه تعالى لم يخف عليه بقضائه شيء ، ولم يزدد علماً بالتجربة ، بل هو عالم بما هو كائن وما لم يكن ، ولذلك قال : ( ولَوْ بَسَطَالّلهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا ) (10) ، ( ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً واحِدَةً ) (11) فعلم سبحانه أنّه خلق خلقاً من ملائكة وجن وإنس ، وأنّه يبتليهم قبل أن يخلقهم ، وعلم ما يفعلون كما قدّر أقواتهم ، وقدّر ثواب أهل
1 ـ هود : 116.
2 ـ النور : 61.
3 ـ الإنسان : 3.
4 ـ الأعلى : 3.
5 ـ الروم : 30.
6 ـ الإسراء : 51.
7 ـ هود : 119.
8 ـ الأعراف : 13.
9 ـ الأعراف : 13.
10 ـ الشورى : 27.
11 ـ الزخرف : 33.


(289)
الجنّة وعقاب أهل النار قبل ذلك ، ولو شاء إدخال العصاة النار لفعل ، لكنّه سهل سبيلهم لتكون الحجة البالغة له على خلقه ، والعلم ليس بدافع إلى معاصيه ، لأنّ العلم غير العمل ، ( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقِين ) . (1)
    وقال : في قولهم في الضلال والهدى ، وقوله : ( وَلو شاءَ ربُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) (2) ، ( وَلَو شاَء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى ) (3) ، لأنّ المراد بذلك إظهار قدرته على ما يريده كما قال : ( إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نَسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السّمَاءِ ) (4) ، ( ولو نشاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَاَنَتِهِمْ ) (5) ، ( ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أعْيُنِهِمْ ) (6) ، ( ولَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة نَذِيراً ) (7) ، و قال : ( فلَعَلَكَّ َبَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ) (8) ، حتّى بلغ من قوله أن قال : ( فَإِنِ اسْتََطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفقَاً فِي الأَرضِ أَو سُلَّماً فِي السَّماِء ) (9) ، فإنّما يدلّ بذلك رسوله على قدرته ، فكذلك غير الذي شاء منهم ، ولذلك قال في حجتهم يوم القيامة ردّاً عليهم لقولهم : ( لَوْ أَنَّ اللّهَ هَدانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ ) (10) ورد ذلك بقوله : ( بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ ). (11)
    وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم : ( لو شاءَ الرّحمَنُ ما عَبَدْنَاهُمْ ما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ ). (12)
    وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم : ( سَيَقُولُ الّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ ما أشْرَكْنَا ولاَ آباؤُنا ولا حَرَّّْمنا مِنْ
1 ـ المؤمنون : 14.
2 ـ يونس : 99.
3 ـ الأنعام : 35.
4 ـ سبأ : 9.
5 ـ يس : 67.
6 ـ يس : 66.
7 ـ الفرقان : 51.
8 ـ الكهف : 6.
9 ـ الأنعام : 35.
10 ـ الزمر : 57.
11 ـ الزمر : 59.
12 ـ الزخرف : 20.


(290)
شَيْء ) (1) مكذباً لهم : ( كَذلِكَ كَذَّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا ) (2) ، فنعوذ باللّه ممن ألحق باللّه الكذب. وجعلوا القضاء والقدر معذرة ، وكيف يصحّ ذلك مع قوله : ( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالمين ) (3) ؟! وكيف يصحّ أن يقول : ( وَما أَصابَكَ مِنْ سَيّئَة فَمِنْ نَفْسَكَ ) (4) ؟! أي العقوبة التي أصابتك هي من قبل نفسك بعملك. ولو شاء تعالى أن يأخذهم بالعقوبة من دون معصية لقدر على ذلك ، لكنّه رؤوف رحيم. ولذلك أرسل موسى إلى فرعون و قد قال : ( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي ) (5) فقال : ( فَقُولا لَهُ قَولاً لََيِّنَاً ) (6) وقال : ( اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَى ) (7) ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزكّى ) (8) وقال : ( وَلَقَدْ أَخذنا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الثَّمراتِ لَعلَّهُمْ يَذَّكَّرون ) (9) فيتوبون ، فلمّا لجّوا في كفرهم بعد ذلك الأمر والترغيب إلى طاعته ، أخذهم بما فعلوا.
    قال : ثمّ انظر أيّها الأمير ، كيف صنيعه لمن أطاع فقال : ( إلاّقَوْمَ يُونُسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الخِزْيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا ومَتَّعْناهُمْ إلى حِين ) (10) ، ( ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتُّّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ ) (11) ، ( ولو أنّهُمْ أقامُوا التوراةَ والإنجيَل ) (12) ، و قال موسى : ( ادْخُلُوا الأرضَ المُقَدَّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ولا تَرْتَدُّوا عَلَى أدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) (13) ، وقال : ( فَلَمّا عَتَوْا عَنمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا
1 ـ الأنعام : 148.
2 ـ الأنعام : 148.
3 ـ الزخرف : 76.
4 ـ النساء : 79.
5 ـ القصص : 38.
6 ـ طه : 44.
7 ـ طه : 24.
8 ـ النازعات : 18.
9 ـ الأعراف : 130.
10 ـ يونس : 98.
11 ـ الأعراف : 96.
12 ـ المائدة : 66.
13 ـ المائدة : 21.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الأوّل ::: فهرس