بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 71 ـ 80
(71)
    وليس هذا الشاعر وحيداً في هذا المجال. بل الحنابلة يتشدّقون بالتجسيم ويفتخرون به بلا مبالاة وإليك القصيدة التالية الّتي نظمها حنبلي آخر أيّام محنة ابن حنبل في السجن:
علا في السماوات العلى فوق عرشه يداه بنا مبسوطتان كلاهما نهينا عن التفتيش والبحث رحمة ولم نر كالتسليم حرزاً وموئلا وإنّ وليّ الله في دار خلده ولم يحمد الله الجدال وأهله وسنّتنا ترك الكلام وأهله إلى خلقه في البرّ والبحر ينظر يسحّان والأيدي من الخلق تقتر لنا وطريق البحث يردي ويخسر لمن كان يرجو أن يثاب ويحذر إلى ربِّه ذي الكبرياء سينظر وكان رسول الله عن ذاك يزجر ومن دينه تشديقه والتقعّر (1)
    ومن أراد أن يقف على كلمات هؤلاء حول التجسيم والتشبيه فعليه بمراجعة كتاب « علاقة الاثبات والتفويض » تأليف رضا بن نعسان معطى بتقديم عبد العزيز بن باز.
    فقد حشا فيه كلمات أبناء الحنابلة وغيرهم في مجال الصفات ، وادّعى أنّهم يقولون بكونه سبحانه فوق السماوات. وهؤلاء لغاية دفع عار التجسيم يتدرّعون بكلمة بلا كيف وتشبيه ، وهو بلا شبهة واجهة اتّخذتها أبناء التجسيم لستر ما يعاب بهم.
    وهذه التوالي وليدة إقصاء العقل عن ساحة العقائد ، وإحلال النقل على وجه الاطلاق مكانه ، وإلاّ فالنقل الصحيح لا يكافح العقل أبداً.
تم الكلام في الماتريدية
والحمد لله ربّ العالمين.

    1 ـ مناقب الإمام أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزي ص 425 ـ 426 ط مصر ، الطبعة الأولى.

(72)

(73)
2 ـ المرجئة
    المرجئة على وزن المرجعة بصيغة الفاعل من أرجأ الأمر: أخّره. وترك الهمزة لغة. قال في اللِّسان: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخّرته. وقرئ أرجه ، وأرجئه قال تعالى: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) ( الأحزاب / 51 ) و « الإرجاء » التأخير ، والمرجئة صنف من المسلمين والنّسبة إليه مرجئيّ مثال مرجعي (1).
    وقال ابن الأثير في ( النِّهاية ) : المرجئة تهمز ، ولاتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير ، يقال: أرجأته وأرجيته: إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي ، وهم المرجئة وفي النسب: مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعيّ ، وإذا لم تهمز قلت: رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ (2).
    وظاهر كلامهما أنّها مأخوذة من الإرجاء بمعنى التّأخير ، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل. والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين:
    1 ـ طال التشاجر في معنى الإيمان في العصر الأوّل ، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة ، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول
    1 ـ لسان العرب مادة « رجأ ».
    2 ـ النهاية ج 2 ص 206 نفس المادة.


(74)
     والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل ، فأخذوا من الإيمان جانب القول ، وطردوا جانب العمل ، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم: « لاتضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ».
    وعلى هذا ، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض ، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الايمان ، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب ، صغيرها وكبيرها ، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم ، وشارب الخمر ، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً ، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي ـ عليه السلام ـ لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.
    ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.
    والقول المشهور بين السنّة والشيعة أنّه مؤمن فاسق ، وسيوافيك القول في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المعتزلة والخوارج.
    ولعلّه إلى ذلك الوجه أيضاً يرجع ما ذكره ابن الاثير في نهايته بأنّهم سمّوا مرجئة لاعتقادهم بأنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي ، أي أخّر عنهم.
    يلاحظ على هذا الوجه: أنّ القوم وإن أخّروا العمل وأخرجوه عن كونه مقوّماً للايمان أو بعضه ، ولم يعتبروه جزءاً و شرطاً ، ولكن لم يتّفقوا على تفسيره بالقول المجرّد ، والاقرار باللّسان ، بل لهم آراء في ذلك.
    فاليونسيّة منهم ( أتباع يونس بن عون ) زعمت أنّ الإيمان في القلب واللسان. وإنّه هو المعرفة بالله ، والمحبّة ، والخضوع له بالقلب ، والإقرار باللّسان ، أنّه واحد ليس كمثله شيء (1).
    والغسّانية ( أتباع غسّان المرجئ ) زعمت أنّ الإيمان هو الاقرار أو المحبّة لله تعالى ،
    1 ـ الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.

(75)
     فاكتفت بأحد الأمرين من الإقرار أو المحبّة لله (1). إلى غير ذلك من الأقوال والآراء لهم في حقيقة الإيمان (2).
    وعلى ضوء هذا لا يصحّ أن يقال إنّ المرجئة هم الّذين قدّموا القول وأخّروا العمل. بل أخّروا العمل جميعاً و أمّا غيره فقد اكتفوا في تحقّق الايمان تارة بالاذعان القلبي ، وأُخرى بالاقرار باللسان ، هذه ملاحظة بسيطة حول هذه النظرية. وهناك ملاحظة أُخرى ربّما تبطل أصلها وهي:
    أنّ التّاريخ يدلّ على أنّ أوّل من قال بالإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ، لا بمعنى تقديم القول أو الاذعان القلبي وتأخير العمل ، بل المراد تقديم القول في الشيخين وتصديقهما ، وتأخير القول في حقّ عثمان وعليّ وطلحة والزبير وإرجاء أمرهم إلى الله سبحانه ، والتوقّف فيهم. وإليك النّصوص التاريخيّة الّتي تدلّنا على أنّ أساس الإرجاء هوالتوقّف في حق الخليفتين الأخيرين والمقاتلين لهما.
    قال ابن سعد: « كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أوّل من تكلّم بالإرجاء وعن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد بن عليّ ، فلاماه على الكتاب الّذي وضعه على الإرجاء. فقال لزاذان: « يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه » وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز » ! (3).
    وقال ابن كثير في ترجمة الحسن: « وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه. وقال أيّوب السختياني وغيره: كان أوّل من تكلّم في الإرجاء ، وكتب في ذلك رسالة ، ثمّ ندم عليها. وقال غيرهم: كان يتوقّف في عثمان وطلحة والزّبير ، فلا يتولاّهم ، ولا يذمّهم. فلمّا بلغ ذلك أباه محمّد بن الحنفيّة ضربه فشجّه وقال: ويحك ألاّ تتولّى أباك عليّاً. وقال أبوعبيد: توفّي سنة خمس وتسعين. وقال خليفة: توفّي أيّام عمر بن عبد العزيز
    1 ـ الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.
    2 ـ فصل الأشعري في المقالات اختلافهم في الايمان ، وجعلهم اثنتا عشرة فرقة لاحظ ص 135 ـ 136.
    3 ـ الطبقات الكبرى ج 5 ص 328.


(76)
     والله أعلم » (1).
    وقال ابن عساكر في تاريخه: « قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم ، وكنت مع عمّي في حلقته ، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير ، فأكثروا ، والحسن ساكت ، ثمّ تكلّم فقال: قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولايتبرّأ منهم. ثمّ قال: فقمنا ، فقال لي عمر: يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال ، فضربه بعصا فشجّه وقال: ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء ، فقال: لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه » (2).
    وقال ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) في ترجمة الحسن ما هذا خلاصته:
     « قال ابن حبان: كان الحسن من علماء الناس بالاختلاف وقال سلام بن أبي مطيع عن أيّوب: أنّا أتبرّأ من الإرجاء. إنّ أوّل من تكلّم فيه رجل من أهل المدينة يقال له الحسن بن محمّد. وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد فلاماه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء ، فقال لزاذان: يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه. قلت ( ابن حجر ) : المراد بالإرجاء الّذي تكلّم الحسن بن محمّد فيه ، غير الارجاء الّذي يعيبه أهل السنّة المتعلّق بالايمان ، وذلك أنّي وقفت على كتاب الحسن بن محمّد المذكور ، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الايمان له في آخره قال: حدّثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أعين قال: كان الحسن بن محمّد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على النّاس: أما بعد ، فإنا نوصيكم بتقوى الله. فذكر كلاماً في الموعظة والوصيّة لكتاب الله واتّباع ما فيه وذكر اعتقادهـ ثمّ قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ونجاهد فيهما ، لأنّهما لم تقاتل عليهما الأمّة ولم نشكّ في أمرهما ، ونرجئ من
    1 ـ البداية والنهاية ج 9 ص 140.
    2 ـ تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 246 طبع دمشق 1332 هـ.


(77)
    بعدهما ممّن دخل الفتنة ، فنكل أمرهم إلى الله ـ إلى آخر الكلام. فمعنى الّذي تكلّم فيه الحسن أنّه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً وكان يرى أنّه يرجئ الأمر فيهما ، وأمّا الإرجاء الّذي يتعلّق بالايمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه بذلك عاب » (1).

هذا التاريخ المتضافر يدلّنا على اُمور:
    1 ـ إذا كان الحسن بن محمّد الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء فيرجع أصل الارجاء وتاريخه إلى الربع الأخير من القرن الأوّل للهجرة ، وقد توفّي محمّد بن الحنفيّة والد المؤسِّس عام ثمانين أو إحدى وثمانين ، عن عمر يناهز خمساً وستين سنة ، وقد توفّي ولده الحسن ( أصل الارجاء ) عام تسعة وتسعين أو قبله أو بعده بقليل ، وعليه يعود ظهور الإرجاء إلى حوالي عام سبعين من الهجرة ، أو ما يقاربه.
    2 ـ إنّ الحسن بن محمّد هو وليد البيت الهاشمي العريق في الولاء والمحبّة لأميرالمؤمنين وشيعته ومحبّيه وأصحابه ، وعند ذاك كيف يكون مثل هذا الشخص أساساً للإرجاء بهذا المعنى ، ولعلّه أظهر هذه الفكرة في بداية الأمر ( وإن ندم عليه في أواخر عمره وتمنّى الموت قبل كتابة ما كتبه ) لغاية توحيد الكلمة ، وإيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حيث كان الخطباء و وعّاظ السلاطين يسبّونه على صهوات المنابر أعواماً مديدة ، فأراد وليد البيت الهاشمي إيقاف السبّ بهذه الفكرة ، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن لا يطّلع الحسن بن الحنفيّة على انحراف النّاكثين والقاسطين والمارقين الّذين ابتزّوا أمر الخلافة ، وتطلّعوا إلى أمر ، هم أقصر منه فحاول لنيل غايته بالقول بأنّا نتكلّم في الشيخين ولا نتكلّم في غيرهما ممّن جاءوا بعدهما بشيء من المدح والقدح.
    والرجل وإن كان حسن النيّة لكنّه كان سيّىء العمل لما ترتّبت على هذا العمل من التوالي الفاسدة ، ولعلّ ندامته في آخر العمر لأجل ما رأى من المفاسد الّتي ترتّبت
    1 ـ تهذيب التهذيب: ج 2 ، ص 320 ـ 321.

(78)
     على هذه الفكرة.
    3 ـ لو كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء ، فقد عرفت تاريخ حياته وأنّه قام بزرعه في الربع الأخير من القرن الأول ، وعلى ذلك لايصحّ ما نقله أحمد أمين المصري عن ابن عساكر: « أنّهم هم الشكّاك الّذين شكّوا وكانوا في المغازي ، فلمّا قدموا المدينة بعد قتل عثمان وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ، ليس بينهم اختلاف قالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف ، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً ، وكان أولى بالعدل أصحابه ، وبعضكم يقول: كان عليّ أولى بالحقّ ، وأصحابه كلّهم ثقة وعندنا مصدّق ، فنحن لا نتبرّأ منهما ، ولا نلعنهما ، ولا نشهد عليهما ، ونرجئ أمرهما إلى الله حتّى يكون الله هو الذي يحكم بينهما » (1).
    يلاحظ عليه: أنّه قتل عثمان أواخر عام ( 35 ) من الهجرة ، واستشهد الامام أميرالمؤمنين في شهر رمضان عام ( 40 هـ ) ، ومقتضى ما ذكره الدكتور ، تكوّن الإرجاء في العقد الرابع من القرن الأوّل. وهذا لايتّفق مع ذلك التاريخ المتضافر في أنّ أصل الإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة لتأخّر عصره ، وقد كان لوالده محمّد بن الحنفية يوم قتل عثمان من العمر خمس عشرة ويوم استشهد الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عشرون سنة ، وكان الحسن بن محمّد في أصلاب الآباء و أرحام الاُمّهات ، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هذا النقل ، هو أنّ ـ الأحوال الحاضرة بعد قتل الخليفتين وقدوم المسلمين الغزاة ، أوجدت أرضيّة لتكوّن هذه الفكرة ، ولكنّها كانت خاملة تدور في الذاكرة ، وأوّل من أظهرها و طرحها بصورة علميّة وكتب فيها رسالة هو الحسن بن محمّد ولذلك قال عمّ عثمان بن ابراهيم بن حاطب لابن أخيه:يا بنيّ: ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً.
    4 ـ وأبعد من هذا الكلام ما ذكره ذلك الكاتب حيث قال:إنّ نواة هذه الطائفة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل ، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من
    1 ـ فجر الاسلام: ص 279 ، نقلاً عن تاريخ ابن عساكر.

(79)
    أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل « أبي بكرة » و « عبدالله بن عمر » و « عمران بن حصين » وروى أبوبكرة أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي.. » (1).
    5 ـ قد عرفت أنّ من المحتمل أن يكون الحافز لمؤسّس هذه الفكرة ، هو إيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، ولكنّ العامل المؤثّر في نشوء هذه البذرة ونموّها هو اشتداد الدعاية من جانب الأمويين لتبرئة عثمان من الأحداث المؤلمة المنسوبة إليه ، وتنزيه الناكثين ومن انضمّت إليهم من اُمّهات المؤمنين في نقض البيعة ، والخروج على الإمام المفترض الطاعة ، وإكثار الوقيعة في الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، وقد أثّرت تلك الدّعايات والروايات الّتي كذبوا بها على لسان رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في بسطاء القوم وسذّاجهم بحيث أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج ، فلم يكن لهم بدُّ أمام هذه الدعايات من أحد أمرين: إمّا الإجتهاد ، وخرق الحجب ، وشهود الحقائق بعين الفكر والعقل. وإمّا الوقوف على الرأي الوسط والتوقّف عن التكلّم في حقّ هؤلاء ، وإرجاء الأمر إلى الله ، والفرض الأوّل كان أمراً غير ميسور لبساطة الفهم وسذاجته ، فصار الثاني متعيّناً.
    يقول أحد المصريين حول الدعايات الفارغة بعد عهد عثمان: « ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات والخرافات والأساطير الّتي ابتلى بها المسلمون ، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه ، فشوّهت جمال الشريعة المطهّرة ، حتى أصبحت وبالاً على الدّين ، وشرّاً على المسلمين ، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم ، وعائقاً أمام الوصول إلى كثير من الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينية » (2).
    6 ـ يعتقد الكاتب المصري « أحمد أمين » أنّ المرجئة تكوّنت ، بصورة حزب سياسي لا يريد أن يغمس يده في الفتن ولايريق دماء حزب ، بل ولا يحكم بتخطئة فريق
    1 ـ فجر الاسلام ص 280.
    2 ـ عثمان بن عفان للاُستاذ صادق إبراهيم عرجون ص 41 ، كما في الغدير ، ج 8.



(80)
     وتصويب آخر.
    وما ذكره حدس لا أساس له ، ولقد استنتجه ممّا نقلناه عنه سابقاً من أنّ فكرة الإرجاء ترجع إلى الغزاة القادمين إلى المدينة بعد قتل الخليفتين.. وعرفت أنّه لا ينطبق مع ما تضافر في التاريخ.
    والظاهر أنّ فكرة الإرجاء نشأت في أحضان الدعايات الأمويّة ، والفضائل المفتعلة لجملة من أصحاب النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فغشيت وجه الحقيقة ، وعاقت البسطاء عن الخوض في الأبحاث الخطيرة ، واقتحام المعارك المدلهمّة ، ممّا نقم به على هؤلاء من الطامّات والأحداث وما قيل في براءتهم ، فتخيّل لهم أنّ الأصلح والرأي الأوسط هو عدم الجنوح إلى جانب دون آخر. وهؤلاء وإن كانوا غير معذورين في هذا الأمر ، لكنّهم ـ في زعمهم ـ أخذوا جانب الإحتياط في مقابل الناقمين.
    7 ـ إنّ أصل الإرجاء هو التوقّف وترك الكلام في حقّ بعض الصحابة. لكنّ هذا الأصل قد نسي في الآونة اللاحقة ، وأخذ أصل آخر مكانه ، بحيث لم يبق من الأصل الأوّل أثر بين المرجئة اللاحقة وفرقهم المختلفة ، وهو البحث عن تحديد الإيمان والكفر ، والمؤمن والكافر.
    فصار تحديد الإيمان بالاقرار دون العمل ، أو المعرفة القلبيّة دون القيام بالأركان ، ركناً ركيناً لهذه الطائفة بحيث كلّما أطلقت المرجئة ، لا يتبادر من هذه الكلمة إلاّ من تبنّى هذا المعنى.
    وقد أنهاهم أبو الحسن الأشعري في « مقالات الإسلاميين » في فصل خاصّ إلى اثنتي عشرة طائفة اختلفوا في حقيقة الإيمان بعد اتّفاقهم على إبعاد العمل عن ساحته وحقيقته.
    وهذا يوضح صحّة ما قلناه من أنّ الإرجاء ـ يوم تكوُّنه ـ لم يظهر بصورة حزب سياسيّ. بل ظهر بصورة منهج فكري دينيّ التجأ إليه أصحابه ، خضوعاً للدعايات
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس