بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 341 ـ 350
(341)
    توضيحه إنّ في الحكمة النّظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة ، ولولا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة ، ومثلها الحكمة العمليّة ، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضروريّة ، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظريّة من صميم ذاتها ، فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.
    مثلاً ، إنّ كلّ القضايا النظريّة يجب أن تنتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النّقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهما لما أمكن التّصديق بشيء من القضايا ولذا تسمّى ب ـ « أمّ القضايا » فلا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلّث مثلاً تساوي قائمتين ، إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة ، أي عدم مساواتها لهما. وإلاّ فلو احتمل صدق النّقيض لما حصل اليقين بالنّسبة ، ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النّظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا الّتي قد عرفت.
    وعلى ضوء هذا البيان نقول: كما أنّ للقضايا النّظرية في العقل النّظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوّليّة تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّليّة و واضحة عند ذلك العقل ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التّصديق بقضيّة من القضايا فيها.
    فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين الثابتين لجملة من القضايا مثل قولنا: « العدل حسن » و « الظّلم قبيح » و « جزاء الإحسان بالإحسان حسن » و « جزاء الإحسان بالإساءة قبيح ». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العمليّة ، والعقل العملي يدركها من ملاحظة القضيّة بنفسها وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً ، وتدبير المنزل ثانياً ، وسياسة المدن ثالثاً ، الّتي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال


(342)
    العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانيّة ، المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضيّة التّحسين والتّقبيح في قسم من الأفعال ، قضيّة كلّية لا تختصّ بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل. بل لا تختصّ ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان بل تعمّ الموجود الحيّ المدرك المختار ، لأنّ العقل يدركها بصورة قضيّة عامّة شاملة لكلّ من يمكن أن يتّصف بهذه الأفعال كالعدل والظلم ، فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عند الجميع ومن الجميع ، والثاني قبيح كذلك ، وليس للانسان خصوصيّة في ذلك القضاء.
    وبذلك يصبح المدّعي للتّحسين والتّقبيح العقليّين الذاتيّين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه ، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما كذلك.
    والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النّظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة ، و إلاّ عقمت الأقيسة ولزم التّسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسّموا القضايا العمليّة إلى فكرية و بديهيّة ، أو نظريّة و ضروريّة. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل لا يتمّ إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.
    فالمسائل المطروحة في الأخلاق ممّا يجب الاتّصاف به أو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتيّة و العائليّة الّتي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة و تدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب.
    فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها و يرتفع الابهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتّحسين والتّقبيح العقليّين في غنى عن التوسّع في طرح أدلّة القائلين بهما.


(343)
    وبهذا البيان يستغني الإنسان عن كثير من الأدلّة الّتي أقامها القائلون بالحسن والقبح ، سواء أكانت صحيحة أم لا. نظير ما ربّ ـ ما يقال من أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق و الكذب وكان النّفع في أحدهما كالنّفع في الآخر وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً و إن صدقت أعطيناك درهماً ، فإنّه قطُّ لا يختار الكذب على الصدق. ليس ذلك إلاّ لعلمه بقبحه و بغناه عنه (1).
    يلاحظ عليه: أنّ اختيار الصِّدق على الكذب يمكن أن يكون مستنداً إلى أمر آخر ، وهو كون الصِّدق مطابقاً للفطرة و الكذب على خلافها. ولأجل ذلك لا يختار الصبي إلاّ الصِّدق وليس ذلك لأجل العلم بقبح الكذب. هذا كلّه حول الأمر الأوّل.
    وأمّا الأمر الثاني: أعني كونه سبحانه عالماً بحسن الأشياء وقبحها ، فقد استدلّ عليه القاضي بأنّه تعالى عالم لذاته ، ومن حقِّ العالم لذاتهـ أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه الّتي يصح أن تعلم عليها. ومن الوجوه الّتي يصحّ أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح ، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به (2).
    يلاحظ عليه: أنّ كلامه مجمل و لعلّه يريد أنّ ذاته سبحانه علّة الأشياء و علّة لصفاتها ، والعلم بالعلّة ، علم بالمعاليل. فهو سبحانه بما أنّه عالم لذاته ، عالم بمعاليله من الذوات والصفات.
    ولكن التقرير عليل من وجهين:
    الأوّل:إنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال لا من صفات الأشياء الخارجية من الجواهر والاعراض القائمة بها ، وأفعال الإنسان ليست مخلوقة له سبحانه عند المعتزلة فلا تكون معلولة لذاته حتّى يلزم من العلم بالذات ، العلم بها.
    الثاني: إنّ الحسن والقبح ، بمعنى يجب أَنْ يفعل أو لا يفعل ، من الأحكام العقلية وليست من الصفات الخارجية للأفعال و الأشياء ، حتّى يكونا مخلوقين له سبحانه ،
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 303.
    2 ـ المصدر السابق: ص 302.


(344)
    وحتى يقال بأنّ خالق القبيح والحسن خالق لقبحه أو حسنه. فالطريق الأوسط ، الاستدلال على علمه بالحسن والقبيح بعلم الإنسان بهما ، والله سبحانه عالم بما خلق ، وبما ينطوي عليه مخلوقه من التصورات والتّصديقات.
    فاذا كان حسن الأشياء وقبحها بذاتها معلومة للإنسان المخلوق ، فهي معلومة له بالضرورة ، لانتهاء ما في الكون إلى الله سبحانه. قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو الّلطيف الخبير ) ( الملك / 14 ) وقد تعرّفت في البيان الّذي أوضحنا به دليل أبي عبدالله البصري أنّ العقل يدرك أن هنا شيئاً حسناً لدى الكلّ وقبيحاً كذلك. فلا يختصّ قبح الأشياء ولا حسنها بشخص دون آخر.
    وأماّ الأمر الثالث: فقد استدلّوا عليه بما ورد في الكتب الكلاميّة من أنّ القبيح لا يختاره إلاّ الجاهل بالقبح أو المحتاج إليه ، وكلاهما منفيّان عنه تعالى ، ولأجل ذلك إنّ الظّلمة والفسقة لا يرتكبون القبائح إلاّ لجهلهم بقبحها أو لاعتقادهم أنّهم سيحتاجون إليها في المستقبل ، كما في غصب الأموال.
    يلاحظ عليه: أنّ هذا الدّليل مبنيّ على كون فاعليّة الواجب بالدّاعي الزائد على ذاته ، وهو خلاف التّحقيق لكونه تامّاً في الفاعليّة. فلا يكون في الايجاد محتاجاً إلى شيء وراء ذاته.
    والأولى أن يقرّر بأنّ مقتضى التّحسين والتّقبيح العقليّين ـ على ما عرفت ـ هو أنّ العقل بما هو هو ، يدرك أنّ هذا الشيء بما هو هو ، حسن أو قبيح ، وأنّ أحد هذين الوصفين ثابت للشيء بما هو هو ، من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود ، ومن دون دخالة درك مدرك خاصّ.
    وعلى ذلك فالعقل في تحسينه و تقبيحه يدرك واقعيّة عامّة و متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين ، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن يمدح فاعله عند الجميع ، والظّلم قبيح يذمّ فاعله عند الجميع ، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه ، المدرك للفعل ووصفه ـ أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذمّ من غير


(345)
    خصوصيّة للفاعل ـ كيف يقوم بفعل ما يحكم بأنّ فاعله مستحقّ للذّم ، أو يقوم بفعل مايحكم بأنّه يجب التنزّه عنه؟!
    وعلى ذلك فالله سبحانه عادل ، لأنّ الظلم قبيح و ممّا يجب التنزّه عنه ، ولا يصدر القبيح من الحكيم ، والعدل حسن وممّا ينبغي الاتّصاف به ، فيكون الاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي.
    وإن شئت قلت: إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال لكلّ أحد ، وارتكاب الظّلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك حسب إدراك العقل ، عنده سبحانه. ومعه كيف يجوز أن يرتكب الواجب خلاف الكمال ، ويقوم بما يجرّ النّقص إليه؟!
    ما يتفرّع على العدل من المسائل
    قد عرفت أنّ الحسن والقبح أساس القول بالعدل ، وعنه تتفرّع عدّة مسائل تفترق فيها مدرسة الاعتزال عن مدرسة أهل الحديث و الأشاعرة. ونحن نشير إلى عناوينها ، ثمّ نبحث عن كلّ واحد تلو الآخر وهي عبارة عن:
    1 ـ الله قادر على القبيح.
    2 ـ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم و أنّهم المحدثون لها.
    3 ـ الاستطاعة متقدِّمة على الفعل.
    4 ـ قبح التّكليف بما لايطاق.
    5 ـ الله تعالى لا يكون مريداً للمعاصي.
    6 ـ اللّطف واجب على الله سبحانه.
    7 ـ حكم القرآن الكريم من حيث الحدوث والقدم.
    8 ـ ما يتعلّق بالنبوّات والشرائع و معاجز الأنبياء.
    هذه هي المسائل المبنيّة على العدل ، ونحن نأخذ بالبحث عنها على منهج الاعتزال ، وسيوافيك أنّ ثمرات التّحسين والتّقبيح العقليّين أوسع مما ذكر.


(346)
المسألة الاُولى:
قدرته سبحانه على القبيح
    قد عرفت أنّ القاضي قد رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل ، ولأجل التعرّف على منهج الاعتزال نطرح هذه المسائل مكتفين على ما جاء به القاضي في ( شرح الاُصول الخمسة ) فهو رائدنا في هذه المباحث ، ومن أراد التبسّط فعليه المراجعة بكتابه الآخر: « المغني » وقد طبع منه أربعة عشر جزءاً ، وعلى كلّ حال فكتب القاضي هي الممثّلة لرأي المعتزلة في أعصارهم. والمسألة الاُولى في قدرته سبحانه على القبيح وإنّما عنونها في هذا الفصل لأدنى مناسبة ، مع أنّ عنوانها في عموم القدرة أولى من عنوانها في مسألة التّحسين والتّقبيح ، والمخالف فيها عدّة من المعتزلة منهم النظّام وعليّ الأسواري والجاحظ ، حيث ذهبوا إلى أنّه تعالى غير موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً ، وقد ردّ عليه القاضي بقوله « إنّه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم كما هو قادر على أن يخلق بدله الجهل ، وأيضاً قادر على أن يخلق الشّهوة في أهل الجنّة كما هو قادر على أن يخلق فيهم النّفرة » (1).
    أقول: إنّ التّفصيل بين القدرة على الحسن والقدرة على القبيح ، موهون جدّاً ، وناش عن عدم التعرّف على مفهوم القدرة ، فإنّها تستعمل فيما إذا كان الفاعل بالنّسبة إلى الفعل والتّرك متساوياً ، وإلاّ لما وصف بالقدرة ، بل بالايجاب. فلو كان قادراً على إدخال المطيع إلى الجنّة ، ولم يكن قادراً على إدخاله في النار لما وصف بالقادر ، بل كان فاعلاً موجباً ، وبذلك يعلم حال عدّة من المسائل الّتي اختلف فيها المعتزلة ، وإليك عناوينها:
    1 ـ ذهب عبّاد بن سليمان إلى عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه ، قائلاً بأنّ ما علم وقوعه يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، وما علم عدم وقوعه لا يقع قطعاً ، فهو ممتنع
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 314.

(347)
    الوقوع.
    يلاحظ عليه: أنّ معناه نفي القدرة و توصيفه سبحانه بالايجاب أوّلاً ، وأن تعلّق العلم بوقوعه لا يخرجه عن الاختيار ثانياً ، لأنّه تعلّق بصدوره عنه سبحانه اختياراً لا اضطراراً وإيجاباً وقد قلنا نظير ذلك في تعلّق علمه سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم. فلاحظ (1).
    2 ـ ذهب البلخي إلى عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد ، لأنّه إمّا طاعة ، أو معصية ، أو عبث. وهو منزّه عن أن يكون مطيعاً ، أو عاصياً ، أو عابثاً.
    وقد غفل عن أنّ الاطاعة والمعصية ، ليستا من الاُمور الحقيقيّة الدّخيلة في ماهيّة العمل ، فلو قام إنسان كالخليل لبناء بيت امتثالاً لأمره سبحانه ، فالله سبحانه يقدر على إيجاد بيت مثله ، والفعلان متّحدان ماهيّة و هيئة ، وإن كان الأوّل مصداقاً للاطاعة دون الآخر.
    وبعبارة أُخرى: أنّ الاطاعة أمر انتزاعيّ ينتزعه العقل من مطابقة المأتي به لما أمر به المولى ، وعلى هذا فهناك واقعيّتان: الأوّل: الأمر ، الثاني ، المأتيّ به ، وأمّا الموافقة والمخالفة فهما أمران ذهنيّان يتواردان على الذّهن من ملاحظتهما ، فإن وجد بينهما المشابهة أو المخالفة يعبّر عن الاُولى بالطّاعة ، وعن الثانية بالعصيان ، وليس لهما واقعيّة وراء الذهن ، فلا تكون الحقيقة الخارجيّة سواء صدرت عن الله سبحانه ، أو عن عباده ، أمرين متباينين.
    3 ـ ذهب الجبّائيان إلى عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله و كرهه العبد ، أو بالعكس.
    يلاحظ عليه: أنّه كان على القائل الاستدلال بوجه آخر ، وهو أنّه يلزم حينئذ اجتماع العلّتين على معلول واحد. ومع ذلك كلّه ، فما جاء في الاستدلال نشأ من فكرة ثنويّة ناشئة عن مبادئ الاعتزال ، فتخيّل أنّ فعل العبد يجب أن يكون مخلوقاً للعبد
    1 ـ لاحظ الجزء الثاني: ص 301 ـ 307.

(348)
    وحده ولا يكون للّه سبحانه فيه شأن ، لما أنّ هناك فاعلين مستقلّين: « الله » و « الإنسان » ، ولكلِّ مجاله الخاص. وعند ذلك لا يرتبط مقدور العبد بالله سبحانه كما لا يرتبط مقدوره بعباده ، ولكنّه باطل ، لما عرفت من أنّ العلّتين ليستا عرضيّتين بل طوليّتين ، فالعلل الامكانيّة في طول العلّة الواجبة ، وبما أنّه تنتهي العلل إلى الواجب ، يكون مخلوق العبد مخلوقه سبحانه.

المسألة الثانية:
في أنّ أفعال العباد ، ليست مخلوقة للّه سبحانه
    من فروع القول بالعدل كون فعل الإنسان فعله ، لا فعل خالقه.
    توضيحه: أنّ أهل الحديث و الأشاعرة يعتقدون بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ، وعندئذ يلزم على أصول الاعتزال كونه سبحانه موصوفاً بفعل القبيح ، وذلك لأنّ أفعال العباد بين حسن وقبيح ، فلو كان هو الفاعل يلزم أن يكون فاعل القبيح. ثمّ الجزاء على القبيح قبيح مع كون الفاعل هو الله سبحانه.
    ويفصّل القاضي الأقوال في المسألة على النّحو التالي:
    1 ـ العباد هم المحدثون لأفعالهم ، ويقابلهم الجبريّة كالجهميّة القائلون بأنّ أفعالهم مخلوقة للّه ولا تعلّق لها بالعباد.
    2 ـ من ذهب إلى كونها مخلوقة للّه ولكن لها تعلّق بهم من جهة الكسب.
    3 ـ من سوّى في هذه القضيّة بين المباشر و المتولّد ، وقال: كلاهما مخلوق للّه سبحانه ومتعلّق بنا من جهة الكسب ، وينسب هذا إلى ضرار بن عمرو.
    4 ـ ومنهم من فصل بين المباشر والمتولّد ، فقال: إنّ المباشر خلق الله تعالى فينا متعلّق بنا من حيث الكسب ، وأمّا المتولّد كالاحراق بعد الالقاء فالله تعالى متفرّد بخلقه.
    وبما أنّا استوفينا الكلام في عقيدة الأشاعرة و مفهوم الكسب في الجزء الثاني ،


(349)
    نركّز البحث هنا على عقيدة المعتزلة. فالمنقول عنهم تفويض ، أفعال العباد إلى أنفسهم وأنّهلا شأن للّه سبحانه في أفعال عباده ، فذواتهم مخلوقة للّه و أفعالهم مفوّضة إلى أنفسهم.
    وبعبارة ثانية: العباد في ذواتهم محتاجون إلى الواجب لا في أفعالهم و حركاتهم وسكناتهم. فالمعتزلة في كتب الأشاعرة والشّيعة الإماميّة ، مرميّة بهذه العقيدة ، وإليك نقل ما يعرب عن مذهبهم:
    1 ـ قال الأشعري: « زعمت المعتزلة أنّ الله تعالى لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئاً من أفعال غيره. وأنّ الله خلق الكافر لا كافراً ، ثمّ إنّه كفر وكذلك المؤمن ، واختلفت في الإنسان يخلق فعله أم لا ، على ثلاث مقالات:
    فزعم بعضهم أنّ معنى فاعل و خالق واحد ، وأنّا لا نطلق ذلك في الإنسان لأنّا مُنعنا منه.
    وقال بعضهم: هو الفعل لا بآلة ولا بجارحة ، وهذا يستحيل منه.
    وقال بعضهم: معنى خالق: أنّه وقع منه الفعل مقدّراً ، فكلّ من وقع فعله مقدّراً فهو خالق ، قديماً كان أم محدثاً » (1).
    وحاصله أنّهم لم يقولوا بكون أفعال العباد مخلوقة للِّه ، وأمّا كونها مخلوقة لأنفسهم فمن فسّر الخلق بالايجاد لا بآلة ولا بجارحة ، فمنع عن الاطلاق. وأمّا من فسّر الخلق بالتّقدير فقد جوّزه ، وسيوافيك التصريح من أبي بكر الأنباري و غيره أنّ الخلق ربّما يستعمل في التّقدير.
    2 ـ وقال البغدادي: « وقالت المعتزلة: إنّ الله تعالى غير خالق لأكساب الناس ، ولا لشيء من أعمال الحيوانات ، وقد زعموا أنّ الناس هم الّذين يقدرون على أكسابهم و أنّه ليس للّه عزّوجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع و تقدير » (2).
    1 ـ مقالات الاسلاميين: ص 295 ط 2.
    2 ـ الفرق بين الفرق: ص 114 ـ 115.


(350)
    3 ـ وقال القاضي عبدالجبّار: « ذكر شيخنا أبو عليّ ـ رحمه اللِّه ـ : اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم و قيامهم و قعودهم ، حادثة من جهتهم ، وأنّ الله عزّوجلّ أقدرهم على ذلك ، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم ، وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها ، فقد عظم خطاؤه ، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين » (1).
    4 ـ وقال أيضاً: « نحن نبيّن أنّ العبد إنّما يقدر على إحداث و إيجاد ، وأنّ القدرة لا تتعلّق بالشّيء إلاّ على طريق الحدوث ، وأنّه يستحيل أن يفعل الشيء من وجهين ، ويستحيل تعلّق الفعل بفاعلين محدثين ، أو قديم ومحدث.... و نبيِّن من بعد إبطال قول من أضاف أفعال العباد إلى الله تعالى. ونذكر ما يلزمهم على قوده من الفساد ، والخروج عن الدّين ، والتزام جحد الضروريات » (2).
    5 ـ قال صدر المتألّهين: « ذهبت جماعة إلى أنّ الله أوجد العباد و أقدرهم على بعض الأفعال ، وفوّض إليهم الاختيار ، فهم مستقلّون بايجادها على وفق مشيئتهم و طبق إرادتهم » (3).
    وهذه النصوص الخمسة من أكابر الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة ، تحاول أن ترميهم بالتّفويض و إن لم تكن في الصّراحة بمكان يجزم الإنسان معها بصحّة النّسبة. ولأجل ذلك يلزم المزيد من التتبّع في كتبهم الّتي قصرت أيدينا عنها. ولأجل التّوضيح نبحث عن اُمور:
    1 ـ لا شكّ في وجود القول بالتّفويض في عصر الإمام الباقر ( عليه السلام ) كيف وقد طلب عبدالملك بن مروان ( ت86هـ ) ، من عامله في المدينة ، أن يوجّه محمّد بن علي الباقر إلى الشام حتّى يناظر قدريّاً أعيى الشاميين جميعاً. فبعث الإمام ولده جعفراً الصادق ( عليه السلام ). فلمّا ورد الشام واجتمع مع القدري ، فقال للإمام: سل عمّا شئت. فقال: إقرأ سورة الحمد. قال: فقرأها... حتّى بلغ قول الله تبارك و تعالى: ( إيّاك نَعْبُدُ وَ
    1 ـ المغني: ج 6 ، الارادة ص 41 و ج 8 ، ص 1.
    2 ـ المغني: ج 6 ، الارادة ص 41 و ج 8 ، ص 1.
    3 ـ رسالة خلق الأعمال.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس