بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 91 ـ 100
(91)
     رسوله ، ويقرّ بالطّاعة ، ويعرف إمام زمانه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن (1).
    ومثله غيره.
    وأمّا زيادة الايمان ونقصانه ، فالظّاهر من المتكلّمين أنّ الإيمان لو كان هو التّصديق فلا يزيد ولا ينقص ، بخلاف ما لو جعلنا العمل جزءاً منه فهو يزيد وينقص بزيادته ونقصانه.
    والتّحقيق ـ كما سيأتي ـ خلافه ، فهو على كلا القولين يزيد وينقص ، لأنّ التصديق ذو مراتب ، والتسليم مثله ذو درجات ، وليس تسليم الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لله ، ولأحكامه ، ولفروضه ، ولسننه ، أو معرفتهم ، وإذعانهم كتسليم ومعرفة سائر الناس ، ومن أنكر ذلك فإنّما ينكره بلسانه ولكن قلبه مطمئنّ ببطلانه.

هل العمل جزء من الايمان؟
    احتجّ القائل بأنّ العمل جزء من الإيمان بآيات:
    1 ـ قوله سبحانه: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيماناً مَعَ إِيْمَانِهِمْ ) ( الفتح / 4 ). ولو كانت حقيقة الايمان هي التّصديق ، لما قبل الزيادة والنقيصة ، لأنّ التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم. وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الايمان. فعندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته. والزيادة لا تكون إلاّ في كمّية عدد لا في ما سواه ، ولا عدد للاعتقاد ولا كمّية له (2).
    يلاحظ عليه: أنّ الايمان بمعنى الإذعان أمر مقول بالتّشكيك. فلليقين مراتب ، فيقين الإنسان بأنّ الإثنين نصف الأربع ، يفارق يقينه في الشدّة والظهور ، بأنّ نور القمر مستفاد من الشّمس ، كما أنّ يقينه الثاني ، يختلف عن يقينه بأنّ كلّ ممكن فهو زوج
    1 ـ البحار ( ج 66: ص 16 ) كتاب الايمان والكفر نقلاً عن ( معاني الاخبار ).
    2 ـ الفصل ج 3 ص 194.


(92)
     تركيبي له ماهيّة ووجود ، وهكذا يتنزّل اليقين من القوّة إلى الضّعف ، إلى أن يصل إلى أضعف مراتبه الّذي لو تجاوز عنه لزال وصف اليقين ، ووصل إلى حدّ الظنّ ، وله أيضاً مثل اليقين درجات ومراتب ، ويقين الإنسان بالقيامة ومشاهدها في هذه النشأة ليس كيقينه بعد الحشر والنشر ، ومشاهدتها بأُمّ العين. قال سبحانه: ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد ) ( ق / 22 ) فمن ادّعى بأنّ أمر الايمان بمعنى التّصديق والإذعان ، دائر بين الوجود والعدم ، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه. فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ ايمان الأنبياء بعالم الغيب ، كإيمان الانسان العادي ، مع أنّ مصونيّتهم من العصيان والعدوان رهن علمهم بآثار المعاصي وعواقبه ، الّذي يصدّهم عن اقتراف المعاصي وارتكاب الموبقات. فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس ، لما تميّزوا بالعصمة عن المعصية. وما ذكره من أنّ الزيادة تستعمل في كمّية العدد منقوض بآيات كثيرة استعملت الزيادة فيها في غير زيادة الكمّية. قال سبحانه: ( وَ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) ( الاسراء / 109 ). وقال: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُوراً ) ( الاسراء / 41 ). والمراد شدّة خشوعهم ونفورهم ، لا كثرة عددهما ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي استعمل فيها ذلك اللّفظ في القوّة والشدّة لا الكثرة العدديّة.
    2 ـ قوله سبحانه: ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) ( البقرة / 143 ) وإنّما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ بالصّلاة إلى الكعبة.
    يلاحظ عليه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولا نشكّ في أنّ العمل أثر للاذعان وردّ فعل له ، ومن الممكن أن يطلق السبب ويراد به المسبّب. إنّما الكلام في أنّ الإيمان لغةً وكتاباً موضوع لشيء جزؤه العمل وهذا ممّا لا يثبته الإستعمال. أضف إليه أنّه لو أخذنا بظاهرها الحرفي ، لزم أن يكون العمل نفس الايمان لا جزءاً منه ، ولم يقل به أحد.
    3 ـ قوله سبحانه: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ( النساء / 65 ). أقسم سبحانه


(93)
     بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلاّ بتحكيم النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم والتسليم بالقلب وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق والتسليم ، بل هو عمل خارجي.
    يلاحظ عليه: أنّ المنافقين ـ كما ورد في شأن نزول الآية ـ كانوا يتركون النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار و ـ مع ذلك ـ كانوا يدّعون الايمان بمعنى الإذعان والتسليم للنّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ، فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتّى يرى أثره في حياتهم وهو تحكيم النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في المرافعات ، والتسليم العملي أمام قضائه ، وعدم إحساسهم بالحرج ممّا قضى. وهذا ظاهر متبادر من الآية وشأن نزولها. فمعنى قوله سبحانه: ( فلا وربّك لا يؤمنون ) ، أنّه لا يقبل ادّعاء الايمان منهم إلاّ عن ذلك الطّريق.وبعبارة ثانية; إنّ الآية وردت في سياق الآيات الآمرة بإطاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال سبحانه: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( النساء / 64 ) والمنافقون كانوا يدّعون الايمان ، وفي الوقت نفسه كانوا يتحاكمون إلى الطّاغوت. فنزلت الآية ، وأعلنت أنّ مجرّد التصديق لساناً ليس إيماناً. بل الايمان تسليم تامّ باطني وظاهري.فلا يستكشف ذلك التسليم التامّ ، إلاّ بالتسليم للرّسول ظاهراً ، وعدم التحرّج من حكم الرّسول باطناً ، وآية ذلك ترك الرُّجوع إلى الطّاغوت ورفع النزاع إلى النّبي ، وقبول حكمه بلا حرج. فأين هو من كون نفس التحكيم جزءاً من الإيمان؟
    4 ـ قوله سبحانه: ( وَللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) ( آل عمران / 97 ) سمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً.
    يلاحظ عليه: أنّ المراد إمّا كفران النّعمة وأنّ ترك المأمور به كفران لنعمة الأمر ، أو كفر الملة لأجل جحد وجوبه.
    5 ـ قوله سبحانه: ( وَمَا اُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلوةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكَوةَ وَ ذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة ) ( البيّنة / 5 ). والمشار اليه بلفظة « ذلك » جميع ما جاء بعد « إلاّ » من إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة ، فدلّت هذه الآية على دخول العبادات في ماهية الدين.


(94)
    والمراد من الدّين ، هو الإسلام لقوله سبحانه ( إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام ) ( آل عمران / 19 ).
    وعلى ضوء هذا ، فالعبادات داخلة في الدّين حسب الآية الاُولى ، والمراد من الدين هو الإسلام حسب الآية الثانية ، فيثبت أنّ العبادات داخلة في الإسلام ، وقد دلّ الدّليل على وحدة الإسلام والإيمان وذلك بوجوه:
    الف ـ الإسلام هو المبتغى لقوله: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آلعمران / 85 ) والايمان أيضاً هو المبتغى ، فيكون الإسلام والايمان متّحدين.
    ب ـ قوله سبحانه: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( الحجرات / 17 ) فجعل الاسلام مرادفاً للايمان.
    ج ـ قوله سبحانه: ( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْت مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( الذاريات / 35 ـ 36 ) وقد اُريد من المؤمنين والمسلمين معنى واحداً ، فهذه الآيات تدل على وحدة الإسلام والايمان. فإذا كانت الطّاعات داخلة في الإسلام فتكون داخلة في الإيمان أيضاً لحديث الوحدة (1).
    يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المشار إليه في قوله ( وذلك دين القيّمة ) هو الجملة الاُولى بعد « إلاّ » أعني ( ليعبدوا الله مخلصين له الدّين ) لا جميع ما وقع بعدها من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والمراد من قوله ( ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) هو إخلاص العبادة لله ، كإخلاص الطّاعة (2) له ، والشّاهد على ذلك قوله سبحانه: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذِلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم / 30 ). فإنّ وزان قوله ( ذلك الدّين القيّم ) وزان قوله ( ذلك دين القيّمة ) والمشار إليه في الجملة الاُولى هو
    1 ـ الفصل: ج 3 ص 234 ، والبحار: ج 66 ص 16 ـ 17.
    2 ـ المراد من الدين في قوله « مخلصين له الدين » هو الطاعة.


(95)
     الدّين الحنيف الخالص عن الشرك ، بإخلاص العبادة والطّاعة له سبحانه.
    ثانياً : يمنع كون العبادات داخلة في الإسلام حتّى في قوله سبحانه: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام ) وقوله تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِيناً... ) لأنّ المراد منه هو التّسليم أمام الله وتشريعاته ، بإخلاص العبادة والطّاعة له في مقام العمل دون غيره من الأوثان والأصنام ، وبهذا المعنى سمّي إبراهيم « مسلماً » في قوله تعالى: ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولانَصْرانِياً وَلكِنْ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / 67 ) وبهذا المعنى طلب يوسف من ربّه أن يميته مسلماً قال سبحانه حكاية عنه: ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ ) ( يوسف / 101 ) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول إخلاص العبادة له ، والتجنّب من الشّرك ، فلو فرض أنّ العبادة داخلة في مفهوم الدّين ، فلا دليل على دخولها في مفهوم الإسلام.
    ثالثاً: نمنع كون الإسلام والايمان بمعنى واحد ، فالظّاهر من الذّكر الحكيم اختلافهما مفهوماً. قال سبحانه: ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلِكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ ) ( الحجرات / 13 ) فلو استعمل الإسلام أو المسلمين وأُريد منهما الإيمان والمؤمنين في مورد أو موردين ، فهو لوجود قرينة تدلّ على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ.
    إلى غير ذلك من الآيات الّتي جمعها ابن حزم في « الفصل » (1) ولا دلالة فيها على ما يرتئيه ، والإستدلال بهذه الآيات يدلّ على أنّ الرّجل ظاهريّ المذهب إلى النّهاية يتعبّد بحرفيّة الظواهر ، ولا يتأمّل في القرائن الحافّة بالكلام وأسباب النّزول.
    نعم هناك روايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ تعرب عن كون العمل جزءاً من الإيمان وإليك بعضها:
    1 ـ روى الكراجكي عن الصّادق أنّه قال: « ملعون ملعون من قال: الإيمان قول
    1 ـ الفصل: بكسر الفاء وفتح الصاد بمعنى النخلة المنقولة من محلّها الى محلّ آخر لتثمر ، كقصعة وقصع.

(96)
     بلا عمل » (1).
    2 ـ روى الكليني عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال: « قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض الله؟ قال: وسمعته يقول: كان عليّ ( عليه السلام ) يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ، ولا صلاة ، ولا حلال ، ولا حرام ، قال: وقلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : إنّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فهو مؤمن قال: فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وأنّ جوار الله للمؤمنين ، وأنّ الجنّة للمؤمنين ، وأنّ الحور العين للمؤمنين ، ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً » (2).
    والمراد من « جحد الفرائض » تركها عمداً بلا عذر ، لا جحدها قلباً وإلاّ لما صلح للاستدلال.
    3 ـ روى الكليني عن محمّد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : الكبائر تخرج من الايمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر ، قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن (3).
    4 ـ وروى أيضاً عن عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر وعمر بن ذرّ ـ وأظنّ معهما أبو حنيفة ـ على أبي جعفر عليه السلام ، فتكلّم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. قال: فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : يا ابن قيس أمّا رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت (4).
    1 ـ البحار ج 69 ص 19 ، الحديث 1.
    2 ـ الكافي ج 2 ص 33 ، الحديث 2 ، والبحار ج 66 ص 19 ، الحديث 2.
    3 ـ الكافي ج 2 ص 284 ـ 285 ، الحديث 21.
    4 ـ الكافي ج 2 ص 285 ، الحديث 22.


(97)
    5 ـ وعن الرضا عن آبائهـ صلوات الله عليهم ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : الايمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان وعمل بالأركان (1).
    إلى غير ذلك من الرّوايات الّتي جمعها العلاّمة المجلسي ـ قدس سرهـ في بحاره ، باب « الايمان مبثوث على الجوارح » (2).
    أقول: الظّاهر أنّها وردت لغاية ردّ المرجئة الّتي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة ، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف ، وقد تضافر عن أئمّة أهل البيت ـ عليه السلام ـ لعن المرجئة.
    روى الكليني عن الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: لعن الله القدريّة ، لعن الله الخوارج ، لعن الله المرجئة ، لعن الله المرجئة ، فقلت: لعنت هؤلاء مرّة مرّة ولعنت هؤلاء مرّتين قال: إنّ هؤلاء يقولون: إنّ قَتَلَتَنا مؤمنون ، فدماؤنا متلطّخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إنّ الله حكى عن قوم في كتابه: ( ألاّ نُؤْمِنُ لِرَسُول حَتّى يَأْتِينَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُموهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) قال: كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا (3).
    وروى أيضاً عن أبي مسروق قال:سألني أبو عبدالله ( عليه السلام ) عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدريّة وحروريّة ، قال: لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد الله على شيء (4).
    إلى غير ذلك من الرِّوايات الواردة في ذمّ هذه الفرقة الّتي كانت تثير روح العصيان والتمرّد على الأخلاق والمثل بين الشباب ، وتحرّضهم على اقتراف الذنوب والمعاصي رجاء المغفرة.
    1 ـ عيون أخبار الرضا ج 1 ص 226.
    2 ـ بحار الأنوار ج 69 الباب 30 من كتاب الكفر والايمان ص 18 ـ 149.
    3 ـ الكافي ج 2 ، ص 409 ، الحديث 1.
    4 ـ الكافي ، ج 2 ، ص 409 ، الحديث 2. والآية 183 من سورة آل عمران.


(98)
    والّذي يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة ، هو أنّ الايمان ذو مراتب ودرجات ، ولكل أثره الخاصّ.
    1 ـ مجرّد التصديق بالعقائد الحقّة ، وقد عرفت ثمرته وهي حرمة دمه وعرضه وماله ، وبه يناط صحّة الأعمال واستحقاق الثّواب ، وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة.
    2 ـ التصديق بها مع الاتيان بالفرائض الّتي ثبت وجوبها بالدّليل القطعي كالقرآن ، وترك الكبائر الّتي أوعد الله عليها النّار ، وبهذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة ، ومانع الزّكاة ، وتارك الحجّ ، وعليه ورد قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم « لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن » وثمرة هذا الايمان عدم استحقاق الإذلال والإهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.
    3 ـ التصديق بها مع القيام بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات. وثمرته اللّحوق بالمقرّبين ، والحشر مع الصّديقين وتضاعف المثوبات ، ورفع الدّرجات.
    4 ـ نفس ما ذكر في الدّرجة الثالثة لكن بإضافة القيام بفعل المندوبات ، وترك المكروهات ، بل بعض المباحات ، وهذا يختصّ بالأنبياء والأوصياء (1).
    ويعرب عن كون الإيمان ذا درجات ومراتب ، ما رواه الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) في حديث قال: « قلت: ألا تخبرني عن الإيمان؟ أقولهو وعمل ، أم قول بلا عمل؟ فقال: الايمان عمل كلّه ، والقول بعض ذلك العمل ، بفرض من الله بيّن في كتابه ، واضح نوره ، ثابتة حجّته ، يشهد له به الكتاب ، ويدعوه إليه ، قال: قلت: صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه ، قال: الايمان حالات ودرجات وطبقات ، ومنازل: فمنه التامّ المنتهى تمامه ، ومنه النّاقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه.
    1 ـ البحار ج 69 ص 126 ـ 127.

(99)
    قلت:إن الايمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال: نعم ، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها ، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اُختها... الخ » (1).
    ويعرب عنه أيضاً ما رواه الصدوق عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال: قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ليس الايمان بالتحلّي ، ولا بالتمنّي ، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب ، وصدّقه الأعمال (2).
    والمراد بالتحلّي التزيّن بالأعمال من غير يقين بالقلب ، كما أنّ المراد من التمنّي هو تمنّي النجاة بمحض العقائد من غير عمل.
    وفي ما رواه النّعماني في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شواهد على ذلك التقسيم (3).
خاتمة المطاف
    إنّ البحث في أنّ العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا ، وإن كان مهمّاً قابلاً للمعالجة في ضوء الكتاب والسنّة ، كما عالجناه ، إلاّ أنّ للبحث وجهاً آخر لا تقلّ أهميته عن الوجه الأول وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار. فإذا دلّ الدليل على أنّ الموضوع لهذا الأثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم ، أو هو مع العمل ، يجب علينا أن نتّبعه سواء أصدق الإيمان على المجرّد أم لا ؟ سواء كان العمل عنصراً مقوّماً أم لا ؟
    مثلاً; إنّ حقن الدماء وحرمة الأعراض والأموال يترتّب على الإقرار باللسان سواء أكان مذعناً في القلب أم لا ، ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان. ولأجل ذلك نرى أنّ كلّ عربيّ وعجميّ وأعرابيّ وقرويّ أقرّ بالشهادتين عند الرسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حكم عليه
    1 ـ البحار ج 69 ص 23 ـ 24 لاحظ تمام الرواية وقد شرحها العلامة المجلسي.
    2 ـ البحار ج 69 ص 72 نقلاً عن معاني الاخبار ص 187.
    3 ـ البحار ج 69 ص 73 ـ 74 نقلاً عن تفسير النعماني.


(100)
     بحقن دمه واحترام ماله. قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « اُمرت أن أُقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم » (1).
    فهذه الآثار لا تتطلّب أزيد من الإقرار باللّسان ما لم تعلم مخالفته للجنان ، سواء أصحّ كونه مؤمناً أم لا.
    وأمّا غير هذه من الآثار التي نعبّر عنه بالسعادة الأُخروية فلا شكّ أنّها رهن العمل ، وأنّ مجرّد الاعتقاد والإقرار باللسان لا يسمن ولا يغنى من جوع. وهذا يظهر بالرجوع إلى الكتاب والسنّة. قال سبحانه: ( إِنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) ( الحجرات / 15 ). نرى أنّه ينفي الايمان عن غير العامل. وما هذا إلاّ لأنّ المراد منه ، الإيمان المؤثّر في السعادة الأخرويّة ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل » (2).
    فالإمام ( عليه السلام ) بصدد بيان الإسلام الناجع في الحياة الاُخروية ، ولأجل ذلك فسّره نهايةً بالعمل. ولكنّ الاسلام الّذي ينسلك به الانسان في عداد المسلمين ، ويحكم له وعليه ظاهراً ما يحكم للسائرين من المسلمين ، تكفي فيه الشهادة باللّفظ ما لم تعلم المخالفة بالقلب ، وعلى ذلك جرت سيرة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه.
    فلو أوصلَنا السبر والدقّة إلى تحديد الايمان فهو المطلوب ، وإلاّ فالمهمّ هو النّظر إلى الآثار المطلوبة وتحديد موضوعاتها حسب الأدلة سواء أصدق عليه الايمان أم لا ، سواء أدخل العمل في حقيقته أم لا كما تقدّم. هذا ما ذكرناه هنا عجالة ، وسوف نميط السّتر عن وجه الحقيقة عند البحث عن عقيدة الطائفتين ـ المعتزلة والخوارج ـ في مورد مرتكب الكبيرة ، ونحدّد مفهوم الايمان في ضوء الكتاب والسنّة.
    1 ـ بحار الأنوار : ج 68 ص 242.
    2 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 125.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس