بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 201 ـ 210
(201)
    الوجود والغناء المطلق. هذه هي نظرية الشيعة مقرونة بالدليل الإجمالي ، وقد اقتفوا في ذلك مارسمه علي ( عليه السلام ) فقال: « وكمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله ( بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه ( قرن ذاته بشيء غيرها ) ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله (1)
    وقال الإمام الصادق: « لم يزل الله جلّ وعزّ ، ربّنا والعلم ذاته ، ولا معلوم ، والسمع ذاته ، ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر ، و القدرة ذاته ولا مقدور » (2)
    هذا ما لدى الشيعة ، وأمّا المعتزلة فقد اضطرب كلامهم في المقام ، فالقول المشهور عندهم هي نظرية نيابة الذات عن الصفات ، من دون أنّ تكون هناك صفة ، وذلك لأنّهم رأواأنّ الاّمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين.
    1 ـ لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات كالعلم ، وجب الاعتراف بالتعدد و الإثنينية ، لأنّ واقع الصفات هو المغايرة للموصوف .
    2 ـ إنّ نفي العلم والقدرة و سائر الصفات الكمالية يستلزم النقص في ذاته أولاً ويكذبه اتقان آثاره وأفعاله ثانياً.
    فالمخلَص والفر من هذين المحذورين يتلخّص عندهم في انتخاب نظرية النيابة ، وهي القول بأنّ الذات نائبة مناب الصفات ، و إنّ لم تكن هناك واقعية للصفات وراء الذات ، فما يترقب من الذات المقرونة بالصفة ، يترتب على تلك الذات النائبة مقامها ، هذا هو المشهور عن المعتزلة وإليك نصّ كلام عباد بن سليمان في ذلك المجال قال: « هو عالم قادر ، حىّ ، ولاأثبت له علماً ، ولاقدرةً ، ولا حياةً ، ولا أثبت سمعاً ، ولا أثبت بصراً وأقول هو عالم لابعلم ، قادر لابقدرة ، حىّ لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائر مايسمّى من الأسماء الّتي يسمّى بها (3)
    1 ـ .الرضي: نهج البلاغة: الخطبة (1)
    2 ـ الصدوق: الاتوحيد: 139.
    3 ـ الأشعري: مقالات الإسلاميين 1: 335.

(202)
    يلاحظ: أنّ نظرية النياية المشهورة عن المعتزلة ، مبنية على تخيّل كون الشيء وصفاً ملازم للزيادة دائماً ، فوقعوا بين المحذورين وتخلّصوا بالنيابة ، ومن المعلوم أنّ موجع النيابة إلى خلو الذات عن الكمال أولاً ، وكون الذات الفاقدة للعلم ، نائبة عن الذات المقرونة بها أشبه باللغز.
    نعم ، بعض المعتزلة كأبي هذيل العلاف ( 130 ـ 235 ) ذهب إلى نفس ماذهب الشيعة إليه ، وقد ذكرنا كلامه في الجزء الثاني (1)

2 ـ إحباط الأعمال الصالحة بالطالحة
    الإحباط في عرف المتكلمين عبارة عن بطلان الحسنة ، وعدم ترتب مايتوقع منها عليها ، ويقابله التفكير وهو إسقاط السيئة بعدم جريان مقتضاها عليها فهو في المعصية نقيض الإحباط في الطاعة ، والمعروف عن الإماميّة والأشاعرة هو أنّه لاتحابط بين المعاصي والطاعات والثواب والعقاب ، والمعروف من المعتزلة هو التحاط (2) ، ثمّ إنهم اختلفوا في كيفيته فمنهم من قال :من أنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة وتمحوها بالكلية من دون أنّ يكون لها تأثير في تقليل الإساءة وهو المحكي عن أبي علي الجبائي.
    ومنهم من قال: بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ولكنه يقلل في تأثير الإساءة فينقص الإحسان من الإساءة فيجري العبد بالمقدار الباقي بعد التنقيص ، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.
    ومنهم من قال :إنّ الإساءة المتأخرة تحبط جميع الطاعات وإنّ كانت الإساءة أقل منها ، حتى قيل :إنّ الجمهور من المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الكبيرة الواحدة ، تحبط ثواب
    1 ـ لاحظ بحوث في الملل والنحل 2:84 نقلا عن شرح الاُصل الخمسة للقاضي عبدالجبار: 183 ، ومقالات الإسلاميين: 225.
    2 ـ المفيد: أوائل المقالات: 57. وسيوافيك نصوص المعتزلة في محلها.

(203)
جميع العبادات (1)
    هذا على قول المعتزلة. وأمّا على قول نفاة الإحباط فالمطيع والعاصي يستحق الثواب والعقاب معاً فيعاقب مدّة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنّة.
    نعم ، ثبت الإحباط في موارد نادرة ، كالإرتداد بعد الإسلام ، والشرك المقارن للعمل ، والصدّ عن سبيل الله ، ومجادلة الرسول ومشاقته ، وقتل الأنبياء ، وقتل الآمرين بالقسط ، وإساءة الأدب مع النبي ، والنفاق ، وغير ذلك ممّا شرحناه في الإلهيات (2).

3 ـ خلود مرتكب الكبيرة في النار
    اتّفقت الإماميّة على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفّار خاصّة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلات ، و وافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب وأصحاب الحديث قاطبة ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عامّ في الكفار و جميع فساد أهل الصلاة.
    ويظهر من العلاّمة الحلي أنّ الخلود ليس هو مذهب جميع المعتزلة حيث قال :أجمع المسلمون كافة على أنّ عذاب الكافر مؤبّد لاينقطع ، وأمّا أصحاب الكبائر من المسلمين ، فالوعيدية على أنّه كذلك. وذهبت الإماميّة وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعره إلى أنّ عذاب منقطع (3).
    والظاهر من القاضي عبد الجبار هو الخلود ، واستدل بقوله سبحانه: ( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ ورسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ) ( النساء / 14 ). فالله تعالى
    1 ـ التفتازاني: شرح المقاصد 2: 232 ، القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 625.
    2 ـ حسن مكي العاملي: الإلهيات 1: 870 ـ 874.
    3 ـ العلامة الحلي: كشف المراد: 265.


(204)
    أخير أنّ العصاة يعذّبون بالنار ويخلدون فيها ، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعاً فيجب حمله عليها لأنّه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينة فلمّا لم يبيّنه دلّ على ما ذكرناه.
    فإن قيل: إنّماأراد الله تعالى بالآية الكافر دون الفاسق ، ألاترى إلى قوله تعالى: ( وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) وذلك لايصيوّر إلاّفي الكفرة إلاّفالفاسق لابتعدى حدود الله تعالى أجمع. ثم أجاب عنه فلاحظ كلامه (1)

4 ـ لزوم العمل بالوعيد وعدمه
    المشهور عن المعتزلة أنّهم لا يجوّزون العفو عن المسيء لاستلزامه الخلف ، وأنّه يجب العمل بالوعيد كالعمل بالوعيد ، والظاهر من القاضي أنها نظرية البغدادين من المعتزلة قال: اعلم أنّ البغدادية من أصحابنا أوجبت على الله أنّ يفعل بالعصاة ما يستحقونه لا محال ، وقالت: لايجوز أنّ يعفو عنهم ، فصار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثواب ، فإن الثواب عندهم لايجب إلامن حيث الجود ، وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله بكل حال (2).
    وذهبت الإماميّة إلى جواز العفو عن المسيء إذا مات بلاتوبة ، واستدل الشريف المرتضى بقوله سبحانه: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبِلِهمُ المَثُلتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنَّاسِ َعلَى ظُلْمِهِمْ َوإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الِعقَابِ ) ( الرعد / 6 ).وقال: في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لإنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله: ( على ظلمهم ) جملة حالية إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين ، ويجري ذلك مجرى قول القائل:
    1 ـ القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 675.
    2 ـ القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 644.


(205)
     « أنا أودّ فلانا على غدره ( و ) وأصله على هجره » (1).
    وقد أوضحنا الحال في دلالة الآية وأجبنا عن إشكال القاضي على دلالتها في الإلهيات (2).

5 ـ الشفاعة حطّ الذنوب أوترفيع الدرجة :
    لما ذهبت المعتزلة إلى خلود مرتكب الكبيرة في النار ، وإلى لزوم العمل بالوعيد ، ورأت أنّ آيات الشفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزّل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصّد للآخر حتى يقتله ، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا (3).
    فالشفاعة عندهم عبارة عن ترفيع الدرجة ، فخصوها بالتائبين من المؤمنين وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الإنقاذ من العذاب أو الخروج منه ، قال القاضي: إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع والدلالة على منزلة من المشفوع (4).
    وأمّا عند الشيعة الإماميّة فهو عبارة عن إسقاط العذاب ، قال الشيخ المفيد: اتفقت الإماميّة على أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من اُمته ، وأنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته وأنّ أئمة آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعنهم كثيراً من الخاطئين ، و وافقهم على شفاعة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المرجئة سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف وزعمت أنّ شفاعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للمطيعين دون العاصين
    1 ـ الطبرسي 3: 287.
    2 ـ حسن مكي العاملي: الإلهيات 1: 910.
    3 ـ القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة :688.
    4 ـ القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 689.


(206)
    وأنّه لايشفع في مستحقي العقاب من الخلق أجمعين (1).

6 ـ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر
    إنّ مقترف الكبيرة عند الشيعة والأشاعرة مؤمن فاسق خرج عن طاعة الله. وهو عند الخوارج ، كافر كفر ملة عند جميع فرقهم إلاّ الأباضية فهو عند كافر كفر النعمة ، وأمّا المعتزلة فهو عندهم في منزلة بين المنزلتين قال القاضي: إنّ صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين لايكون اسمه اسم الكافر ، ولا اسم المؤمن فلا يكون حكمه حكم الكافر ولاحكم المؤمن بل يفرد له حكم ثالث. وهذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين ، قال صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان (2).
    وهذا أحد الاُصول الخمسة الّتي عليها يدور رمى الاعتزال ومن أنكر واحداً منها فليس بمعتزلي (3).

7 ـ النسخ جائزٌ ممتنع عند المعتزلة
    اتفق المسلمون على جواز النسخ خلافاً لليهود ، واختلفوا في البداء ، ذهبت الشيعة إلى إمكانه و وقوعه ، خلافاً لغيرهم فقالوا بالامتناع.
    ثم إنّ الّذي صار سبباً للتفريق عند القاضي هو أنّه اشترط في النسخ اُموراً أهمها: أنّ النسخ لايتعلّق بعين ما كان ثابتاً ، بل يتعلّق بمثل ما كان ثابتاً أشار إليها بقوله : النسخ إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية ، بدليل آخر شرعي على وجه لولاه لثبت ، ولم يزل مع تراخيه عنه.
    1 ـ المفيد: أوئل المقالات: 14 ـ 15.
    2 ـ القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: 697.
    3 ـ الخياط: الانصار / 126 ، ومروج الذهب 3 / 222.


(207)
    قال: فاعتبرنا أنّ يكون إزالة مثل الحكم الثابت لأنه لو زال عين ما كان ثابتاً من قبل لم يكن نسخاً بل كان نقضاً ، وهذا بخلاف البداء فإنه يتعلّق بعين ما كان ثابتاً. ومثاله أنّ يقول أحدنا لغلامه: إذا زالت الشمس و دخلت السوق فاشتر اللحم. ثم يقول له: إذا زالت الشمس ودخلت السوق فلا تشتر اللحم ، وهذا هو البدء وإنما سمي به لأنه يقتضي أنّه قد ظهر له من حال اشتراء اللحم ما كان خايفاً عليه كم قبل (1).
    وقال أيضاً: الّذي يدل على البداء ، أنّ يأمر الله جلّ وعزّ بنفس مانهى عنه في وقت واحد على وجه واحد وهذا محال لانجيزه البتة (2).
    نحن لانحوم حول البداء وما هو الفرق بينه وبين النسخ ، فقد أشبعنا الكلام فيه في نحوثنا الكلامية (3).غير أنّ الّذي يتوجّه على كلام القاضي أنّ ما أحاله هو أيضاً من أقسام النسج لا من أقسام البداء المصطلح فإنه على قسمين:
    1 ـ النسخ بعد حضور وقت العمل.
    2 ـ النسخ قبل حضور وقت العمل.
    والّذي أحاله هو القسم الثاني ، وأمّا الوجه الّذي اعتمد عليه فموهون بأنه ربّما تترتّب المصلحة على نفس إنشاء الحكم وإنّ لم يكن العمل به مراداً جدياً كما هو الحال في أمر إبراهيم بذبح ولده ، والأوامر الامتحانية كلها من هذا القبيل فإذا شوهد من الإنسان القيام بمقدّمات الواجب ، ينسخ الحكم ، وعلى كل تقدير فما سماه بداء ، ليس هو محل النزاع بين الإماميّة وغيرهم.
    والبداء عندهم عبارة عن تغيير المصير الأعمال الصالحة أو الطاعة وهو شيء
    1 ـ القاضي عبدالجبار: شرح الاُصول الخمسة: ص 584 ، 585.
    2 ـ رسائل العدل والتوحيد 1 ، رسالة القاضي عبد الجبار / 241.
    3 ـ لاحظ الالهيات :ج 1 ، ص 565.


(208)
    اتفق عليه المسلمون ، ورد به النص في القرآن و النسنة.
    هذه هي حقيقة البداء في عالم الثبوت ، وله أثر في عالم الإثبات وهو أنّه
    ربّما يقف النبي على مقتضي المصير ولايقف على مايغيره ، فيخير به على حسب العلم بالمقتضى ولكن لا يتحقّق لأجلّ تحقّق ما يغيّره ، فيقال هنا: بدا لله والمقصود بداء من الله للعباد كما هو الحال في إخبار يونس عن تعذيب القوم وغير ذلك ، وقد وردت جملة « بدا لله » في صحيح البخاري (1).
    قال الشيخ المفيد: أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من الإفقار بعد الإغناء ، والأمراض بعد الإعفاء وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال وأمّا إطلاق لفظ البداء ، فإنّما صرت إليه لأجلّ السمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله ـ
    عزّ وجلّ ـ وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف ، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه (2).
    وهذا يعرب عن أنّ القوم لم يقفوا على مصطلح الإماميّة في البداء وإلاّ لأصفقوا على جوازه.

8 ـ الواسطة بين الوجود والعدم
    اتفق المفكرون من الفلاسفة و المتكلمين على أنه لاواسطة بين الوجود والعدم كما لا واسطة بين الموجود والعدم ، وإنّ الماهيات قبل اتصفاها بالوجود معدومات حقيقة ، غير أنّ المعتزلة ذهبت إلى انها في حال العدم غير موجود ولا معدوم ، بل متوسط بينهما و هذا هو العروف منهم بالقول بألأحوال .
    قال الشيخ المفيد: المعدوم هو المنفي العين ، الخارج عن صفحة الموجود ، ولا
    1 ـ البخاري: الصحيح 4 / 172 باب حديث « أبرص وأعمى وأاقرع في بني إسرائيل ».
    2 ـ المفيد: أوائل المقالات ، ص 53.


(209)
    أقول: إنّه جسم ولاجوهر ولا عرض ، ولا شيء على الحقيقة ، وإنّ سميته بشيء من هذه الأسماء ، فإنما تسميه به مجازا وهذا مذهب جماعة من بغدادية المعتزلة وأصحاب المخلوق [ كذا ] ، والبلخي يزعم أنّه شيء ولا يسميه بجسم ولا جوهر ولا عرض ، والجبائي وابنه يزرعان أنّ المعدوم شيء وجوهر وعرض ، والخياط يزعم أنّه شيء وعرض وجسم (1).
    وبما أنّه المسألة واضحة جداً لانحوم حولها.

9 ـ التوفيض في الأفعال
    ذهبت المعتزلة الا من شذ كالنجار و أبي الحسين البصري (2) إلى أنّ أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها على سبيل الاستقلال ايجاب (3) بل باختيار.
    قال القاضي: أفعل العباد لايجوز أنّ توصف بأنها من الله تعالى ومن عنده و من قبله ... (4)
    قال السيد الشريف إنّ المعتزلة اسدلوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنّه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار ، لبطل التكليف وبطل التأديب الّذي ورد به الشرع وارتفع المدح والذم إذليس للفعل استناد إلى العبد أصلا ، ولم يبق للبعثة فائدة لأن العباد ليسوا موحدين أفعالهم ، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب (5).
    1 ـ المفيد: أوائل المقالات / 79.
    2 ـ لاحظ حاشية شرح المواقف لعبد الحليم السيالكوتي ، ج 2 ، ص 156.
    3 ـ ولعل قولهم بلا إيجاد اشارة إلى أنّ حال الصدور لايتصف بالوجوب أيضاً. والقاعدة الفلسفية « الشيء مالم يجب لم يوجد » غير مقبولة عندهم.
    4 ـ القاضي عبدالجبار: شرح الأصول الخمسة 778 ، وفي ذيله ما ربّما يوهم خلاف ما هو المشهور غنهم.
    5 ـ السيد الشريف الجرجاني ( ت 886 ) : شرح المواقف ، ج 8 ، ص 156.


(210)
    ثم إنّ نظريتهم في استقلال العبد في الفعل مبنية على مسألة فليسفسة وهو أنّ حاجة الممكن إلى العلّة تنصر في حدوثه ، لافيه وفي بقائه ، وعلى ضوء ذلك قالوا با ستقلال العبد في مقام الإيجاد.
    والمبنى والبناء كلاهما باطلان. أما الافتقار حدوثاً فقط ، فهو لا يجتمع مع كون الإمكان من لوازم الماهية وهي محفوظة حدوثاً وبقاء ، فكيف يجوز الغناء عن الفاعل بقاء.
    قال الحكيم الشيخ محمد حسين الإصفهاني:
والافتقار لازم الإمكان لافرق مابين الحدوث والبقاء من دون حاجة إلى البرهان في لازم الذات ولن يفترقا
    هذا كله حول المبنى في التخلص عن الجبر استناد الفعل إلى الفاعل والخالق معاً ، لكن يكون قدرة المخلوق في طول قدرة الخلق ، ومنشعبة عنها ، وهذا يكفي في الاستناد وصحة الامر والنهي والتأديب والتثويب ، فالجبر والتوفيض باطلان ، والامر بين الامرين هو الحق الصراح ، وقد تواتر عن أئمة أهل
    البيت قولهم :لاجبر وتفويض لكن أمر بين الأمرين (1).
    ثم إنّ الدافع إلى القول بالتفويض هو صيانة عدله سبحانه فزعموا أنّ الصيانه لها رهن ما ذهبت إليه الإماميّة ، ثم انهم و إنّ نزهوا العبد عن الظلم ولكن صورواله شريكا في الايجاد ، ولأجل ذلك قال الامام الرضا ـ عليه السلام:
     « مساكين القدرية أرادوا أنّ يصفوا الله ـ عزّ وجلّ ـ بعدله ، فأخرجوه من قدرته وسلطانه (2).
    1 ـ الصدق: التوحيث 8 ، ولاحظ الأحاديث الاُخرى.
    2 ـ نفس المصدر ، ص 54 ، الحديث 93.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس