بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 351 ـ 360
(351)
إِيَّاكَ نَسْتَعِين ) فقال له جعفر ( عليه السلام ) : قف. من تستعين؟ ما حاجتك إلى المعونة؟ إنّ الأمر إليك. فبهت القدري (1).
    2 ـ تضافر عنهم ( عليهم السلام ) التّنديد بالجبر والتّفويض بمضامين مختلفة ، نأتي بواحد منها حتّى تقف على ما يشابهه:
    سأل محمّد بن عجلان الصّادق ـ عليه السلام ـ أنّه هل فوّض الله الأمر إلى العباد؟ قال: « الله أكرم من أن يفوّض إليهم. قال: فأجبرهم على أفعالهم؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه » (2).
    3 ـ تضافر عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ قولهم: « لا جبر ولا تفويض » وذلك يدفعنا إلى القول بوجود المفوِّضة في زمن صدور هذه الروايات بين الأُمة الإسلاميّة ، ويرجع صدورها إلى أواخر القرن الأوّل ، وأواسط القرن الثاني.
    4 ـ إنّما الكلام في أنّ المعتزلة هل هم المعنيّون في هذه الأخبار ، أو هم غيرهم ، وهذا هو الّذي يحتاج إلى دراسة عميقة بالغور في الآثار الباقية من المعتزلة.
    أمّا ما نقلناه من « المغني » فهو محتمل الوجهين ، فيمكن أن يكون إشارة إلى استقلال العباد في أفعالهم و أعمالهم كما نسب إليهم صدر المتألّهين. كما أنّه يمكن أن يكون قوله: « لا فاعل لأفعال العباد ولا محدث لها سواهم » ، هو نفي كونها مخلوقة للّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة. والشاهد عليه قوله فيما بعد: « وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها و محدثها ، فقد عظم خطاؤه و أحالوا حدوث فعل من فاعلين ».
    فالعبارة بصدد نفي كون فعل العباد مخلوقاً للّه مباشرة على النّحو الّذي يذهب إليه أهل الحديث و الأشاعرة. وهذا غير القول باستقلال العباد في أفعالهم و غناهم عن الواجب في أعمالهم.
    1 ـ بحار الأنوار: ج 5 ، ص 55 ـ 56.
    2 ـ المصدر نفسه: ص 51.


(352)
    وبعبارة ثانية: كان المذهب في أفعال العباد أحد أمرين: كون أفعالهم مخلوقة للّه مباشرة و بلا واسطة ، أو كون أفعالهم مخلوقة للعبد كذلك. فأهل الحديث والأشاعرة على الأوّل ، والمعتزلة على الثاني. لكنّ القول بالثاني ليس بمعنى انقطاع عمل العباد عن الله سبحانه ، وعدم انتهاء سلسلة العلل إلى الحقّ عزّ اسمه.
    نعم ، لم يكن الأمر بين الأمرين شيئاً مفهوماً لديهم حتّى يعتقدوا به ، لأنّه من الكنوز العلميّة الّتي ظهرت من معادن العلم و أهل بيت النبوّة. ولكن عدم الوقوف على هذا المذهب غير الاعتقاد على التّفويض و الاذعان بالمعنى الباطل الّذي لا يفارق الشّرك.
    5 ـ إنّ ما استدلّ به القاضي على مذهبه لا يثبت سوى نفي الجبر و كون أفعال العباد غير مخلوقة للّه سبحانه. وأمّا التّفويض الّذي اتّهم به ، فلا تثبته أدلّته ، وإليك بعض ما استدلّ به على ردّ الخصم على وجه الاجمال:
    الأوّل : قال: « والّذي يدلّ على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء ، وبين حسن الوجه وقبيحه. فنحمد المحسن على إحسانه و نذمّ المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطّريقة في حسن الوجه وقبيحه. فلولا أنّ أحدهما متعلّق بنا بخلاف الآخر ، لما وجب هذا الفصل » (1).
    الثاني : قال: « لو صحّ الجبر لزمهم التّسوية بين الرسول و إبليس ، لأنّ الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراد الله تعالى منهم ، كما أنّ إبليس يدعوهم إلى ذلك ، بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس » (2).
    الثالث : قال: « يلزم قبح مجاهدة الكفّار ، لأنّ للكفرة أن يقولوا لماذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيّانا على ما لا يريده الله تعالى منّا ولا يحبّه ، فالجهاد لكم أولى و أوجب ، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا...فذلك جهاد لا معنى له » (3).
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.
    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.
    3 ـ شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 336.


(353)
    إلى غير ذلك من الأدلّة الّتي أقامها القاضي على نفي الجبر ، فلا يجد الإنسان في كتابه ما يثبت به التّفويض ولو بصورة الدّليل.
    6 ـ إنّ فكرة التّفويض فكرة ثنويّة لا يعرج عليها مسلم واع ، عارف بالكتاب والسنّة وبدايات الفلسفة الإلهيّة ، ولا ينطق بها من وقف على موقف الممكن من الواجب ، وواقعيّة العلل و المعاليل الامكانيّة بالنّسبة إلى الواجب المكوِّن لها بأسرها ، فإنّ صفحة الوجود الامكاني صفحة فقيرة متدلّية بالذات قائمة بالغير ، ذاتاً كان أم فعلاً. ونسبة الوجود الامكاني إلى الوجود الواجبي ، كنسبة الوجود الحرفي إلى الاسمي. وعندئذ كيف يعقل لموجود امكاني الاستقلال في التّأثير والفعل من دون أن يستند إلى الواجب و يعتمد عليه.
    وبعبارة ثانية: كما أنّه ليس للمعنى الحرفي الخروج عن إطار المعنى الاسمي في المراحل الثلاث: التصور ، والدلالة ، والتحقّق في الخارج ، فهكذا المعلول الامكاني بهويّته و أفعاله ، فليس له الخروج عن إطار العلّة الواجبة في حال من الحالات.
    هذا ، وقد أوضحنا بطلان التّفويض كتاباً و عقلاً في أبحاثنا الكلاميّة (1).
    7 ـ هنا مسألتان:
    الاُولى: هل أفعال العباد مفوّضة إليهم أنفسهم أو لا؟
    الثانية: هل الذّوات الامكانيّة محتاجة إلى الواجب في حدوثهم فقط ، أو في حدوثهم و بقائهم؟ فمن قال بالأوّل وجب له القول بالتّفويض في الأفعال بوجه أولى ، لأنّ الذات إذا كانت غنيّة عن الواجب في بقائه ، فأولى أن يكون كذلك في أفعالها.
    قال الشيخ الرئيس في إشاراته: « وقد يقولون إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل ، حتّى إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء ، وحتّى إنّ كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى
    1 ـ لاحظ « الالهيات في الكتاب والعقل والسنة » الجزء الثاني 321 ـ 331.

(354)
    العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم ، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده أي أخرجه من العدم إلى الوجود ، حتّى كان بذلك فاعلاً. فإذا قد فعل و حصل له الوجود عن العدم ، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتّى يحتاج إلى الفاعل » (1).
    أقول: ما نقله الشيخ عنهم مبنيّ على أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هل هو إمكانه أو حدوثه ، فمن قال بالثاني ، صوّر الممكن غنياً في بقائهـ فضلاً عن فعله ـ عن الواجب. ومن قال بالأوّل ، أظهر الممكن محتاجاً في كلِّ حال من الأحوال إلى الواجب حدوثاً و بقاءً و ذاتاً و فعلاً. وبما أنّ التّحقيق كون مناط الحاجة هو الامكان ، فإذاً يصبح التّفويض أمراً باطلاً لا يحتاج إلى التّدليل أكثر من ذلك.
    ولأجل ذلك نأتي ببعض الدّلائل المتقنة على أنّ مناط الحاجة هو الامكان ، و هو لا يزول عن الممكن أبداً. فذاته تتعلّق به دائماً ، فكيف بأفعاله ، فانتظر.
    8 ـ الظّاهر من الشيخ المفيد موافقة المعتزلة للإماميّة في مسألة أفعال العباد. قال: « إنّ الله عدل كريم ـ إلى أن قال: ـ جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال ، و تعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال. لا يعذّب أحداً إلاّ على ذنب فعله ، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة ، فإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.
    وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة ، وبه تواترت الآثار عن آل محمّد ( عليهم السلام ) وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلاّ ضراراً منها و أتباعه. وهو قول كثير من المرجئة ، وجماعة من الزيديّة والمحكّمة ، و نفر من أصحاب الحديث ، وخالف فيه جمهور العامّة و بقايا ممّن عددناه » (2).
    وماذكره الشيخ المفيد يعرب عن أنّ المعتزلة في ذلك العصر لم تكن معتقدة بالتّفويض ، وإلاّ لم يعدّها الشيخ متّحدة مع الإماميّة القائلة بنفي الجبر و التفويض
    1 ـ الاشارات ، للشيخ الرئيس: ج 3 ، ص 68.
    2 ـ أوائل المقالات: ص 24 ـ 25.


(355)
    معاً.
    9 ـ يظهر من المفيد أنّ المراد من التّفويض الوارد في الروايات غير ما هو المصطلح بيننا حيث قال: « الجبر هو الحمل على الفعل و الاضطرار إليه بالقهر و الغلبة. وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه ، والامتناع من وجوده فيه.... والتّفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال ، والاباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال. وهذا قول الزّنادقة و أصحاب الاباحات. والواسطة بين هذين القولين أنّ الله أقدر الخلق على أفعالهم ، ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود في ذلك... إلى آخر ما أفاده » (1).
    10 ـ هل يصحّ إطلاق « الخلق » في مورد فعل الإنسان ، أو يختصّ « الخلق » بفعل الله سبحانه؟
    لا شكّ أنّ الله سبحانه هو الخالق ، وأنّه خلق السّموات و الأرض بجواهرها وأعراضها. إنّما الكلام في أنّه هل يصحُّ استعمال كلمة الخلق في مورد فعل الإنسان ، فإذا قام أو قعد يصحّ لنا أن نقول: « خلق القيام والقعود » أو إذا أكل و شرب هل يصحّ لنا أن نقول: « خلق الأكل و الشرب » أو لا يجوز ذلك إلاّ في مورد يكون هناك عناية في استعمال هذه اللّفظة.
    والرائج في مصطلح القرآن هو التّعبير بالكسب والفعل. قال سبحانه: ( لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ( البقرة / 286 ).
    وقال تعالى: ( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ( النمل / 33 ).
    وقال سبحانه: ( لمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ ) ( الصف / 2 ).
    فالتّعبير الرائج عن أفعال الإنسان بصورة عامّة هو الكسب و الفعل ، وبصورة خاصّة هو الأفعال المخصوصة من الأكل و الشرب.
    1 ـ شرح عقائد الصدوق ، ص 14 ـ 15.

(356)
    وأمّا استعمال كلمة الخلق في مورد الفعل بأن يقال: « خلق الفعل و العمل » فليس بمعهود ، وإنّما هو اصطلاح تسرّب إلى كلمات المحدِّثين والمتكلِّمين في نهاية القرن الأوّل وأوائل الثاني ، حتّى قام البخاري بتأليف أسماه « خلق الأعمال ».
    قال الشيخ المفيد: « إنّ الخلق يفعلون ، و يحدثون ، ويخترعون ، ويصنعون ، ويكتسبون ، ولا أطلق القول عليهم بأنّهم يخلقون ولا لهم خالقون ، ولا أتعدّى ذكر ذلك فيما ذكر الله تعالى ، ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن ، وعلى هذا القول إجماع الإماميّة ، والزيديّة ، والبغداديّين من المعتزلة ، وأكثر المرجئة ، وأصحاب الحديث ، وخالف فيه البصريّون من المعتزلة ، و أطلقوا على العباد أنّهم خالقون ، فخرجوا بذلك من إجماع المسلمين » (1).
    أمّا القرآن فلم يصف فعل الإنسان بما هو فعله من دون أن يحدث هيئة أو تركيباً بالخلق إلاّ في مورد واحد ، قال سبحانه: ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً و تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) ( العنكبوت / 17 ) مع أنّه يحتمل أن يكون الخلق فيه بمعنى الكذب.
    قال في اللّسان: « الخلق: الكذب. وخلق الكذب والإفك: افتراه ، ابتدعه. ومنه قوله سبحانه: ( وتخلقون إفكا ) و منه أيضاً قوله سبحانه: ( إنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلين ) أي كذب الأوّلين (2).
    نعم ، وصف القرآن عمل المسيح بالخلق ، لكن في مورد خاصّ وهو إحداث صورة وهيئة وتركيب في الخارج. فعندما جعل من الطّين كهيئة الطّير ، خاطبه سبحانه بقوله: ( وإذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتكونُ طَيراً بِإِذْنِي ) ( المائدة / 110 ) وعليه يحمل قوله سبحانه: ( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ خَالِقِينَ ) ( المؤمنون / 14 ).
    وأمّا في غير هذه الصورة ، كالفعل المجرّد عن إحداث شيء مثل المشي و القعود ،
    1 ـ اوائل المقالات: ص 25.
    2 ـ لسان العرب: مادة خلق.


(357)
    فلم يعهد توصيفه بالخلق ، وإنّما حدث هذا الاصطلاح ( أي خلق الأفعال و الأعمال ) في أواخر القرن الأوّل و أوائل الثاني. ولأجل ذلك تنصرف الاطلاقات الواردة في القرآن الكريم من أنّه خالق كلّ شيء إلى غير أفعاله.
    هذا من حيث القرآن. وأما اللّغة ، فالظاهر من « اللّسان » التفريق بين الخلق بمعنى الانشاء على مثال أبدعه ، والخلق بمعنى التّقدير ، والأوّل يختصّ بالله سبحانه ، والثاني يعمّه و غيره ، وعليه حملوا قوله سبحانه: ( أحسن الخالقين ) ( أي المقدّرين ).
    قال في اللّسان: « الخلق بمعنى التقدير ، وخلق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع ، وقاسه ليقطع منه » (1).
    ولأجل ذلك ، فالأولى في عنوان البحث مكان خلق الأعمال أن يقال: هل أفعال العباد مستندة إلى الله سبحانه فقط ، أو إلى العباد فقط ، أو إليهما معاً ، أو ما يشبه ذلك؟
    11 ـ إنّ الأبحاث العقليّة لا تدور مدار صحّة التّسمية. فسواء أصحّ توصيف أفعال العباد بالخلق أم لا ، ففعل الإنسان بما أنّه من الموجودات الامكانيّة ، لا يخرج من كتم العدم إلى حيِّز الوجود إلاّ بعلّة واجبة أو ممكنة منتهية إلى الواجب. فعلى الأوّل يكون فعلاً مباشرياً له ، وعلى الثاني يكون فعلاً تسبّبياً له.
    وبذلك يظهر بطلان كلا المذهبين ، أمّا الجبر ـ وهو تصوير أنّ العلّة التامّة للفعل هو الواجب ـ فيلزم من كون الفعل الصادر من العبد فعلاً مباشريّاً للواجب ، وكيف يمكن أن يكون الأكل ، والشرب ، والمشي ، والقعود أفعالاً له مع انّ ماهيات هذه الأفعال واقعة بأعمال الجوارح من الإنسان.
    وأمّا التفويض ـ وهو تصوير استقلال العبد في مقام الفعل والعمل ـ فلازمه كون الإنسان فاعلاً واجباً في مقام الفعل غير محتاج إلى الواجب في عمله ، ومرجعه إلى الثّنويّة في الاعتقاد ، والشرك في الفاعليّة.
    1 ـ لسان العرب: مادة خلق.

(358)
    فلا مناص من رفض القولين واختيار مذهب بين المذهبين الّذي يدعمه العقل ، والكتاب ، وأحاديث العترة الطاهرة. ومن أراد الوقوف على حقيقته فعليه بالمؤلفات الكلامية لأصحابنا الإماميّة.
    12 ـ إنّ الجنوح إلى التّفويض لأحد أمرين أو كليهما :
    ألف ـ كون الحادث في حدوثه محتاجاً إلى الواجب لا في بقائه. فإذا كان هذا حال الذات فيكون الفعل الصادر عنها غير مستند إليه بوجه أولى؟!
    ب ـ لو كان الفعل مستنداً إلى خالق العبد ونفسه يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد. ولأجل إيضاح حال كلا الدّليلين نبحث عن كلّ منهما مستقلاّ ً.
مناط الحاجة إلى العلّة هو الامكان لا الحدوث
    إنّ هذا الأصل ( كون مناط الحاجة إلى العلّة هو الحدوث لا الامكان ) الّذي بنت عليها المفوِّضة نظريّتهم في أفعال العباد ، بل و آثار كلِّ الكائنات ، باطل من وجوه:
    الوجه الأوّل: إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الامكان أي عدم كون وجوده نابعاً من ذاته ، أو كون الوجود والعدم بالنّسبة إلى ذاته متساويين ، وهذا الملاك موجود في حالتي البدء والبقاء. وأمّا الحدوث فليس ملاكاً للحاجة فإنّه عبارة عن تحقّق الشّيء بعد عدمه و مثل هذا ، أمر انتزاعيّ ينتزع بعد اتّصاف الماهيّة بالوجود ، وملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.
    إنّ الحدوث أمر منتزع من الشّيء بعد تحقّقه ، و يقع في الدرجة الخامسة من محلّ حاجة الممكن إلى العلّة ، وذلك لأنّ الشيء يحتاج أوّلاً ، ثمّ تقترنه العلّة ثانياً ، فتوجده ثالثاً ، فيتحقّق الوجود رابعاً ، فينتزع منه وصف الحدوث خامساً. فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الّذي يجب أن يكون في المرتبة الاُولى ، وقد اشتهر قولهم : الشيء قرّر ( تصوّر ) ، فاحتاج ، فأُوجد ، فوجد ، فحدث.


(359)
    وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشّيء ( الماهيّة ) متساوي النّسبة إلى الوجود والعدم ، وأنّه بذاته لا يقتضي شيئاً واحداً من الطّرفين ، ولا يخرج عن حدِّ الاستواء إلاّ بعلّة قاهرة تجرّه إلى أحد الطّرفين و تخرجه عن حالة اللاّاقتضاء إلى حالة الاقتضاء.
    فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك ( إنّ الشيء بالنّظر إلى ذاته لا يقتضي شيئاً ) فهو موجود في حالتي الحدوث و البقاء ، والقول باستغناء الكون في بقائه عن العلّة ، دون حدوثه ، تخصيص للقاعدة العقليّة الّتي تقول: إنّ كلّ ممكن ما دام ممكناً ، بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته ، يحتاج إلى علّة ، وتخصيص القاعدة العقليّة مرفوض جدّاً.
    ويشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الاصفهاني ( 1296 ـ 1361 ) في منظومته إلى هذا الوجه بقوله :
والافتقار لازم الامكان لا فرق ما بين الحدوث والبقا من دون حاجة إلى البرهان في لازم الذّات ولن يفترقا
    الوجه الثاني : إنّ القول بأنّ العالم المادّي بحاجة إلى العلّة في الحدوث دون البقاء ، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلّة دون الأبعاد الاُخرى. فإنّ لكلِّ جسم بعدين ، بعداً مكانياً و بعداً زمانياً ، فامتداد الجسم في أبعاده الثّلاثة ، يشكّل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزّمان يشكّل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه ذو أبعاد مكانيّة وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات والأيّام ذو أبعاد زمانيّة ، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختصّ ببعض أجزائه و أبعاضه ، بل الجسم في كلِّ بعد من الأبعاد المكانيّة محتاج إلى العلّة ، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزّمانيّة ، حدوثاً وبقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات المتتالية ، فالتّفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزّماني والمكاني وجهان لعملة واحدة ، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التّفكيك بينهما.
    وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظلّ الحركة الجوهريّة ، في تبدّل


(360)
    مستمرّ و تغيّر دائم ، نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة العالم المادّي ، فذوات الأشياء في تجدّد دائم وانتثار متواصل والعالم حسب هذه النظريّة أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر ، فالنّاظر الساذج يتصوّر أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والنّاظر الدقيق يقضي على أنّ الصّور تتبدّل حسب جريان الماء و سيلانه ، فهناك صور مستمرّة.
    وعلى ضوء هذه النظرية ، العالم المادّي أشبه بعين نابعة من دون توقّف حتّى لحظة واحدة ، فإذا كان هذا حال العالم المادّي ، فكيف يصحّ لعاقل أن يقول إنّ العالم ، ومنه الإنسان ، إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه ، مع أنّه ليس هنا أيّ بقاء و ثبات ، بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوال بعد زوال ، على وجه الاتصال و الاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء وهو في حال الزّوال و التبدّل والسيلان ( وتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) ( النمل / 88 ) (1).
    الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعيّة المعلول و نسبته إلى علّته ، فإنّ وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنّسبة إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث: التصوّر ، والدّلالة ، والتّحقق ، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث والبقاء.
    فإذا كان هذا حال المقيس عليه فاستوضح منه حال المقيس. فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود ، وهو لا يخلو عن إحدى حالتين: إمّا وجود واجب ، أو ممكن ، والأوّل خلف لأنّ المفروض كونه معلولاً ، فثبت الثاني ، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه ( أي الامكان ). فكما هو ممكن حدوثاً ممكن بقاء ، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات. لأنّ الاستغناء آية انقلابه عن الامكان إلى الوجوب وعن الفقر إلى الغنى.
    1 ـ البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل. لاحظ كتاب ( الله خالق الكون: ص 514 ـ 560 ) تجد فيه بغيتك.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس