بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 331 ـ 340
(331)
    يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجّة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقته بنفسي ، ونفخت فيه من روحي. فهو مصنوعي و مخلوقي الّذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.
    فاُطلقت الخلقة باليد و كنّى بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بايجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول: هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربّيته بيدي و يراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل ، و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء ، لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد. وكأنّه سبحانه يندِّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.
    و نظير ذلك قوله سبحانه: ( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) ( يس / 71 ) فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها ، لم يشركه أحد فيه. فهي مصنوعة لله تعالى والناس يتصرّفون فيها تصرف المّلاك كأنّها مصنوعة لهم ، فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته. وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التّصديقي لا التصوّري.
    قال الشريف المرتضى: « قوله تعالى: ( لما خلقت بيديّ ) » جار مجرى قوله « لما خلقت أنا » و ذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم: هذا ما كسبت يداك ، وما جرت عليك يداك. و إذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الاثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل » (1).
    وأمّا قوله سبحانه ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وَ إِنَّا لَمُوسعونَ ) ( لذاريات / 47 ) ، فالمراد من الأيدي هو القوّة و الإحكام ، والقرينة عليه قوله: ( لموسعون ) وكأنّه سبحانه
    1 ـ امالي المرتضى: ج 1 ، ص 565.

(332)
    يقول: والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء ، أو بنيناها بقدرة عظيمة و نوسعها في الخلقة. ومن أراد أن يقف على تأويل غير مقبول في تفسير الآية فعليه أن يرجع إلى كلام الزمخشري في هذاالباب ، فإنّ تأويله أردأ من تأويل القاضي ، وهو من ذلك العالم البارع الأديب بعيد جدّا (1).
    هذا نموذج من التّأويل المردود ، وأمّا التأويل المقبول فحدّث عنه ولا حرج ، وإليك نموذجاً منه:
    2 ـ قوله سبحانه: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( يونس / 3 ).
    وقوله سبحانه: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) ( الأعراف / 54 ).
    وقد شغل بال المفسّرين و أهل الكلام استواؤه سبحانه على العرش ، فأقصى ما عند أهل التنزيه من الأشاعرة أنّه سبحانه مستو على عرشه ( جالس أو مستقرّ عليه ) ولكن من غير كيف (2).
    وأمّا المشبّهة فهم يقولون بالجلوس على العرش على الكيف والتّشبيه.
    ولو أنّ القوم تدبّروا في نفس الآيتين الماضيتين والآيات الاُخر (3) التّي ورد فيها قوله سبحانه: ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) ، لوقفوا على أنّ الظهور التصوّري وهو كونه سبحانه ذا سرير متربّعاً عليه ، غير مراد قطعاً ، إذ لا مناسبة لهذا المعنى مع ما جاء في الآيات من بيان عظمة قدرته وسعة ملكه و تدبيره ، وإنّه لا يشذّ عن علمه شيء ، بل
    1 ـ لاحظ الكشاف: ج 3 ص 21.
    2 ـ الابانة: باب ذكر الاستواء على العرش ، ص 85.
    3 ـ الرعد / 2 ، الفرقان / 59 ، السجدة / 5 ، الحديد / 5 ، غافر / 15 ، طه / 8 باختلاف يسير.


(333)
    المراد هو الظهور التصديقي ، وأنّ الاستواء بمعنى التمكّن والاستيلاء التام ، لا الجلوس ولا الاستقرار بعد التزلزل ، كما أنّ المراد من العرش ، عرش التدبير و عرش الملك لا الّذي يجلس عليه الملوك. وليس هذا شيئاً غير موجود في الأدب العربي بل هو مملوء من هذه المعاني.
    أمّا الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حين ولى إمرة العراقين:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
فالحمد للمهيمن الخلاّق
    فليس المراد من الاستواء الجلوس أو الاستقرار ، بل التمكّن والاستيلاء التام والسيطرة على العراقين وكسح كلِّ مزاحم ومخالف.
    وقال الطرمّاح بن حكيم:
طال على رسم مهدد أبده وعفى واستوى به بلده
    والمراد استقام له الأمر واستتبّ.
    وقال آخر:
فلمّا علونا و استوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر و كاسر
    هذا حول الاستواء. وأمّا العرش ، فالمتبادر منه تصوّراً هو السرير يجلس عليه الملوك ، و يدبّرون منه ملكهم و يصدرون الأوامر والنواهي. غير أنّه هناك كناية عن الملك والسّلطة. يقال: ثلّ عرش بني فلان ، إذا زال ملكهم. يقول الشاعر:
إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم وأودت كما أودت أياد وحمير
    فليس المراد تهدّم العروش الّتي كانوا يجلسون عليها ، بل كناية عن زوال الملك والسيطرة وانقطاع سلطتهم. والدقة في الآيات الّتي ورد فيها استيلاؤه سبحانه على العرش يثبت بوضوح أنّ المراد من الآية هو السيطرة والتمكّن على صحيفة الكون


(334)
    والخلقة ، وأنّها بعد الخلقة في قبضة قدرته و حوزة سلطنته لم تفوّض لغيره ، ولأجل ذلك يذكر في سورة يونس بعد هذه الجملة قوله: ( يدبِّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ) معرباً عن أنّه المدبِّر لأمر الخلقة ، وذلك لاستيلائه على عرش ملكه. فمن استولى على عرش ملكه يقوم بتدبيره ، ومن ثلّ عرشه أو زال ملكه أو انقطع عنه لا يقدر على التدبير. كما أنّه سبحانه يذكر بعد هذه الجملة في سورة الأعراف كيفيّة التدبير و يقول: ( يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) فهذه الجمل تعابير عن تدبيره صحيفة الكون. وكونه مصدراً لهذه التدبيرات الشامخة ، دليل على أنّه مستول على ملكه ، مهيمن عليه ، مسيطر على ما خلق ولم يخرج الكون عن حوزة قدرته ، ومثله سائر الآيات الواردة فيها تلك الجملة ، فإنّك ترى أنّه جاء في ضمن بيان فعل من أفعاله سبحانه. ففيها دلالات على « التوحيد في التدبير » الّذي هو أحد مراتبه.
    وأمّا إذا فسّرنا الاستواء بالجلوس والاستقرار ، والعرش بالكرسي الّذي يتربّع عليه الملوك ، يكون المعنى غير مرتبط بما ورد في الآية من المفاهيم ، إذ أيّ مناسبة بين التربّع على الكرسي المادي والقيام بهذه التدابير الرفيعة. فإن المصحِّح للتدبير هو السيطرة والهيمنة على الملك وهو لا يحتاج إلى التربّع والجلوس على الكرسي ، بل يتوقّف على سعة ملكه و نفوذ سلطته.
    وقد قام القاضي بتأويل الآية بمثل ما ذكرنا ـ بعبارات قليلة ـ وهو نموذج واضح للتأويل المقبول.
    وإذا وقفت على هذا المقياس تقدر على تمييز المقبول عن الزائف في الصفات الخبريّة ، وعليك بالآيات الوارد فيها الألفاظ التالية:
    الوجه ، العين ، الساق ، مجيئه سبحانه.
    وفي الأحاديث المرويّة عن طرق ضعاف ورد: الرجل ، والقدم.
    فالمعتزلة بل العدليّة عامّة يصفونه سبحانه بكلِّ ما وصف نفسه به. ولكنّ


(335)
    الاختلاف في تمييز المراد الجدّي عن الصّوري ، والظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي. فالمشبِّهة والأشاعرة مصّرون على الأخذ بالأوّل مع أنّ سيرة العقلاء العارفين بالكلام وأساليب البلاغة على الثاني. وعند ذلك لا تجد أيّ مخالفة بين العقل والنّقل الصحيح كالقرآن الكريم. وأمّا الروايات فأكثرها إسرائيليات دسّت في الأحاديث الإسلاميّة من طريق الأحبار والرهبان و نقلها السذّج من أصحاب الحديث زاعمين أنّها حقائق راهنة يلزم الأخذ بها ، وقد استوفينا الكلام فيها عند البحث عن عقائد أهل الحديث.
ج ـ نفي الرؤية الحسية
    هذه هي النقطة الثالثة الّتي تركز عليها المعتزلة عند البحث عن التوحيد ، وقد عرفت أنّ التوحيد رمز للتنزيه ، أي تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيّات و أحكامها. وقد شغلت هذه المسألة بال المفسِّرين و المتكلِّمين وقد بحث عنها القاضي في كتابيه « شرح الاُصول الخمسة » ، و « المغني » على وجه البسط.
    يقول القاضي: « وممّا يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية ، وهذه مسألة خلاف بين الناس ، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنّما يتحقّق بيننا وبين هؤلاء الأشاعرة الّذين لا يكيّفون الرؤية. وأمّا المجسّمة فهم يسلِّمون أنّ الله تعالى لو لم يكن جسماً لم صحّ أن يرى ، ونحن نسلِّم لهم أنّ الله تعالى لو كان جسماً لصحّ أن يرى والكلام معهم في هذه المسألة لغو ».
    وبما أنّا استوفينا دراسة أدلّة المجوّزين للرؤية في الجزء الثاني ، فلنكتف في المقام بدراسة أدلّة النافين على وجه الإجمال. فنقول:
    استدلّت المعتزلة على نفي الرؤية بالأدلّة العقليّة والسّمعية. أمّا العقلية ، فهي ما أثبتها الحسّ والعلوم الطبيعية من أنّ الرائي بالحاسّة لا يرى الشيء إلاّ إذا كان مقابلاً أو حاّلاً في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون كذلك ، لأنّ المقابلة من أحكام الأجسام والأعراض وهو سبحانه فوق الممكنات والمادّيات.


(336)
    هذا ما استدلّ به القاضي تبعاً لمشايخه. ثمّ أجاب عمّا ربّما يتمسّك به المجوّز من أنّه يمكن أن نرى القديم تعالى بحاسّة سادسة من دون الحاجة إلى المقابلة. وقال: إنّه لو جاز أن يرى القديم بحاسّة سادسة لجاز أن يذاق بحاسّة سابعة ، وأن يلمس بحاسّة ثامنة ، وأن يشمّ بحاسّة تاسعة ، ويسمع بحاسّة عاشرة. تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً (1).
    أقول: كان على القاضي أن يعترض أيضاً بأنّ الرؤية بحاسّة سادسة مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب ، خروج عن الموضوع.
    وأمّا السمعيّة: فقد استدلّ القاضي بقوله تعالى: ( لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير ) ( الأنعام / 103 ).
    قال: « وجه الدّلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر ، لا يحتمل إلاّ الرؤية. وثبت أنّه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر ، ونجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان نفيه تمدّحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً ، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
    ثمّ قال: فإن قيل: أليس يقولون: « أدركت ببصري حرارة الميل » فكيف يصحّ قولكم إنّ الادراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية؟ اُجيب بأنّ هذا ليس من اللّغة في شيء ، و إنّما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحّح مذهبه به ، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظوم ولا المنثور ».
    أقول: إنّ العرب في هذا المجال تقول: « أحسست ببصري حرارة الميل » على أنّ الباء إنّما تدخل على الآلة كقولهم: « مشيت برجلي و كتبت بقلمي » والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة ، بل يستوي فيه البصر والسّمع ، فلو اُطلق البصر فلا يراد منه إلاّ العضو الحاسّ لا العضو الّذي يرى به.
    ثمّ إنّ القاضي أفاض الكلام في دلالة الآية وردّ ما اُثير حولها من الشبهات بوجه
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 248 ـ 253.

(337)
    ممتاز ، فمن أراد فليرجع إليه (1).
    ومن لطيف ما أفاده في المقام ، هو الاجابة عن احتجاج المثبتين بما رووه عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » (2). فأجاب عن الاستدلال بوجوه:
    الأوّل: إنّ الأخذ بظاهر الخبر يستلزم أن نرى الله سبحانه مثلما نرى القمر ، فإنّا لا نرى القمر إلاّ مدوّراً عالياً منوّراً ، والله سبحانه أعلى من هذه الصفات.
    يلاحظ عليه: أنّ وجه الشّبه هو الرؤية الحسيّة اليقينيّة. فكما أنّ الإنسان لا يشكّ ـ بعد ما رأى القمر ـ أنّه رآه ، فهكذا فيه سبحانه لاتمام الخصوصيات.
    الثاني: أنّ هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبدالله البجلي ، عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين:
    أحدهما: أنّه كان يرى رأى الخوارج. يروى أنّه قال: « منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة يقول: انفروا إلى بقيّة الأحزاب ـ يعني النّهروان ـ ، دخل بغضه على قلبي » ومن دخل بغض أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قلبه فأقلّ أحواله أن لا يعتمد على قوله ، ولا يحتجّ بخبره.
    وثانيهما: قيل إنّه خولط في عقله آخر عمره ، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التّمييز ، ولا ندري أنّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلطه.
    الثالث: إن صحّ هذا الخبر فأكبر ما فيه أن يكون خبراً من أخبار الآحاد. وخبر الواحد ممّا لا يقتضي العلم. ومسألتنا طريقها القطع والثبات.
    ثمّ إنّ هذا الخبر معارض بأخبار رويت. ثمّ ذكر بعض الأخبار (3).
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 248 ـ 253.
    2 ـ صحيح البخاري ، كتاب المواقيت ، الباب 16 ، الحديث 26 ج 1 ص 111 ، وباب الاذان وغيره.
    3 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 269.


(338>)
    الاجابة عن الشّبه الثلاث
    إنّ للمثبتين ، شبهاً ثلاثاً أشبه ما تكون بشبهات الأحداث:
    الأولى:إنّ القديم تعالى عندكم راء لذاته ، فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. وكلّ من قال إنّه يرى نفسه ، قال إنّه يراه غيره.
    يلاحظ عليه: أنّ الصغرى والكبرى ممنوعتان. فإن اُريد من رؤيته لذاته حضور ذاته لذاته وعدم غيبوبتها عنها ، فهو صحيح ولا صلة له بالرؤية الحسّيّة ، وإن اُريد الرؤية بالبصر فالصغرى ممنوعة. وأمّا الكبرى فزعم المستدلّ أنّ المسألة مسألة فقهيّة لا يصحّ التفكيك بينهما.
    الثانية:إنّ مصحِّح الرؤية هو الوجود ، بدليل أنّ الشيء متى كان موجوداً كان مرئياً. ومتى لم يكن كذلك لم يكن مرئيّاً.
    يلاحظ عليه: أنّ الوجود شرط الرؤية لا العلّة التامّة. ولأجل ذلك لا يرى الإنسان الارادات والكراهات ولا غير ذلك. فللرؤية شرائط قد حقِّقت في العلوم الطّبيعية.
    الثالثة:إنّ إثبات الرؤية للّه تعالى لا تؤدّي إلى حدوثه ، ولا إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه.
    وأجاب القاضي أنّ إثبات الرؤية تؤدّي إلى تشبيهه بخلقه ، لأنّ الشّيء إنّما يرى إذا كان مقابلاً ، أو حالاً في المقابل ، وهذه من صفات الأجسام ، فيجب أن يكون تعالى جسماً ، وإذا كان جسماً يجب أن يكون محدثاً (1).
    1 ـ كان على القاضي و غيره البحث عن حدوث كلامه سبحانه أو قدمه في المقام ، لأنّ نفي قدمه من شئون توحيده ، ولكنه غفل عن ذلك.

(339)
الأصل الثاني
العدل
    هذا هو الأصل الثّاني من الاُصول الخمسة ، والأصل الأوّل يهدف إلى تنزيه ذاته سبحانه عمّا لا يجوز حمله عليه ، وتمييزه عمّا يجوز ، و هذا يهدف إلى أفعاله سبحانه و تمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز ، فإذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه وإنّ أفعاله كلّها حسنة. وخالفتهم المجبِّرة و أضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح ، وقد تعرّفت على تعريف القاضي لهذا الأصل في مدخل البحث عن الاُصول الخمسة.
    وخلاصة هذا الأصل عند العدليّة من غير فرق بين المعتزلة والإماميّة ، هو أنّ الله عزّوجلّ عدل كريم ، خلق الخلق لعبادته ، وأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، وعمّهم بهدايته ، بدأهم بالنِّعم و تفضّل عليهم بالاحسان. لم يكلِّف أحداً إلاّ دون الطاقة ، ولم يأمره إلاّ بما جعل له عليه الاستطاعة. لا عبث في صنعه ولا قبيح في فعله. جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال ، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال لا يعذِّب أحداً إلاّ على ذنب فعله ، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة ، وإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.
    ثمّ إنّ لهذا الأصل دوراً كبيراً في تطوير المسائل الكلاميّة ، وهو الحجر الأساس لكثير من آراء المعتزلة كما نشير إليها. وهو يبتنى على التّحسين والتّقبيح العقليّين ، فلو ثبتا بالبرهان العقلي ، يثبت العدل كما ثبت كلّ ما بنى عليه من المسائل ، وإلاّ يصبح الأساس والبناء خاليين من البرهان. وترى ما ذكرنا في نصّ القاضي ، يقول:


(340)
     « إنّ العَدْل مصدر عَدَلَ يَعْدلُ عَدْلاً ، ثمّ قد يذكر و يراد به الفعل ، وقد يذكر و يراد به الفاعل ، فإذا وصف به الفعل ، فالمراد به كلّ فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضرّه.
    فأمّا إذا وصف به الفاعل ، فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم:صوم ، ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح ، أو لا يختاره ، ولا يخلّ بما هو واجب عليه ، وأنّ أفعاله كلّها حسنة ، وقد خالفنا في ذلك المجبِّرة وأضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح » (1).
    إنّ إثبات عدله سبحانه مبنيّ على ثبوت اُمور ثلاثة:
    الأوّل: إنّ هناك أفعالاً تتّصف بذاتها بالحسن والقبح.
    الثاني: إنّ الله تعالى عالم بحسن الأشياء و قبحها.
    الثّالث: إنّه سبحانه لا يصدر منه القبيح.
    أمّا الأوّل: فقد برهنوا عليه بوجوه مختلفة ، أوضحها ما أشار إليه أبو عبدالله البصري في عبارة مختصرة و قال: « إنّ كلّ عاقل يستحسن بكمال عقله التّفرقة بين المحسن والمسيء ، وإنّما تفرق بينهما الحسنة و إلاّ فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر ».
    قال القاضي عبدالجبّار: « ومعرفة حسن الأفعال أو قبحها كمعرفة حسن الصِّدق وقبح الكذب ، إنّما يعلم ببداهة العقول. أمّا استنباط وجوه الحسن أو القبح في فعل معيّن فذلك يحتاج الى تفكير و استدلال ، ومن ثمّ لا تختلف العقول في التّمييز بين حسن الأفعال وقبحها على وجه الجملة ، كمعرفة قبح الظّلم ، ولكنّها تختلف في الحكم على الإفعال تفصيلاً ، فيستحسن الخوارج قتل مخالفيهم بينما تستقبح ذلك معظم فرق المسلمين » (2).
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 301.
    2 ـ المغني: ج 6 ، ص 20.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس