بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 251 ـ 260
(251)
    ولو صحّ هذا فلا يصحّ ما ينسب إليه البغدادي من أنّ النظّام كان أفسق خلق الله عزّوجلّ و أجرأهم على الذنوب العظام و على إدمان شرب المسكر. وقد ذكر عبدالله بن قتيبة في كتاب « مختلف الحديث » أنّ النظّام كان يغدو على مسكر و يروح على مسكر وأنشد قوله في المسكر:
ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف حتّى انثنيت ولي روحان في بدن وأستبيح دماً من غير مذبوح والزقّ مطّرح جسم بلا روح
    ثمّ أخذ البغدادي في ذمِّه بكلمات رديئة لا تصلح للنقل ، وقد عدّ البغدادي له أزيد من عشرين فضيحة و جعل بعضها سبباً لكفره ، غير أنّ بعضها ليس بفضيحة و بعضها الآخر لا يوجب الكفر (1) و البغداديّ في هذه التّهم و النّسب ـ كما قال ـ تبع شيخ أصحاب الحديث ابن قتيبة حيث قال: « وجدنا النظّام شاطراً من الشطّار يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على جرائرها و يدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات » ثمّ ذكر البيتين (2).
    أفي ميزان النّصفة الاعتماد على قول الخصم عند القضاء عليه؟.
    وذكر الشهرستاني له مسائل انفرد بها وأنهاها إلى ثلاث عشرة مسألة (3) و في قلمه نزاهة قابلة للتقدير بخلاف البغدادي في الفرق و نذكر نموذجين من هذه الفضائح المزمومة:
    1 ـ قوله بانقسام كلِّ جزء لا إلى نهاية. فزعم البغدادي أنّ نتيجة ذلك القول إحالة كون الله تعالى محيطاً بأجزاء العالم ، عالماً بها ، وذلك قول الله تعالى: ( وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً ) ( الجن / 28 ) (4).
    1 ـ الفرق بين الفرق: ص 131 ـ 150.
    2 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 17 و 18.
    3 ـ الملل والنحل: ج 1 ص 54 ـ 58.
    4 ـ الفرق بين الفرق: ص 139.


(252)
    يلاحظ عليه : أنّ القائل ببطلان تركّب الجسم من أجزاء لا يتجزّأ ، وأنّ كلّ جزء مفروض ينقسم إلى ما لا نهاية له ، لا يعنى به انقسام كلِّ جزء إلى ما لا نهاية له بالفعل ، بحيث يكون في كلِّ ذرة أجزاء فعليّة مترتبة متسلسلة ، بل المراد هو الانقسام بالقوّة ، بمعنى أنّ الانقسام لا ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه عقلاً ، لأنّ ما نفرضه جزءاً غير متجزّئ ، شرقه غير غربه ، فيكون منقسماً بهذا الشّكل إلى ما لا نهاية له ، وإن كان ينتهي إلى جزء لا يمكن تقسيمه حسّاً لأجل ضعف أدوات التّقسيم ، ولكن هذا لا يصدّ التقسيم العقلي و لا يمنع منه.
    وهذا واضح لمن أمعن النّظر في أدلّة القائلين ببطلان الجزء الّذي لا يتجزّأ. فالبغدادي خلط بين مسألة أجزاء غير متناهية بالفعل و مسألة أجزاء غير متناهية بالقوّة ، وما فرضه إشكالاً ـ على فرض صحّته في نفسهـ إنّما يترتّب على الأوّل دون الثّاني ، لأنّ العالم على الفرض الثّاني يكون متناهياً بالفعل ، ويكون سبحانه محيطاً بأجزاء العالم ، عالماً به ، وإن كان غير متناه بالقوّة ، لكن مناط العلم هو الأوّل لا الثّاني.
    و ثانياً: نفرض أنّ العالم له أجزاء غير متناهية ، ولكنّه سبحانه أيضاً موجود غير متناه ، على ما برهن عليه في محلّه ، فلا يشذّ عن حيطة وجوده شيء ، نعم من خصّ وجوده سبحانه بالعرش فوق السّماوات لا محيص له عن توصيفه بالتّناهي والله سبحانه منزّه عن التّناهي وأحكام الممكنات.
    2 ـ قوله بأنّ الإنسان هو الروح و هو جسم لطيف تداخل بهذا الجسم ، ثمّ رتّب عليه على زعمه إشكالات: منها; أنّ الإنسان على هذا لا يرى على الحقيقة و إنّما يرى الجسد الّذي فيه الإنسان.
    ومنها; أنّه يوجب أنّ الصّحابة ما رأوا رسول الله و إنّما رأوا قالباً فيه الرّسول ، إلى غير ذلك من الاشكالات الواهية.
    أقول: لايظهر من القرآن كون الروح هو الجسم اللّطيف المتداخل في البدن ، ولكنّه يظهر منه كون حقيقة الإنسان هي روحه ، وأنّ واقعيَّته و شخصيّته بروحه لا


(253)
    بجسده. قال سبحانه: ( قُلْ يَتَوَفَّيكُمْ مَلَكُ المَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ) ( السجدة / 11 ). إنّ كلمة « التوفّي » لا تعني الاماتة كما هو معروف ، بل تعني الأخذ و القبض ، فقوله سبحانه ( يتوفّاكم ) بمعنى يأخذكم و يقبضكم ، فالآية ظاهرة في أنّ ملك الموت يأخذ الإنسان كلّه ، ويكون محفوظاً عند ربّه ، وهذا إنّما يتمّ ولو كان حقيقة الإنسان هو روحه و نفسه ، لا روحه و جسمه ، وإلاّ يكون المأخوذ بعض الإنسان و جزئه ، لوضوح أنّ ملك الموت يأخذ أحد الجزأين وهو الرّوح و يترك الجزء الآخر وهو يودع في القبر الّذي لا علاقة لملك الموت به.
    وما رتّب البغدادي على نظريّة النظّام من الاشكالات لا يستحقّ الردّ والنّقد.
    إذا عرفت هذين النموذجين الّذين عدّهما البغدادي من فضائح النظّام ـ وليسا منها ـ فعند ذا يتبيّن وجوب دراسة آراء ذلك الرجل في جوّ هادىء بعيد عن الحقد والبغض حتّى يتّضح الحقّ عن الباطل ، مع أنّه لا مصدر لنسبة هذه الآراء إلاّ كتب الأشاعرة و بصورة ناقصة « الانتصار » لأبي الحسين الخيّاط ، وليس كتابنا هذا كتاباً كلاميّاً و إنّما هو كتاب تأريخ العقائد ولأجل ذلك نكتفي بهذا المقدار ، غير أنّه نرى من الواجب التعرّض لعقيدة منسوبة إليه في إعجاز القرآن المعروفة بمذهب الصِّرفة.

النظّام و مذهب الصرفة في إعجاز القرآن
    من الآراء الباطلة الّتي نسبت إلى النظّام ، هو حصر إعجاز القرآن في الاخبار عن المغيبات ، وأمّا التأليف والنّظم فقد كان يجوِّز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع (1). وقد نقل عنه البغدادي في « الفرق » بقوله: « إنّه أنكر إعجاز القرآن فى (2) نظمه ».
    وقال الشهرستاني: « قوله في إعجاز القرآن إنّه من حيث الاخبار عن الاُمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به
    1 ـ مقالات الاسلاميين: ص 225.
    2 ـ الفرق بين الفرق: ص 132.


(254)
    جبراً وتعجيزاً ، حتّى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة و فصاحة و نظماً » (1).
    أقول: لا شكّ أنّ مذهب الصرفة في إعجاز القرآن مذهب مردود بنصّ القرآن وإجماع الاُمّة ، لأنّ مذهب الصرف يرجع إلى أنّ القرآن لم يبلغ في مجال الفصاحة والبلاغة حدّ الإعجاز ، حتّى لا يتمكّن الإنسان العادي من مباراته و مقابلته ، بل هو في هذه الجهة لا يختلف عن كلام الفصحاء و البلغاء ، ولكنّه سبحانه يحول بينهم وبين الإتيان بمثله ، إمّا بصرف دواعيهم عن المعارضة ، أو بسلب قدرتهم عند المقابلة.
    ومن المعلوم أنّ تفسير إعجاز القرآن بمثل هذا باطل جدّاً لأنّ القرآن عند المسلمين معجز لكونه خارق للعادة لما فيه من ضروب الإعجاز في الجوانب الأربعة: 1 ـ الفصاحة القصوى 2 ـ البلاغة العليا 3 ـ النظم المخصوص 4 ـ الاُسلوب البديع. فقد تجاوز عن حدِّ الكلام البشري و وصل إلى حدّ لا تكفي في الاتيان بمثله القدرةُ البشريّة.
    يقول الطّبرسى في تفسير قوله: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَ الجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً ) ( الإسراء / 88 ) « معناه قل يا محمد لهؤلاء الكفّار: لئن اجتمعت الإنس و الجنّ متعاونين متعاضدين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن من فصاحته و بلاغته و نظمه على الوجوه الّتي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة و الدرجة القصوى من حسن النظم وجودة المعاني و تهذيب العبارة.. لعجزوا عن ذلك ولم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً » (2).
    إنّ مذهب الصرفة كمذهب الصّدفة لدى المادِّيين في الوهن و البطلان ، فإنّه سبحانه أرفع شأناً من أن يأمر الإنسان والجنّ بأن يباروا القرآن ، ويرضى منهم بمباراة بعضه لو تعذّر عليهم الكلّ ، ثمّ يعترض سبيلهم و يصرف منهم القوّة والهمّة و يمنعهم
    1 ـ الملل والنحل: ج 1 ص 56 ـ 57.
    2 ـ مجمع البيان: ج 6 ص 676.


(255)
    من أن يأتوا بما أراد منهم مع قدرتهم عليه قبل عزم المباراة والمقابلة.
    ولو صحّ وجه إعجازه في الصّرفة ، فيتمّ حتّى مع كونه كلاماً مغسولاً من الفصاحة ، ومبذولاً مرذولاً للغاية ، وكلّما حاول الإنسان أن يقابله ، صرفت دواعيه وسلبت قدرته عن الاتيان بمثله ، هوكما ترى (1).
مؤلّفاته
    مع أنّه كثر اللّغط والصّياح حول آراء النظّام (2) فطبع الحال يقتضي أن يكون له عشرات المؤلّفات ، غير أنّه لم يصل من أسماء مؤلّفاته إلينا أزيد ممّا يلي:
    1 ـ التّوحيد2 ـ العالم (3) 3 ـ الجزء (4) 4 ـ كتاب الردّ على الثنويّة (5).
    ومن أراد أن يرجع إلى متفرِّداتهـ إن صحّت النّسبة ـ فليرجع إلى « الملل والنحل » للشهرستاني ، فإنّه جمعها تحت ثلاث عشرة مسألة ، مع النزاهة و رعاية أدب البحث ، خلافاً للبغدادي ، فإنّ كلامه بعيد عن الأدب.

5 ـ أبو علي محمّد بن عبدالوهّاب الجبّائي ( ت 235 ـ م 303 )
    هو أحد أئمّة المعتزلة في عصره ، وإماماً في كلامه و يعرّفه ابن النديم في فهرسته بقوله: « هو من معتزلة البصرة ، ذلّل الكلام و سهّله و يسّر ما صعب منه ، وإليه انتهت رئاسة البصريّين في زمانه ، لا يدافع في ذلك. وأخذ عن أبي يعقوب الشحّام. ورد البصرة
    1 ـ ومن أراد البحث حول تلك النظرية فعليه الرجوع إلى المصادر التالية: أوائل المقالات للشيخ المفيد ص 31 ، بحار الأنوار: ج 12 ، ص 1 ـ 32. المعجزة الخالدة للعلامة الشهرستاني ص 92 ـ 93. مقال للكاتب الفكيكي في مجلّة رسالة الإسلام ، العدد الثالث من السنة الثالثة ، والعدد الأول من السنة الرابعة. الجزء الثاني من الإلهيات من محاضراتنا الكلامية التي قام بتحريرها الشيخ الفاضل حسن مكي العاملي.
    2 ـ ألّف محمد عبد الهادي أبو ريدة كتاباً مستقلاً حول آراء النظام وأسماه « إبراهيم بن سيار النظام » وطبع عام 1365 بالقاهرة وقد جمع آراءه عن مصادر مطبوعة ومخطوطة.
    3 ـ ذكرهما أبو الحسين الخياط ( م 311 ) في الانتصار ص 14 ـ 172.
    4 ـ مقالات الاسلاميين: ج 2 ص 316.
    5 ـ الفرق بين الفرق: ص 134.


(256)
    و تكلّم مع من بها من المتكلّمين ، وصار إلى بغداد ، فحضر مجلس أبي...الضّرير و تكلّم فتبيّن فضله و علمه ، وعاد إلى العسكر ومولده سنة 235 هـ وتوفّي سنة 303 هـ » (1).
    وقال ابن خلّكان: « إنّه أحد أئمّة المعتزلة ، كان إماماً في علم الكلام ، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبدالله الشحّام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره. له في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة و عنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام وله معه مناظرة روتها العلماء » (2).
    قال الياقوت: « الجبّائي منسوب إلى « جبّا » بضمّ الجيم و تشديد الباء: بلد أو كورة من خوزستان ، و من الناس من جعل عبّادان من هذه الكورة و هي في طرف من البصرة و الأهواز ، حتّى جعل من لا خبرة له « جبّا » من أعمال البصرة و ليس الأمر كذلك ـ إلى أن قال ـ : « جبّا » في الأصل عجمي وكان القياس أن ينسب إليها جُبّوي ، فنسبوا إليها جبّائي على غير قياس مثل نسبتهم إلى الممدود ، وليس فى كلام العجم ممدود ، وجبّا أيضاً من أعمال النّهروان » (3).
    وقد أثنى عليه ابن المرتضى في « المنية والأمل » بما لا مزيد عليه فقال: « وهو الّذي سهّل علم الكلام و يسّره و ذلّله وكان مع ذلك فقيهاً ورعاً زاهداً جليلاً نبيلاً ، ولم يتّفق لأحد من إذعان سائر طبقات المعتزلة له بالتقدّم و الرئاسة بعد أبي الهذيل مثله ، بل ما اتّفق له هو أشهر أمراً و أظهر أثراً ، وكان شيخه أبا يعقوب الشحّام ، ولقى غيره من متكلّمي زمانه و كان على حداثة سنّه معروفاً بقوّة الجدل » (4).

مناظراته
    1 ـ حضر من علماء المجبِّرة رجل يقال له صقر. فإذا غلام أبيض الوجه زجّ
    1 ـ فهرست ابن النديم الفن الأول من المقالة الخامسة ص 217 ـ 218.
    2 ـ لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 18.
    3 ـ معجم البلدان: ج 2 ص 96 ـ 97 طبع التراث العربي.
    4 ـ المنية والأمل: ص 45.


(257)
    نفسه في صدر صقر و قال له: أسألك؟ فنظر إليه الحاضرون و تعجّبوا من جرأته مع صغر سنّه. فقال له: سل ، فقال: هل الله تعالى يفعل العدل؟ قال: نعم ، قال: أفتسمّيه بفعله العدل عادلاً ؟ قال: نعم ، قال: فهل يفعل الجور؟ قال: نعم ، قال: أفتسمّيه جائراً؟ قال: لا ، قال: فيلزم أن لا تسمّيه بفعله العدل عادلاً ، فانقطع صقر ، وجعل الناس يسألون من هذا الصّبي؟ فقيل: هو غلام من جبّاء (1).
    يلاحظ على تلك المناظرة: أنّه في وسع المجبِّر أن يقول: إن أسماءه سبحانه توقيفيّة ولا يصحّ لنا تسميته بما لا يسمّي به نفسه.
    2 ـ روى ابن المرتضى أنّ أبا عليّ ناظر بعضهم في الإرجاء و أبو حنيفة و الزبير حاضران ، فقال أبو حنيفة: إنّ أبا عمرو بن العلاء لقي عمرو بن عبيد ، فقال له: يا أبا عثمان إنّك أعجميّ ولست بأعجميّ اللّسان و لكنّك أعجميّ الفهم. إنّ العرب إذا وعدت أنجزت ، وإذا أوعدت أخلفت و أنشد شعراً:
إنّي و إن أوعدته و وعدته لمخلف إيعادي ، ومنجز موعدي
    فقال أبو عليّ: إنّ أبا عثمان أجابه بالمسكت وقال له: إنّ الشاعر قد يكذب وقد يصدق ، ولكن حدّثني عن قول الله عزّ و جلّ: ( لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ( هود / 119 ، السجدة / 13 ) إن ملأها أتقول صدق؟ قال: نعم ، وإن لم يملأها أفتقول صدق ؟ فسكت أبو حنيفة.
    يلاحظ عليه: أنّه سبحانه إنّما يخلف بما أوعده إذا عفا عن الكافر والمشرك والمسلم جميعاً ، وأمّا إذا عفا عن المسلمين خاصّة فلا يلزم الكذب ، لأنّه لا يستلزم خلف الايعاد الوارد في الآية المباركة ، ولا يلزم خلوّ جهنّم من الجنّة و النّاس الّذي أشار الله إليه بقوله: ( لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ، لأنّ من يجري عليه العفو أقلّ ممّن يكون محكوماً بدخول الجحيم ، وليس القائل بالعفو يقول بأنّ العفو يعمّ كلّ
    1 ـ المنية والأمل: ص 46.

(258)
    كافر و مشرك ومسلم ، وإنّما يتحقّق في إطار محدود و مضيّق. كيف وقد وعد سبحانه على وجه الجزم و القطع بقوله: ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ ) ( النساء / 48 ) وليس المراد من الغفران هو المغفرة لأجل التّوبة ، لأنّ الغفران بعد التوبة يعمّ المشرك و غيره ، وإنّما المراد هو الغفران و المغفرة بلا توبة و إنابة ، والمشرك و المنافق لا يعمّهما العفو أبداً و يكفي ذلك في تحقّق وعيد الربّ و صدق إخباره ( لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ ).
    وخلاصة القول: أنّ القائل بالعفو في مورد الايعاد يدّعي قضيّة جزئيّة لا قضيّة كلّيّة استيعابيّة ، وللبحث صلة تمرّ عليك عند البحث عن اُصول المعتزلة فارتقب.
    ثمّ إنّ في وسع أبي عليّ أن يقابل شعر المناظر بشعر شاعر آخر وينشد قوله:
إنّ أبا ثابت لمجتمع الرأي لا يخلف الوعد والوعيد ولا شريف الآباء و البيت يبيت من ثاره على فوت (1)
تأليفاته
    يظهر ممّا نقله ابن المرتضى أنّه غزير الإنتاج. قال: قال أبو الحسين: « وكان أصحابنا يقولون: إنّهم حرّروا ما أملاه أبو عليّ فوجدوه مائة ألف و خمسين ألف ورقة ، قال: وما رأيته ينظر في كتاب إلاّ يوماً نظر في زيج الخوارزمي ، ورأيته يوماً أخذ بيده جزءاً من الجامع الكبير لمحمّد بن الحسن و كان يقول: إنّ الكلام أسهل شيء ، لأنّ العقل يدلّ عليه » (2).
    يلاحظ عليه: أنّ علم الكلام كما يستمدّ من العقل ، يستمدّ من الكتاب و السنّة الصّحيحة خصوصاً فيما يرجع إلى ما بعد الموت ، وأنّ الاستبداد بالعقل الشخصي من دون المراجعة لآراء من سبق من الأعاظم لا ينتج شيئاً ناضجاً. فكما أنّ التقاء الأسلاك
    1 ـ المنية والأمل: ص 48.
    2 ـ نفس المصدر : ص 47.


(259)
    الكهربائيّة يوجب تفجّر النور والطاقة ، فهكذا التقاء الأفكار والآراء يوجب اكتساح ظلمات الجهل عن أمام المفكّر.
    ويظهر من ابن المرتضى في ترجمة الأصمّ أنّ لأبي عليّ تفسيراً ، قال: « وكان أبو عليّ لا يذكر أحداً في تفسيره إلاّ الأصمّ » (1) ومن المحتمل أن يكون المقصود أنّه لا يذكر من آراء الرجال في التفسير شيئاً إلاّ عن الأصمّ.
    ويظهر أيضاً منه ـ في ترجمة أبي محمّد عبدالله بن العبّاس الرامهرمزي تلميذه ـ أنّ لأبي عليّ كتباً في الردّ على أهل النجوم ، ويذكر أنّ كثيراً منها يجري مجرى الأمارات الّتي يغلب الظنّ عندها (2).
    كما يظهر منه ـ في ترجمة الخراسانيّين الثّلاثة الّذين خرّجوا على أبي عليّ و أخذوا عنهـ أنّ أبا عليّ أملى كتاب « اللّطيف » لأبي الفضل الخجندي ، ثالث الخراسانيّين (3).
    ونقل ابن عساكر في « تبيين كذب المفتري » عن الشيخ الأشعري أنّ له كتاباً في الردّ على كتاب « الاُصول » لاُستاذه أبي عليّ الجبّائي (4).
    إلى غير ذلك ممّا أهمل أرباب التراجم ذكره في ترجمته.
لمحة من أحواله
    روى ابن المرتضى وقال: قال أبو الحسن: « وكان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً ـ إلى أنّ قال ـ : وكان إذا روى عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال لعليّ والحسن والحسين وفاطمة: « أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم » يقول: العجب من هؤلاء النوابت (5)يروون هذا الحديث ثمّ يقولون بمعاوية » (6).
    وروى عن عليّ ( عليه السلام ) أنّ رجلين أتياه فقالا: ائذن لنا أن نصير إلى معاوية
    1 ـ المنية والأمل: ص 33.
    2 ـ نفس المصدر : ص 58.
    3 ـ نفس المصدر : ص 65.
    4 ـ تبيين كذب المفتري: ص 130.
    5 ـ تطلق على الحشوية ومن لفّ لفّهم.
    6 ـ المنية والأمل: ص 47.


(260)
    فنستحلّه من دماء من قتلنا من أصحابه. فقال عليّ ( عليه السلام ) : « أما إنّ الله قد أحبط عملكما بندمكما على ما فعلتما » (1).
    قال أبو الحسن: « والرافضة لجهلهم بأبي عليّ و مذهبه يرمونه بالنّصب و كيف وقد نقض كتاب عبّاد في تفضيل أبي بكر ، ولم ينقض كتاب الاسكافي المسمّى « المعيار والموازنة في تفضيل عليّ على أبي بكر » (2).
    إنّ العالم العابد رضي الدين بن طاووس ( المتوفّى سنة 664 ) نقل كثيراً من آرائه في كتاب « سعد السعود » و نقضه ، ولو صحّت نسبة تلك الآراء إليه فهو مبغض للشيعة وقد أنكر كثيراً من الحقائق التأريخية فراجعه.

5 ـ أبو هاشم الجبائي ( ت 277 ـ م 321 )
    عبدالسلام بن محمّد بن عبدالوهّاب بن أبي عليّ الجبائي ، قال الخطيب: « شيخ المعتزلة و مصنّف الكتب على مذاهبهم. سكن بغداد إلى حين وفاته » (3).
    وقال ابن خلّكان: « المتكّلم المشهور ، العالم بن العالم ، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ولهما مقالات على مذهب الاعتزال ، وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما. وكان له ولد يسمّى أبا عليّ و كان عامّياً لا يعرف شيئاً. فدخل يوماً على الصاحب بن عبّاد فظنّه عالماً فأكرمه ورفع مرتبته. ثمّ سأله عن مسألة ، فقال: « لا أعرف نصف العلم » ، فقال له الصاحب: « صدقت يا ولدي ، إلاّ أنّ أباك تقدّم بالنصف الآخر » (4).
    وقد حكى الخطيب عنه تأريخ ولادته ، أنّه قال: « ولدت سنة سبع و سبعين ومائتين و ولد أبي أبو عليّ سنة خمس و ثلاثين و مائتين و مات في شعبان سنة ثلاث
    1 ـ المنية والأمل: ص 47.
    2 ـ المنية والأمل: ص 47.
    3 ـ تاريخ بغداد: ج 11 ، ص 55.
    4 ـ وفيات الأعيان: ج 3 ، ص 183.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس