بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 81 ـ 90
(81)
     الفارغة ، وتسليماً لها ، وبما أنّ الإرجاء على كلا الأصلين كان لصالح السلطة من الأمويين ، كانت السلطة يومذاك تؤيّدهم لأنّ في تبنّي كل من الأصلين ، صلاحهم ودعم عروشهم.
    فالأصل الأوّل يدعو إلى أنّ الإنسان قاصر عن تشخيص المصيب والمخطئ ، بل يترك أمر المخطئين إلى الله ، وهذا التسليم هو نفس ما يطلبه أصحاب السلطة ، حتّى يجتنب الناس عن القضاء في يزيد الخمور ، وعبد الملك السفّاك ، وعامله الحجّاج بن يوسف الثقفي ، ممّن عاشوا قبل الفكرة أو بعدها ، وسوّدوا صحيفة تاريخهم.
    والأصل الثاني يعرب عن أنّ الشهادة اللّفظية بالتوحيد أو المعرفة القلبيّة يكفي في دخول الإنسان في عداد المؤمنين ، فيحرم قتاله ونضاله بل يكون نفسه وماله مصونين من الإعتداء ، وهذا أيضا كان اُمنية الأمويين ، إذ على ضوء ذلك ، يكون يزيد الخمور والحجّاج الظلوم من المؤمنين ، ويكون دمهما ومالهما مصونين من الإعتداء.

عقيدة المرجئة:
    لا تجد للمرجئة رأياً خاصّاً في أبواب المعارف والعقائد سوى باب الايمان والكفر ، فكلامهم يدور حول هذين الموضوعين وأُسّ نظريّتهم أنّ الايمان هوالتصديق بالقلب ، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، أو ما يقرب من ذلك ، فأخرجوا العمل من حقيقة الايمان ، واكتفوا بالتصديق القلبي ونحوه ويترتّب على ذلك الأصل اُمور:
    1 ـ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم ، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان ، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال: إنّ العمل يكثر ويقلّ وسيوافيك نظرنا فيه.
    2 ـ إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة ، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الإتصاف بالايمان ، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة. أمّا الاُولى:


(82)
     فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الايمان بحيث يكون تارك العمل كافراً ، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر ، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.
    وأماّ الثانية: فلأنهّم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفّ وطأة من الخوارج ، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الايمان.
    3 ـ إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلّد في النار وإن لم يتب ، ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له ، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب وإنّ من مات بلا توبة يدخل النّار ، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو (1).
    هذه عقيدة المرجئة عرضناها على وجه الإجمال. وقد تأثّر أهل السنّة ببعض هذه الفروع كالقول بعدم تخليد عصاة المؤمنين في النار ، وجواز تخلّف الوعيد دون الوعد.
    وهيهنا سؤال وهو أنّه إذا كانت حقيقة الإرجاء هو الاكتفاء في الحكم بالايمان بالتصديق القلبي ، أو الإقرار باللسان ، فما هو الوجه في لعنهم والتبرّي منهم ، اذ ليست هذه النظرية بمجرّدها سبباً للّعن والتحاشي والتبرّي بهذه الدرجة.
    والإجابة عنه: هي إنّ التبرّي منهم ليس لأجل هذه النّظرية ، بل لأجل أنهّم جرّدوا الأعمال من الايمان ولم يعتقدوها من الفرائض (2) ولم يتقيّدوا بها في مجال الفعل والترك ، ولأجل ذلك أصبح الايمان عندهم يتلخّص في التصديق القلبي ، والإقرار اللّفظي.
    ولا يخفى أنّ هذه العقيدة خاطئة جدّاً ، إذ لو صحّت فعندئذ لا يتجاوز الايمان عن التصديق القلبي أو الإقرار باللسان ، فما أسهل الإسلام وأيسره لكلّ من انتسب إليه ولو انتساباً شكليّاً.
    1 ـ ذكر الشيخ الأشعري فروعاً آخر لهم في هذا المجال. لاحظ مقالات الإسلاميين ص 126 ـ 147.
    2 ـ كنز الفوائد ص 125 ط بيروت.


(83)
    قال الصاحب بن عبّاد: ادّعت المرجئة أنّ قاتل النفس بغير الحقّ ، وسارق المال ، ومخيف السبل ومرتكب الزنا ، وشارب الخمر ، لايقطع أنّهم من أهل النار ، وإن ماتوا مصرّين. وقالت العدليّة: بل هم من أهل النار مخلّدون لا يجدون عنها حولاً ، لأنّ الله أخبر ( وَ إِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيم ) ( الانفطار / 14 ) ولم يخصّ فاجراً عن فاجر ، فقال عزّ وجلّ: ( إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيم * وَإِنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٌ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّين * وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ) ( الانفطار / 13 ـ 16 ) وقال تعالى: ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء / 93 )
    فإن قالوا فقد قال الله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذِلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ( النساء / 48 ) فالجواب أنّه تعالى قال في هذه الآية: « لمن يشاء » والمشيئة مغيّبة عنّا ، إلى أن نعرفها بالأدلّة ، وقد بيّن « من يشاء » بقوله: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) ( النساء / 31 ) فهو يكفّر الصغائر بتجنّب الكبائر ، والكبائر بالتوبة ، قال سبحانه : ( وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) ( الزمر / 54 ) (1).
    وهنا وجه آخر للعنهم وهو يرجع إلى قولهم بالإرجاء بالمعنى الأوّل أعني التوقّف في أمر الامام عليّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وعدم الحكم بشيء فيه من الإيمان وضدّه. وأيّ مصيبة أعظم من التوقّف في ايمان أخي رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وصنوه ووزيره ، وهو الصدّيق الأكبر ، وأوّل المؤمنين. قال ـ صلوات الله عليهـ : « ولقد كنت أتّبعه ( الرسول ) اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة ( حراء ) ب ـ ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة » (2).
    1 ـ الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل للصاحب ( 385 هـ ) ص 23 المطبوع ضمن نفائس المخطوطات.
    2 ـ نهج البلاغة: الخطبة القاصعة ج 3 ص 161 ـ 182 بالرقم 187.


(84)
    أفي مثله يتوقّف الإنسان المنصف في الحكم بإيمانه؟
فإن كنت لاتدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
    إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تبيين حقيقة الإيمان وتحديده لغةً وكتاباً وسنّةً.
آراء ونظريات حول الإيمان:
    اختلف العلماء في ماهيّة الإيمان ولهم أقوال أربعة نعرضها مع التحليل:
    1 ـ الايمان هو معرفة الله بالقلب فقط ، وإن أظهر اليهوديّة ، والنصرانية ، وسائر أنواع الكفر بلسانه ، فإذا عرف الله بقلبه فهو مؤمن. نسب إلى الجهم بن صفوان وغيره.
    2 ـ إنّ الايمان هو إقرار باللّسان بالله تعالى وشريعته ، وإن اعتقد الكفر بقلبه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن ، وهو قول محمد بن كرّام السجستاني.
    3 ـ الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وأنّ الأعمال ليست إيماناً ، ولكنّها شرائع الايمان ، وهو قول جماعة من الفقهاء وهو الأقوى كما سيوافيك.
    4 ـ الايمان هو المعرفة بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، وأنّ كلّ طاعة واجبة ، بل الأعمّ منها ومن النافلة فهي إيمان وكلّما ازداد الإنسان عملاً إزداد ايماناً ، وكلّما نقص نقص إيمانه (1).
    وإليك تحليل الآراء والأقوال:

ما هوالايمان لغةً وكتاباً:
    إنّ الإيمان لغة هو التصديق ، وهو على وزن « إفعال » من الأمن بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم وجود سبب الخوف ، فحقيقة قوله « آمن به » : أذعن به ، وسكنت نفسه ، واطمأنّت بقبوله فيؤول « الباء » في الحقيقة إلى السببية ، وهو تارة يتعدّى
    1 ـ الفصل ج 3 ص 188 ، ونسب إلى محمد بن زياد الحريري الكوفي قول خامس ساقط جداً ، ومن شاء فليرجع إليه.

(85)
     بالباء كما في قوله تعالى: ( آمنّا بما أنْزَلْت ) « آل عمران / 53 ) واُخرى باللام كقوله سبحانه: ( وما أنتَ بِمُؤْمِن لَنا ) ( يوسف / 17 ) وقوله تعالى: ( فآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) ( العنكبوت / 26 ).
    فإذا كان الإيمان بمعنى التّصديق لغة ، فهل يكفي التصديق لساناً فقط ، أو جناناً فقط ، أو لا يكفي هذا ولا ذاك ، بل يشترط الجمع ، والظّاهر من الكتاب العزيز هو الأخير. فالإيمان بمقتضى الآيات عبارة عن التّصديق بالقلب ، الظّاهر باللسان ، أو ما يقوم مقامه ، ولا يكفي واحد منهما وحده. أمّا عدم كفاية التصديق القلبي فلقوله تعالى: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم ظُلْماً وَ عُلُوّاً ) ( النمل / 14 ) وقوله سبحانه: ( فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) ( البقرة / 89 ) فأثبت لليهود المعرفة وفي الوقت نفسه الكفر. وهذا يعرب عن أنّ الاستيقان النفساني لا بدّ له من مظهر كالإقرار باللسان ، أو الكتابة ، أو الإشارة كما في الأخرس.
    ويمكن أن يقال إنّه يكفي التّصديق القلبي ، ولكنّ الإنكار باللسان مانع ، فلو علم أنّه مذعن قلباً ، ولم ينكره لساناً ، لكفى في الحكم بالايمان ، كما كفى في تحقّقه واقعاً.
    وأمّا عدم كفاية التّصديق اللّساني فلقوله تعالى : ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ ) ( الحجرات / 14 ) والأعراب صدّقوا بألسنتهم ، وأنكروه بقلوبهم أو شكّوا فيه. وهؤلاء جروا في توصيف أنفسهم بالايمان على مقتضى اللّغة ، وادّعوا أنّهم مصدّقون قلباً وجناناً ، فردّ الله عليهم بأنّهم مصدّقون لساناً ، لا جناناً ، وأسماهم مسلمين ، ونفى كونهم مؤمنين.
    وعلى ضوء هذه الآيات يتبيّن فساد القولين الأولين وتظهر قوةّ القول الثالث وهو كون الايمان لغة: هو التّصديق القلبي ، لكنّ الكتاب العزيز دلّ على عدم كفاية التصديق القلبي وأنّه يشترط أن يكون معه إقرار أو ما يقوم مقامه من الكتابة والإشارة يدلّ على التسليم الباطني ، وقد عرفت ما احتملناه أخيراً.
    وأمّا الأثر المترتّب على الإيمان بهذا المعنى في الدنيا فهو حرمة دمه وعرضه وماله


(86)
     إلاّ أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة.وأمّا الأثر المترتّب عليه في الآخرة فهو صحّة أعماله واستحقاق الثواب عليها ـ لو قام بها ـ وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة.
    وأمّا السّعادة الاُخرويّة فهي رهن العمل كما يأتي بيانه. فمن صدّق لساناً وجناناً ، ولكن تجرّد عن العمل والامتثال ، فهو مؤمن فاسق ، وليس بكافر ( خلافاً للخوارج ) ولا هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الايمان والكفر ( خلافاً للمعتزلة ) ولا يكفي في النّجاة ، بل ـ إن لم يتب ـ يدخل النار ويعذّب فيها.
    وهذه هي النقطة الّتي يفترق فيها أهل الحقّ عن المرجئة ، فإنّهم يقولون إنّ التصديق لساناً أو جناناً أو معاً ، يكفي في النجاة من النار و دخول الجنّة ، ويثيرون في العصاة روح الطغيان على المُثل والأخلاق ، اعتماداً على أنّهم مؤمنين وإن فعلوا الكبائر وارتكبوا الموبقات. هذا هو الحقّ القراح ، وإليك تحليل أدلّة سائر الأقوال على ضوء الأقوال الّتي سردناها في صدر البحث.
هل الايمان هو التصديق القلبي؟
    استدلّ القائل بأنّ الإيمان هو التّصديق القلبي مضافاً إلى ما مرّ من الآيات في صدر البحث (1) بأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين ، وخاطبنا الله بلغة العرب ، وهو في اللغة التصديق ، والعمل بالجوارح لايسمّى ايماناً.
    يلاحظ عليه: أنّه يكفي في إثبات خروج العمل عن حقيقة الايمان ، وأمّا كون التصديق بالقلب كافياً في صدق الايمان فلا يثبته ، كيف وقد دلّت الآية على أنّ الجحد لساناً أو بغيره ، والاستيقان قلباً يوجب دخول الجاحد في عداد الكفّار. قال سبحانه: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا ظُلْماً وَعُلُوّاً ) ( النمل / 14 ).
    1 ـ ( وما أنت بمؤمن لنا ) ( يوسف / 17 ) ( فآمن له لوط ) ( العنكبوت / 26 ).

(87)
    غاية ما يمكن أن يقال ما عرفت من أنّ التصديق القلبي كاف في تحقّق الايمان ، والجحد لساناً مانع ، فلو تحقّق التصديق القلبي ولم يقترن بالجحد عناداً لكفى في كون الرجل مؤمناً ثبوتاً وواقعاً ، وأمّا الحكم بكونه مؤمناً إثباتاً فيحتاج إلى إظهاره باللسان ، أو بالعمل ، أو العلم بكونه معتقداً بطريق من الطّرق.
    ثمّ إنّ ابن حزم الظاهري ( ت 456 هـ ) أورد على هذا القول بوجهين:
    الأوّل: أنّ الإيمان في اللغة ليس هو التصديق ، لأنّه لا يسمّي التصديق بالقلب دون التصديق باللسان ايماناً في لغة العرب ، وما قال قطّ عربيّ إنّ من صدّق شيئاً بقلبه فأعلن التكذيب بلسانه ، أنّه يسمّى مصدّقاً به ولا مؤمناً به. وكذلك ما سمّى قطّ التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً.
    الثاني: لو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق إسم الايمان لكلّ من صدّق بشيء ما ، ولكان من صدّق بإلهيّة الحلاّج والمسيح والأوثان مؤمنين ، لأنّهم مصدّقون بما صدّقوابه (1).
    يلاحظ عليه: أنّ الوجه الأوّل صحيح لو رجع إلى ما ذكرنا من كون الإنكار باللسان مانعاً وإلاّ فلو صدّق قلباً ولم ينكره بلسانه فهو مؤمن لغةً وقرآناً. غير أنّ الحكم في مقام الإثبات يحتاج إلى الدليل من الإقرار باللسان ، أو الكتابة باليد ، أو الإشارة بالجوارح.
    وأمّا الوجه الثّاني ، فهو من الوهن بمكان لا يحتاج إلى البيان وكم لهذا الرجل من كلمات واهية. أضف إليه ما في كتابه من بذاءة في الكلام وتحرّش بالسباب وتحكّك بالوقيعة.
هل الايمان هو الإقرار باللسان؟
    إنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه ومن بعدهم ، اتّفقوا على أنّ من أعلن بلسانه بشهادة
    1 ـ الفصل: ج 3 ، ص 190

(88)
     الإسلام فإنّه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام.
    أضف إليه قول رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء « اعتقها فإنّها مؤمنة » (1)
    يلاحظ عليه: أنّ الحكم لهم بالايمان كان بحسب الظّاهر لا الحكم بأنّه مؤمن عند الله واقعاً ، ولذلك لو علم عدم مطابقة اللّسان مع الجنان يحكم عليه بالنفاق. قال سبحانه: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤمِنِينَ ) ( البقرة / 8 ). ولمّا كان الرسول وأصحابه مأمورين بالحكم بحسب الظاهر قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: « أُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله الاّ الله ويؤمنوا بما اُرسلت به ، فإذا عصموا منّي دماءُهم وأموالهم إلاّ بحقّها ، وحسابهم على الله » وبذلك يظهر وجه حكمه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء « بأنّها مؤمنة ».
    روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال: ربّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّي لم اُبعث لأشقّ عن قلوب الناس.
    إلى هنا تبيّن فساد القولين الأوّلين ، وأنّ الحقّ هو القول الثالث ، وعرفت الأثر المترتّب عليه ، إنّما المهم هو نقد القول الرابع الّذي يجعل العمل جزءاً من الإيمان وإليك البحثفيه:
ليس العمل جزءاً من الايمان:
    إذا كانت المرجئة في جانب التّفريط ، فالخوارج المكفّرة لمرتكبي الكبائر ، والمعتزلة القائلة بأنّ من فقد العمل ، فهو في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر ، في جانب الإفراط. فإنّ الذكر الحكيم ـ مع الدعوة المؤكّدة إلى العمل ـ لايرى العمل جزءاً من الإيمان بل يعطفه عليه ، ويراه كمالاً له ، لا عنصراً دخيلاً فيه. ويكفي في ذلك الآيات التالية:
    1 ـ نفس المصدر ، ص 206.

(89)
    1 ـ ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) ( البقرة / 277 ) فالعطف يقتضي المغايرة ، فلو كان العمل داخلاً فيه لزم التكرار ، واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام يحتاج الى وجود نكتة لذكره بعده ، إلاّ أن يقال: إنّ الصالحات جمع معرّف يشمل الفرض والنفل ، والقائل بكون العمل جزءاً من الإيمان يريد بها خصوص فعل الواجبات واجتناب المحرّمات ، فحينئذ يصحّ عطف الخاص على العام لحصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
    نعم ، الآية تصلح دليلاً على ردّ مقالة من جعل مطلق العمل ـ فرضاً كان أو نفلاً ـ جزءاً من الإيمان.
    2 ـ ( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) ( طه / 112 ) والجملة حالية والمقصود: عمل صالحاً حال كونه مؤمناً ، وهذا يقتضي المغايرة.
    3 ـ ( وَ إِنْ طِائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إْحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ) ( الحجرات / 9 ) فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية وقال ما هذا معناه: « فان بغت احدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة الاُخرى منهم » إلاّ أن يقال: إنّ اطلاق المؤمن بلحاظ حال التلبّس أي بما أنّهم كانوا مؤمنين قبل القتال ، لا بلحاظ حال الجري والتكلّم.
    4 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) ( التوبة / 119 ). فأمر الموصوفين بالايمان ، بالتقوى ، أي الاتيان بالطاعات والاجتناب عن المحرّمات ، فدلّ على أنّ الايمان يجتمع مع عدم التقوى وإلاّ كان الأمربه لغواً وتحصيلاً للحاصل ، إلاّ أن يحمل الأمر على الإستدامة فيخرج عن كونه تحصيلاً للحاصل.
    5 ـ الآيات الدالّة على كون القلب محلاّ للايمان.
    منها قوله تعالى: ( اُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ) ( المجادلة / 22 ). ولو كان العمل جزءاً منه لما كان القلب محلا لجميعه. وقوله سبحانه : ( وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي


(90)
قُلُوبِكُمْ ) ( الحجرات / 14 ) وقوله تعالى: ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيمَانِ ) ( النحل / 106 ).
    6 ـ آيات الطّبع والختم ، فإنّها تشعر بأنّ محلّ الإيمان هو القلب ، ولأجل ذلك من طبع أو ختم على قلبه لا يؤمن أبداً.
    قال تعالى: ( اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِم ) ( النحل / 108 ) وقال سبحانه: ( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ ) ( الجاثية / 23 ).
    فإن قلت: دلّ الكتاب على أنّ الايمان عبارة عن التصديق الظّاهر بالإقرار باللّسان أو نحوه. فعندئذ كيف يكون محلّه هو القلب مع أنّ جزءاً منه الإظهار باللّسان ونحوه.
    قلت: قد عرفت أنّ الايمان لغة هو التّصديق قلباً ، غاية الأمر دلّ الدّليل على عدم كفايته إذا أنكره وجحده باللّسان وإن أذعن به في القلب. بل يمكن أن يقال: إنّ الايمان هو التّصديق المورث للسكون والسكينة والتسليم. والجاحد بلسانه لا تحصل له تلك الحالة وإن حصل له العلم ، لكن ليس كلّ علم ملازماً للإيمان بل هو أخصّ منه. ولأجل ذلك قال سبحانه: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ( النساء / 65 ) فالايمان هو المعرفة المورثة للسكون ، الباعثة إلى التسليم ، ولا تحصل تلك الحالة للجاحد الحاقد.
    هذا هو مقتضى الكتاب ، ويؤيّده الإجماع حيث جعلوا الإيمان شرطاً لصحّة العبادات ، ولا يكون الشيء شرطاً لصحّة جزئه.
    وأمّا السنّة فهناك روايات تدلّ على أنّ الإقرار المقترن بالعرفان ، ايمان. وإليك بعضها:
    روى الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً؟ قال: يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده و
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس