بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 321 ـ 330
(321)
    حملها على ذاته ، وكان قولنا: « الله الواجب » بمثابة حمل الشيء على نفسه ».
    6 ـ وقال أيضاً: « لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحداً » (1).
    يلاحظ عليه: أنّ الاشكالين من الوهن بمكان ، حتّى إنّ المستشكل لم يقبله. وأساس الاشكال هو الخلط بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة ، والقائل يقول بالثاني لا بالأوّل. ولأجل ذلك يقول الايجي في دفع الاشكال الأوّل: « وفيه نظر ، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات ، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا ».
    وعند ذلك يصحّ لشيخ الاعتزال أن يتمثّل و يقول:
وكم من عائب قولاً صحيحا وآفته من الفهم السقيم
كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في عينيّة الصفات مع الذات
    قد ورد في خطب الإمام ( عليه السلام ) ما يدلّ على نفي زيادة الصفات لله تعالى بأبلغ وجه و آكده حيث قال في خطبة من خطبه المشهورة: « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصِّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصِّفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمّنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه » (2).
    وتوضيح هذه الجمل الدّريّة تدفعنا إلى البسط في الكلام ولكنّ المقام لا يقتضيه وإنّما نشير إلى بعضها.
    1 ـ المواقف: ص 280.
    2 ـ نهج البلاغة: الخطبة الاُولى.


(322)
    قال ـ عليه السلام ـ : « وكمال توحيده الاخلاص له » ، يريد تخليصه سبحانه من الزوائد والثواني حتّى لا يكون خليطاً مع غيره ، ثمّ فرّع على ذلك قوله: « وكمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه » يريد نفي الصّفات الّتي وجودها غير وجود الذات لا نفي حقائقها عن ذاته ، فإنّ ذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكماليّة و الأوصاف الإلهيّة من دون قيام أمر زائد على ذاته ، فعلمه وقدرته و.... كلُّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة مع أنّ مفاهيمها متغايرة.
    وقال ( عليه السلام ) : « لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف... الخ » إشارة إلى برهان نفي الصفات العارضة ، سواء فرضت قديمة كما عليه الكلابيّة و الأشاعرة أو حادثة. فإنّ الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف بها.
    فعندئذ يترتّب عليه قول: « فمن وصفه فقد قرنه » أي من وصفه بصفة زائدة فقد قرنه بغيره ، فان كان ذلك الغير مستقلاّ ً في الوجود يلزم أن يكون له ثان في الوجود ، وإن كان غير مستقلّ فبما أنّه جزء له فقد جعله مركّباً ذا جزأين و إليه يشير بقوله: « ومن ثنّاه فقد جزّأه » ومن المعلوم أنّ من جزّأه فقد جهله ، ولم يعرفه على ما هو عليه. ومن جهله بهذا المعنى فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، لأنّ الاشارة إلى الشيء حسّيّة كانت أو عقليّة تستلزم جعله محدوداً بحدّ خاصّ ، ومن حدّه بحد معيّن فقد جعله واحداً بالعدد ـ إلى آخر ما أفاده.
    هذا هو توضيح نظريّة أبي الهذيل وهو المختار لدى الإماميّة وعليه خطب الإمام وكلمات أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وعندئذ يحين وقت إيضاح النظرية الثانية المنسوبة إلى أبي علي الجبّائي.
توضيح مذهب أبي عليّ الجبّائي
    إنّ أبا عليّ الجبّائي يقول: إنّه تعالى يستحقّ هذه الصّفات الأربع الّتي هي كونه قادراً عالماً حيّاً موجوداً لذاته. فهو يهدف إلى نظريّة اُخرى يليق أن يتّهم معها


(323)
بالتعطيل
    وقد أوضح الشهرستاني الفرق بين هذه النظرية و النظرية السابقة بقوله: « والفرق بين قول القائل: « عالم بذاته لا بعلم » وبين قول القائل: « عالم بعلم هو ذاته » ، أنّ الأوّل هو نفي الصفة ، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة ، أو إثبات صفة هي بعينها ذات » (1).
    ولقد أحسن في التّوضيح و أصاب الغرض. فعلى هذا القول ليست الذات واجدة لواقعيات الصّفات ، غير أنّ ما يترقّب من الذات المتصفة بها ، يترتّب على ذاته سبحانه و إن لم تكن هناك تلك الصفات. مثلاً أثر الذات الموصوفة بالعلم هو إتقان الفعل وهو يترتّب على ذاته سبحانه بلا وجود وصف العلم فيه ، وقد اشتهر عندهم « خذ الغايات واترك المبادئ ».
    وصاحب النظريّة توفّق في الجمع بين الأمرين الخطيرين. فمن جانب اتّفقت الشرائع السماويّة على أنّه سبحانه عالم حيّ قادر. ومن جانب آخر واقعية الصفة لا تنفكّ عن القيام بالغير بحيث لو لم تكن قائمة به لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يدور الأمر بين الاُمور التالية:
    1 ـ نفي كونه عالماً قادراً حيّاً.... وهذا يكذّبه اتّفاق الشرائع السماوية ووجود آثار الصفات في أفعاله من الإتقان والنظم البارزين.
    2 ـ كون صفاته زائدة على ذاته وهو يستلزم المفاسد السابقة من تعدّد القدماء وغيره.
    3 ـ كون صفاته عين ذاته كما عليه شيخ المعتزلة في عصره « أبي الهذيل » وهو لا يتّفق مع واقعيّة الصِّفات ، فإنّ واقعيّتها نفس قيامها بالغير لا صيرورتها نفسه ، فتعيّن القول التالي:
    4 ـ كون ذاته نائبة مناب الصّفات وإن لم تكن هناك واقعيّتها. وممّن اختار هذا
    1 ـ الملل والنحل: ج 1 ص 50.

(324)
    القول قبل الجبّائي هو عبّاد بن سليمان المعتزلي. قال: « هو عالم ، قادر ، حيّ ، ولا أثبت له علماً ، ولا قدرة ، ولا حياة ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول: هو عالم لا بعلم ، وقادر لا بقدرة ، وحىُّ لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائر ما يسمّى به من الأسماء الّتي يسمّى بها » (1).
تقييم نظريّة النيابة
    إنّ هذه النظريّة من الوهن بمكان ، فإنّ أبا عليّ لو تأمّل في واقعيّة الصفات الكماليّة لما أصرّ على أنّ واقعيّتها في جميع المجالات و المراحل ، واقعية القيام بالغير. وإنّما هي واقعيتها في بعض المراتب كعلم الإنسان و قدرته و حياته ، وليس في جميع المراتب كذلك. وذلك لأنّ الكمالات ترجع إلى الوجود ، وله شؤون و عرض عريض. فكما أنّ منه وجوداً رابطاً و رابطيّاً و جوهراً ، فكذا العلم. فمنه عرض قائم بالغير ، ومنه جوهر قائم في نفسه كعلم الإنسان المدرك بذاته ، ومنه ممكن ومنه واجب ، وهكذا سائر الصفِّات. وعلى ذلك فالاصرار على واقعيّة واحدة تجمع شتات العلم ، إصرار في غير محلِّه. فإنّ للعلم و كلّ كمال مثله ، إطارات و قوالب و مظاهر و مجالات تختلف حسب اختلاف المراتب.
    إذا وقفت على مذهب الوالد ( أبي عليّ ) فهلمّ معي ندرس مذهب الولد في باب حمل الصفِّات الذاتية عليه سبحانه.
مذهب أبي هاشم
    إنّ لأبي هاشم في كيفيّة استحقاق الصفِّات مذهباً خاصّاً عبّر عنه القاضي بقوله: « وعند أبي هاشم يستحقّها لما هو عليه في ذاته » وعبّر عن نظرية أبيه بقوله: « إنّه
    1 ـ مقالات الاسلاميين: ج 1 ، ص 225. نعم نقل القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 183 رأياً آخر لسليمان بن جرير وهو غير عباد بن سليمان فلا يختلط عليك الأمر.

(325)
    يستحقّها القديم تعالى لذاته » (1).
    وقد حاول البغدادي تبيين الفرق بقوله: « إنّ أبا عليّ جعل نفس الباري علّة لكونه عالماً و قادراً ، وخالف أبو هاشم أباه و زعم أنّ الله عالم لكونه على حال ، قادر لكونه على حال وزعم أنّ له في كلِّ معلوم حالاً مخصوصاً ، وفي كلِّ مقدور حالاً مخصوصاً. وزعم أنّ الأحوال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا أشياء » (2).
    و أوضحه الشهرستاني بقوله: « قال الجبّائي: عالم لذاته ، قادر حيّ لذاته ، ومعنى قوله: « لذاته » أي لا يقتضي كونه عالماً ، صفة هي علم أو حال توجب كونه عالماً ، وعند أبي هاشم: « هو عالم لذاته » بمعنى أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً ، وإنّما تعلم الصِّفة على الذات ، لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة ، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذّات » (3).
    وأنت تعلم أنّ هذه المحاولات تزيد في الغموض ، وقد أصبحت نظريّته لغزاً من الألغاز لم يقف عليه أحد. قال الشريف المرتضى: « سمعت الشيخ المفيد يقول: ثلاثة أشياء لا تعقل وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلِّ حيلة ، فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يناقض المعنى فيها مفهوم الكلام: اتّحاد النّصرانية ( التثليت مع ادّعاء الوحدة ) ، وكسب النّجارية و أحوال البهشميّة » (4).
ممّا يقال ولا حقيقة عنده الكسب عند الأشعري والحال معقولة تدنو إلى الأفهام عند البهشمي وطفرة النظام(5)

    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 129.
    2 ـ اُصول الدين للبغدادي: ص 92.
    3 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 82.
    4 ـ الفصول المختارة: ص 128.
    5 ـ القضاء والقدر ، لعبد الكريم الخطيب: ص 185.


(326)
    وبما أنّ تحقيق نظريته مبنيّ على تحقيق « الأحوال » الّتي يتبنّاها أبو هاشم فلنكتف بهذا المقدار.
    هذا كلّه حول المسألة الاُولى الّتي تركِّز المعتزلة عليها عند البحث عن الأصل الأوّل ( التوحيد ) وإليك البحث في المسألة الثانية الّتي يركّزون عليها في إطار هذا الأصل ، وهي تبيين كيفيّة حمل الصفّات الخبريّة عليه سبحانه.

ب ـ المعتزلة وحمل الصفات الخبريّة (1)
    قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتيّة و صفات خبريّة ، فتوصيفه سبحانه بالعلم والقدرة توصيف بصفات ذاتيّة ، كما أنّ توصيفه بما دلّ عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالوجه واليدين صفات خبريّة.
    وأمّا عقيدة المعتزلة في هذه الصفِّات ، فقد وصفها الشيخ الأشعري فى كتابه بأحسن وجه. وإليك نصّ كلامه:
     « أجمعت المعتزلة على أنّ الله واحد ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ، وليس بجسم ، ولا شبح ، ولا جثّة ، ولا صورة لحم ولا دم ، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسّة ، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ، ولا طول ولا عرض ولا عمق ، ولا اجتماع ولا افتراق. ولا يتحرّك ولا يسكن ولا يتبعّض ، ولا بذي أبعاض و أجزاء و جوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ولا بذي يمين و شمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسّة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ، ولا يوصف بأنّه متناه ، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات ، وليس بمحدود ، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الأقدار ، ولا تحجبه الأستار ، ولا تدركه
    1 ـ هذه هي النقطة الثانية التي تركّز عليها المعتزلة في هذا الأصل.

(327)
    الحواسّ ولا يقاس بالناس ، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ، ولا تحلّ به العاهات ، وكلّ ما خطر بالبال ، وتصوّر بالوهم فغير مشبه له. لم يزل أوّلاً ، سابقاً ، متقدّما للمحدثات ، موجوداً قبل المخلوقات ، ولم يزل عالماً قادراً حيّاً ولا يزال كذلك. لا تراه العيون ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا يسمع بالأسماع ، شيء لا كالأشياء ، عالم قادر حيّ لا كالعلماء القادرين الأحياء. وإنّه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه ، ولا شريك له في ملكه ، ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سبق ، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه ، ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضارّ ، ولا يناله السرور واللذات ، ولا يصل إليه الأذى و الآلام ، ليس بذي غاية فيتناهى ، ولا يجوز عليه الفناء ، ولا يلحقه العجز والنقص ، تقدّس عن ملامسة النساء ، وعن اتّخاذ الصاحبة والأبناء ، قال: فهذه جملة قولهم في التّوحيد » (1).
    والسابر في نهج البلاغة يقف على أنّ المعتزلة أخذت جلّ هذه الكلمات من خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لكن باختلاف في التعبير والألفاظ.
    وقد ذكرت المعتزلة وغيرهم دليلاً عقليّاً على تنزيهه سبحانه عن هذه الصفِّات ، خلاصته: أنّه سبحانه ليس مادّة ولا ماديّاً ولا مركّباً منهما ، وما ليس كذلك يمتنع عليه هذه الصفات. فمن يُثبت له حركة أو سكوناً أو يداً أو رجلاً فلا منتدح له عن القول بكونه جسماً أو جسمانياً.
    هذا هو الحقّ القراح الّذي لا يشكّ فيه مسلم واع. إنّما الكلام في تفسير ما ورد من النُّصوص المشتملة بظواهرها على هذه الصفِّات. وهذه النقطة هي المخمصة الكبرى للمعتزلة. فلابدّ لهم من الجمع ما بين العقل والنّقل بوجه يقبله العقل ، ولا
    1 ـ مقالات الاسلاميين للاشعري: ص 155 ـ 156. وقد كتب أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي ( م 449 ) قائمة تشتمل على اُصول التنزيه على مذهب الامامية أسماها « البيان عن جمل اعتقاد أهل الايمان » فمن أراد فليرجع إلى كنز الفوائد ، ج 1 ، ص 240 ط بيروت.

(328)
    يكذّبه النقل.
    ثمّ إنّ للباحثين من المتكلِّمين و أهل الحديث في المقام طرقاً نشير إليها:
    الأوّل : الإثبات مع التّشبيه والتّكييف.
    الثّاني : الإثبات بلا تشبيه ولا تكييف.
    الثالث : التفويض.
    الرابع : التّأويل.
    وقد بحثنا عن الوجوه الثّلاثة الاُول في الجزء الثاني ، وهي خيرة أهل الحديث والأشاعرة. والأمر الرابع هو خيرة المعتزلة. ولأجل ذلك يسمّون المؤوّلة ، فيؤوّلون الآيات المشتملة على اليد والوجه والاستيلاء وغير ذلك ، ولنا هنا كلمة موجزة وهي:
    إنّ التأويل على قسمين: قسم يرفضه الكتاب ولا يرضى به العقل وهو تأويل النصوص القرآنيّة والأحاديث المتواترة بحجّة أنّها تخالف العقل الصّريح فقط ، وهذا رأي عازب ، بل فكرة خاطئة. فإنّ ظواهر الكتاب والنصوص الصحيحة لا يمكن أن تكون مخالفة للعقل.
    ولقد كذب من قال من المؤوّلة: إنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من اُصول الكفر أو إنّ التمسّك في اُصول العقائد بمجّرد ظواهر الكتاب والسنّة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية (1).
    فإنّ هؤلاء لم يعرفوا موقف الكتاب والسنّة الصحيحة ، فإنّ من الممتنع أن يشتمل الكتاب الهادي على ما يضادّ العقل الصحيح. وهو القائل ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ) ( محمد / 24 ).
    وقسم يراد منه تمييز الظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي ، وتمييز الظاهر البدوي عن الظاهر الاستمراري ( ما يستقرّ في الذهن بعد التدبّر ) ومثل هذا لا يتحقّق إلاّ
    1 ـ علاقة الاثبات والتفويض: ص 67 ، نقلاً عن الصاوي على تفسير الجلالين ج 3 ، ص 10 وغيره.

(329)
    بالتأمّل في نفس الآية الكريمة و ما احتفّ بها من القرائن اللفظية أو ما جاء في الآيات الأخر. وهذا القسم لو صحّت تسميته بالتأويل ، تأويل مقبول. كيف وهو ليس بتأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره والأخذ بخلاف الظاهر ، بل واقعيته تحديد ظاهر الكلام ، وتعيينه. وهذا من خواصّ كلِّ كلام مشتمل على نكات بديعة و معاني رفيعة ألقي لهداية الناس باختلاف طبقاتهم و تعدّد ثقافاتهم. ومثل هذا لو صحّ عليه أنّه أخذ بخلاف الظاهر فإنّما هو أخذ بخلاف الظاهر الحرفي و رفض لظاهره الابتدائي. وأمّا الظاهر التصديقي والاستمراري فهو عين الأخذ به. ونمثِّل لك مثالاً:
    إذا قال القائل في تبيين سماحة شخص وجوده: « فلان كثير الرّماد » فهناك ظاهر حرفي و ظاهر تصديقي ، كما أنّ هناك ظاهراً بدئياً و ظاهراً استمراريّاً.
    فالأوّل مرفوض جدّاً ، فإنّ كثرة الرّماد في البيت لو لم يكن ذمّاً لا يكون مدحاً ، مع أنّ القائل بصدد المدح.
    والثاني مقبول عند العقلاء وعليه يدور رحى الفصاحة والبلاغة و إلقاء الخطب الرنانّة و إنشاء الكلم اللّذيذة على الأسماع.

المعتزلة بين التأويل المرفوض و المقبول
    إنّ المعتزلة في تفسير الآيات الواردة في مجال الصفِّات بين تأويل مرفوض ، وتأويل مقبول. فتارة يؤوّلون الكلام بحجّة أنّه يخالف العقل ولا يذكرون للتّأويل قرينة مقاليّة أو شاهداً من سائر الآيات. وهذا يعرب عن أنّ الغاية منه هو التخلّص من مخالفة النقل مع العقل ، وهذا هو التأويل المرفوض ، فحاشا أن يكون النقل مخالفاً للعقل. بل المخالفة تتراءى إمّا لعدم تشخيص حقيقة النّقل و تخيّل ما ليس بظاهرها ظاهراً ، أو لاشتباه العقل فيما يحكم و يبرم.
    وأخرى يؤوّلون معتمدين على القرائن و الشّواهد الّتي تثبت الظهور التصديقي وتوقفنا على أنّ الظهور البدائي أو التصوّري ليس بمراد. وهذا هو التّأويل المقبول ،


(330)
    وإليه الاستناد في تأويل المتشابهات بالمحكمات و تعيين الظهور التصديقي.
    ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من التأويلين نأتي بمثالين:
    1 ـ قول سبحانه: ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ ) ( ص / 75 ).
    ترى أنّ القاضي يبادر إلى تأويل الآية بأنّ اليد هنا بمعنى القوّة (1).
    يلاحظ عليه: أنّ اليد و إن كانت تستعمل في القوّة والنعمة ، قال سبحانه ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوّاب ) ( ص / 17 ) فإنّ اليد في هذه الآية مردّدة ابتداء بين النعمة والقوّة والعضو المخصوص ، إلاّ أنّ القرينة في الآيات تدلُّ على أنّها كناية عن النعمة أو القوّة ، والقرينة عليه ورودها في قصّة داود المشهورة في القرآن. فقد كان ذا نعمة و قوّة ، أشار إليهما سبحانه في تلك ا لسورة وقال: ( إنّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ... ) ( ص / 19 ـ 29 ) و هذه الآيات قرينة على أنّ اليد إنّما كنّى بها عن النّعمة والقوّة. إلاّ أنّ الآية السابقة تفارق هذه الآية و ليس مثلها وذلك لأجل أمرين:
    أوّلاً: إنّ من المعلوم أنّ الخالق لا يخلق شيئاً إلاّ عن قوّة ، فلا معنى لذكرها إلاّ أن تكون هنا نكتة ، مثل دفع توهّم العجز في المتكلّم و ليس المقام كذلك كما سيأتي في قوله سبحانه ( وَالسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد ).
    وثانياً : أنّه لو كان المراد منها هو القوّة ، فما هو وجه التثنية؟
    فلأجل ذلك كان اللاّزم على القاضي و أمثاله ، الامعان في الآية حتّى يقفوا على الظهور التصديقي ، ليستغنوا به عن مخالفة العقل. فنقول:
    إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص ، ولكنّها كنّى بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم. فقوله سبحانه: ( مَامَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتّى
    1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 228.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس