بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 171 ـ 180
(171)
    ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حال شك.
    وأمّا التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيمياوي اليوم في معمله » (1).
    وقال أحمد أمين في مقال خاصّ تحت عنوان « المعتزلة والمحدثون »:
    كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين ، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً ، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه « الحيوان » مبحث طريف عن الشكّ ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل ، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف ، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول: ( إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) ويهزأون بمن يخاف من الجنّ ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام ، و يؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل و فلسفة اليونان ، ولهم في ذلك باع طويل ، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنّه أرسطو ، بل نرى في « الحيوان » أنّ الجاحظ يفضّل أحياناً قول أعرابيّ جاهلي بدويّ على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.
    هكذا كان منهجهم ، وهو منهج لا يناسب إلاّ الخاصّة ، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلاّ خاصّة المثقّفين ، أمّا العوام فكانوا يكرهونه.
    ويقابل هذا المنهج منهج المحدِّثين ، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية ، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن ، ومتى صحّ السند صحّ المتن ولو خالف العقل ، وقلّ أن نجد حديثاً نُقد من ناحية المتن عندهم ، و إذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتّفق والعقل ، كما يتجلّى ذلك في مذهب الحنابلة.
    وكان من سوء الحظّ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على
    1 ـ ضحى الاسلام: ج 3 ، ص 112.

(172)
    الدين ، والسياسة دائماً شائكة ، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم ، وامتحنوا النّاس وأكرهوهم على الاعتزال ، فكرههم العامّة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الّذي وقف في وجههم ، فلمّا جاء المتوكّل انتصر للرأي العام ضدّهم ، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دوآد وأمثالهما ، و نكّل بهم تنكيلاً شديداً ، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنّه معتزلي ، كان الرجل يعتزل ويختفي حتّى عدّ جريئاً كلّ الجراءة الزمخشري الّذي كان يتظاهر بالاعتزال و يؤلّف فيه ، ولم يكن له كلّ هذا الفضل ، لأنّه أتى بعد هدوء الفورة الّتي حدثت ضدّ الاعتزال.
    فلنتصوّر الآن ماذا كان لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟. أظنّ أنّ مذهب الشكّ و التجربة وإليقين بعدهما كان يكون قد ربى و ترعرع و نضج في غضون الألف سنة الّتي مرّت عليه ، وكنّا نفضّل الأروبيّين في فخفختهم و طنطنتهم بالشكّ و التجربة الّتي ينسبانها إلى « بيكن » مع أنّه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة. وكان هذا الشكّ و هذه التّجربة مما يؤدّي حتماً إلى الاختراع و بدل تأخّر الاختراع إلى ما بعد بيكن وديكارت ، كان يتقدم مئات من السنين ، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه إلى اليوم ، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيّين ، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق و يقتصر على الغرب.
    فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدِّثين يقتصرون على جمع متفرّق أو تفريق مجتمع ، وقلّ أن نجد مبتكراً كابن خلدون الّذي كانت له مدرسة خاصّة ، تلاميذها الغربيّون لا الشرقيون.
    فالحقّ أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود كانت خسارة كبرى لاتعوّض.
    ثمّ بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربيّة تقليداً من الخارج لا بعثاً من الداخل ، وشتّان ما بينهما ، فالتقليد للخارج بثّ فيهم ما يسمّيه علماء النفس مركب النقص ، فهم يرون أنّهم عالة على الغربيّين في منهجهم ، ولو كان من أنفسهم لاعتزّوا به


(173)
    وافتخروا ، ولكن ما قُدّر لا بدّ أن يكون ، ولله في خلقه شؤون » (1).
    هذا بعض ما تأثّر به الاُستاذ المصري بمنهج الاعتزال فأطلق قلمه بمدحهم ، ولكن ل ـ مّا وقف في غضون التأريخ على أنّ المعتزلة تربّت في أحضان البيت العلوي و أنّ واصل بن عطاء مؤسّس المنهج تتلمذ على أبي هاشم بن محمّد الحنفيّة ، وأنّهم أخذوا التوحيد والعدل من الاُصول الخمسة من خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثارت ثورته وثقل عليه البحث لما يكنّه في نفسه من عداء وحقد للشيعة وأئمّتهم فانبرى لتحريف التأريخ و إسدال الستر على الحقيقة و إنكار كون الأصل لبعض اُصول المعتزلة هو البيت العلوي. ولنا معه في ذلك الفصل بحث ضاف فانتظر. هذا والكلام حول هذه الطائفة يأتي في فصول:
    1 ـ رسالة الإسلام التي تصدرها « دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة » بالقاهرة: العدد الثالث من السنة الثالثة.

(174)
الفصل الأوّل
سبب تسميتهم بالمعتزلة
    لقد شغل بال الباحثين من المسلمين و المستشرقين سبب تسمية هذه الطّائفة بالمعتزلة ، فاختار كلّ مذهباً ، ونحن نأتي بجميع الآراء أو أكثرها على وجه الاجمال ، مع التّحليل والقضاء بينها.

1 ـ اعتزالهم عن علي ( عليه السلام ) في محاربته لمخالفيه
    قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث في كتابه « فرق الشيعة » عندالبحث عن الأحداث الواقعة بعد قتل عثمان: « فلمّا قُتِل بايع الناس عليّاً فسمّوا الجماعة ، ثمّ افترقوا بعد ذلك و صاروا ثلاث فرق: فرقة أقامت على ولايتهـ عليه السلام ـ ، وفرقة خالفت عليّاً وهم طلحة والزبير و عائشة ، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعدبن أبي وقّاص ، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب ، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري ، واُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن علي ( عليه السلام ) وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به. فسمّوا المعتزلة ، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد ، وقالوا: لا يحلّ قتال عليّ ولاالقتال معه.
    وذكر بعض أهل العلم أنّ الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصّة


(175)
    قومه من بني تميم لا على التديّن بالاعتزال. ولكن على طلب السلامة في القتل و ذهاب المال وقال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم ».
    وذكر (1) نصر بن مزاحم المنقري أنّ المغيرة بن شعبة كان مقيماً بالطّائف لم يشهد صفّين. فقال معاوية: يا مغيرة: ما ترى؟ قال: يا معاوية لو وسعني أن أنصرك لنصرتك ، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين ( أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص ) فركب حتّى أتى دومة الجندل ، فدخل على أبي موسى كأنّه زائر له ، فقال: يا أبا موسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر و كره الدماء؟ قال: اُولئك خيار الناس خفّت ظهورهم من دمائهم و خمصت بطونهم من أموالهم.
    ثمّ أتى عمراً فقال: يا أبا عبدالله ! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟
    فقال: اُولئك شرّ الناس لم يعرفوا حقّاً ولم ينكروا باطلا (2).
    غير أنّ شيوخ المعتزلة يردّون هذه الرواية ولا يقيمون لها وزناً. بل يقول البلخي: « ومن الناس من يقول سمّوا معتزلة لاعتزالهم عليّ بن أبي طالب في حروبه ، وليس كذلك ، لأنّ جمهور المعتزلة بل أكثرهم إلاّ القليل الشاذّ منهم يقولون إنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان على صواب ، وإنّ من حاربه فهو ضالّ و تبرّأوا ممّن لم يتب عن محاربته ولا يتولّون أحداً ممّن حاربه إلاّ من صحّت عندهم توبته منهم ، و من كان بهذه الصفة فليس بمعتزل عنه ( عليه السلام ) ولا يجوز أن يسمّى بهذا الاسم » (3).
    أقول: لولا أنّ النوبختي ذكر بعد نقل هذه الرواية قوله: « وأنّهم صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد » لأمكن المناقشة في كونه وجه التسّمية ، و أنّ الاعتزال بالطابع الفكري والعقلي كان استمراراً للاعتزال بطابعه السياسي. إذ من الممكن أن تستعمل كلمة واحدة في طائفتين يجمعهما جامع وهو العزلة وترك الجماعة. فهؤلاء الّذين خذلوا
    1 ـ فرق الشيعة: ص 5 طبع النجف عام 1355 هـ.
    2 ـ وقعة صفين ص 620 ـ 621 طبع مصر.
    3 ـ فضل الاعتزال ص 13 ـ 14.


(176)
    عليّاً بترك البيعة والحرب معه ضدّ الناكثين والقاسطين معتزلون ، كما أنّ واصل بن عطاء و تلاميذه معتزلون لأجل تركهم مجلس درس اُستاذه و تلاميذه كما يأتي في الرواية الاُخرى. واطلاق كلمة واحدة على الطائفتين اللّتين لهما طابعان مختلفان لا يدلّ على أنّ الطائفة الثانية هي استمرار للاُولى. و إنّما يمنعنا عن ردّ هذه النّظرية على وجه القطع هو صراحة كلام النوبختي في ذلك.
2 ـ اعتزالهم عن الحسن بن علي ( عليهماالسلام )
    وهناك رواية اُخرى تدلّ على أنّ تسميتهم بهذا اللّقب لاعتزالهم عن الحسن بن عليّ و معاوية ، نقله الملطي ( المتوفّى عام 373 ) في « التنبيه والردّ » واستحسنه الكوثري (1) وحسب أنّه وقف على أمر بديع. يقول الملطي: « وهم سمّوا أنفسهم معتزلة وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن بن علي و معاوية و جميع الناس ، وذلك أنّهم كانوا من أصحاب علي ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة و سمّوا بذلك معتزلة » (2).
    أقول: هذا الرأي قريب من جهة ، لأنّ المعتزلة أخذوا تعاليمهم في التوحيد والعدل عن عليّ ( عليه السلام ) كما سيأتي ، فليس ببعيد أن يرجع وجه التسمية إلى زمن تصالح الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية.
    ومع ذلك كلّه ، يمكن أن يقال فيه مثل ما قلناه في النظرية السابقة ، وهو أنّه كانت طائفتان مختلفتان لا صلة بينهما سوى الاشتراك الاسمي ، ظهرت إحداهما بعد صلح الحسن ( عليه السلام ) وكان لها طابع سياسي ، وظهرت الاُخرى في زمن الحسن البصري عند اعتزال واصل عن حلقة بحثه كما سيأتي بيانه ، لها طابع عقلي.
    وهناك إشكال آخر يتوجّه على رواية الملطي حيث قال: « وهم سمّوا أنفسهم
    1 ـ تعليق « تبيين كذب المفتري » ص 10.
    2 ـ التنبيه والرد ص 26.


(177)
    معتزلة » وهو أنّ لفظ الاعتزال ليس لفظاً يعرب عن المنهج حتّى يطلقوا هذا الاسم على أنفسهم ، إن لم يكن فيه دلالة على ذمّ ما.
3 ـ اعتزال عامر عن مجلس الحسن البصري
    وهناك رواية ثالثة رواها ابن دريد يتحدّث عن بني العنبر قال: « ومن رجالهم في الإسلام عامر بن عبدالله يقال له عامر بن عبد قيس ، وكان عثمان بن عفّان كتب إلى عبدالله بن عامر أن يسيّره إلى الشام ، لأنّه يطعن عليهم وكان من خيار المسلمين وله كلام في التوحيد كثير ، وهو الّذي اعتزل الحسن البصري فسمّوا المعتزلة » (1).
    وروى أبو نعيم بالإسناد عن الحسن البصري أنّه قال: « كان لعامر بن عبدالله بن عبد قيس مجلس في المسجد فتركه حتّى ظننّا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء ، قال: فأتيناه فقلنا له: كان لك مجلس في المسجد فتركته؟ قال: أجل ، إنّه مجلس كثير اللغط والتّخليط ، قال: فأيقّنا أنّه قد ضارع أصحاب الأهواء ، فقلنا: ما تقول فيهم؟ قال: وما عسى أن أقول فيهم... الخ » ، ونقل أبو نعيم الاصفهاني أيضاً أنّه عتب أبو موسى الأشعري (2) عامربن عبد قيس اعتزاله مجلسه الّذي اعتاده في المسجد ، فكتب إليه قائلاً:
     « فإنّي عهدتك على أمر وبلغني أنّك تغيّرت فاتّق الله و عد » (3).
    وقال المعلِّق على كتاب « فضل الاعتزال »: إذا كان ابن دريد و أبو نعيم لم يحدّدا لنا زمن اعتزال عامر بن عبد قيس ، فمن الممكن أن نستنتج أنّه تمّ في خلال تسع سنوات من سنة 35 وهو تأريخ اعتزال جماعة سعد بن أبي وقّاص إذ عناهم الحسن البصري في حديثه ، إلى سنة 44 وهو تأريخ وفاة أبي موسى الأشعري إذ أفاد أبو نعيم أنّه عاتب عامر لاعتزاله مجلسه ».
    1 ـ الاشتقاق ج 1 ص 213 كما في تعاليق « فضل الاعتزال » ص 15.
    2 ـ كان أبو موسى والي الكوفة أواخر خلافة عثمان إلى عام 36 ، حتّى عزله علي ـ عليه السلام ـ لأجل قعوده عن نصرة الامام.
    3 ـ حلية الأولياء: ج 2 ص 93 ـ 95.


(178)
    يلاحظ عليه: أنّ الحسن البصري ولد بالمدينة عام ( 21 ) ، ثمّ سكن البصرة وتوفّي عام ( 110 ) ، فمن البعيد أن يكون له مجلس بحث في المسجد وهو من أبناء العشرين أو دونه ، فلو صحّ ما حدّده المعلّق من زمن الاعتزال يلزم أن يكون له مجلس بحث في المسجد بين أعوام 35 ـ 44 ، ويكون عامر بن عبدالله الشخصيّة المعروفة أحد حضّار بحثه ، وقد قدّر الزركلي في كتابه « الأعلام » وفاة عامر نحو سنة ( 55 ) (1).
    ثمّ إنّ عتب أبي موسى لا يصحّ أن يكون في خلال تسع سنوات بين أعوام 35 ـ 44 لأنّه عزل عن الولاية عام 36 و غادر الكوفة ولم يرجع إليها ، ول ـ مّا أصدر حكمه الجائر في دومة الجندل ضدّ عليّ ـ عليه السلام ـ خاف من انتفاضة الناس و ثورتهم عليه ، وغادرها إلى مكّة المكرّمة ومات بها عام 43 أو 44. ولو صحّ عتابه لكان قبل سنة 36 ، وهذا يستلزم أن تكون للحسن حلقة بحث في أوان البلوغ ، وهو بعيد ، مع وجود وجوه الصّحابة وأكابر التّابعين في الكوفة.
    ثمّ لو صحّت الرواية لما صحّ أن يكون عامر بن عبدالله ، المؤسّس الأوّل لمذهب الاعتزال و إن استعمل في حقّه كلمة الاعتزال ، لأنّ كلمة الاعتزال في تلك العصور كانت رمزاً للتخلّف عن الفكرة السائدة على المجتمع ، فمن خالف الفكرة و انحاز عنها ، أطلق على فعله الاعتزال و على نفسه المعتزل ، ازدراءً به ، وتلك الكلمة بمنزلة الرجعية في أعصارنا هذه ، و ما جاء في تلك الروايات إشارة إلى أنّ هؤلاء اعتزلوا عن السياسة السائدة على المجتمع كما في اعتزال سعدبن أبي وقّاص و نظائره. أو اعتزال جماعة عن الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ أو عن الفكرة الدينيّة كما في الرواية الثالثة. والحقّ في التسمية ما نذكره في القول الرابع وقد تواتر نقله.
4 ـ اعتزال واصل عن مجلس الحسن البصري
    قد عرفت أنّ حكم مرتكب الكبيرة قد أوجد ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة
    1 ـ الأعلام: ج 4 ، ص 21.

(179)
    في عصر عليّ ( عليه السلام ) وبعده ، حيث عدّ الخوارج مرتكب الكبيرة كافراً ، كما عدّه غيرهم مؤمناً فاسقاً ، وعدّت المرجئة من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً مؤمناً. وقد أخذت المسألة لنفسها مجالاً خاصّاً للبحث عدّة قرون. وكان للمسألة في زمن الحسن البصري دويّ خاصّ.
    نقل الشهرستاني أنّه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان ، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان ، ولا يضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الاُمّة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
    فتفكّر الحسن في ذلك و قبل أن يجيب ، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن و لا كافر. ثمّ قام و اعتزل إلى اسطوانة المسجد يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن ، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل ، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة (1).
    و ربّما نسبت هذه الواقعة بشكل آخر إلى « عمرو بن عبيد ». قال ابن خلّكان في ترجمة قتادة السدوسي: « كان قتادة من أنسب الناس كان قد أدرك ذعفلاً و كان يدور البصرة أعلاها و أسفلها بغير قائد فدخل مسجد البصرة ، فإذا بعمرو بن عبيد و نفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري و حلّقوا و ارتفعت أصواتهم ، فأمّهم وهو يظن أنّها حلقة الحسن ، فلمّا صار معهم عرف أنّها ليست هي. فقال: إنّما هؤلاء المعتزلة ، ثمّ قام عنهم فمذ يومئذ سمّوا المعتزلة » (2).
    وتظهر تلك النّظرية من الشيخ المفيد في « أوائل المقالات » حيث قال: « وأمّا المعتزلة وما وسمت به من اسم الاعتزال ، فهو لقب حدث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين ، وما أحدثه واصل بن العطاء من المذهب في ذلك ونصب من الاحتجاج له ،
    1 ـ الفرق بين الفرق: ص 21 ، وفي ذيل عبارته ما يدل على أنّ تسميتهم بها لأمر آخر سيوافيك بيانه.
    2 ـ وفيات الأعيان ج 4 ص 85 رقم الترجمة 541.


(180)
    فتابعه عمرو بن عبيد ، ووافقه على التديّن به من قال بها و من اتّبعهما عليه ، إلى اعتزال الحسن البصري و أصحابه والتحيّز عن مجلسه فسمّاهم الناس المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن بعد أن كانوا من أهله و تفرّدهم بما ذهبوا إليه من هذه المسألة من جميع الاُمّة وسائر العلماء ولم يكن قبل ذلك يعرف الاعتزال ولا كان علماً على فريق من الناس » (1).
    ولولا قوله: « وتفرّدهم بما ذهبوا إليه في هذه المسألة من جميع الاُمّة و سائر العلماء » لكان نصّاً في هذه النظرية ، إلاّ أنّ هذا الذيل يمكن أن يكون إشارة إلى النظرية الأخرى الّتي ستبيّن.
    قد نقل اعتزال واصل حلقة الحسن جماعة كثيرة ، فنقلها المرتضى في أماليه ج 1 ص 167 ، والبغدادي في الفرق بين الفرق ص 118 ، والشهرستاني في الملل و النحل ج 1 ص 48 ، وابن خلكان في وفيات الأعيان ج 6 ص 8 ، والمقريزي في خططه ج 2 ص 346.
    وعلى كلّ تقدير فقد ناقش الدكتور « نيبريج » المستشرق هذه النظرّية بأنّه وردت تسمية هذه المدرسة بأهل الاعتزال بمن قال بالاعتزال ، ولو كان معنى الكلمة ما زعموه لما جاز مثل هذه التسمية ، ثم إنّ لها عدّة نظائر في عرف ذلك الزمان كالمرجئة يرادفها أهل الارجاء وهم الّذين قالوا بالإرجاء ، والرافضة يرادفها أهل الرفض ومن قال بالرفض (2).
    ولعلّ المناقشة في محلّها كما سيظهر مما ننقله عن المسعودي في النّظرية السادسة.
5 ـ الاعتزال عن القولين السائدين في ذلك العصر
    وهناك رأي خامس في تسميتهم بالاعتزال يظهر من شيخ المعتزلة أبي القاسم البلخي ( م 317 ) يقول: « والسبب الّذي له سمّيت المعتزلة بالاعتزال; أنّ الاختلاف
    1 ـ أوائل المقالات ص 5 ـ 6.
    2 ـ مقدمة كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط ص 54.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس