بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 361 ـ 370
(361)
    نعم ، ما ذكرنا من النّسبة إنّما يجري في العلل والمعاليل الإلهيّة لا الفواعل الطّبيعيّة ، فالمعلول الإلهي بالنّسبة إلى علّته هو ما ذكرنا ، والمراد من العلّة الإلهيّة مفيض الوجود ومعطيه ، كالنّفس بالنسبة إلى الصّور الّتي تخلقها في ضميرها ، والارادة الّتي توجدها في موطنها ، ففي مثل هذه المعاليل تكون نسبة المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.
    وأمّا الفاعل الطّبيعي ، كالنّار بالنّسبة إلى الاحراق ، فخارج عن إطار بحثنا ، إذ ليس هناك علّيّة حقيقيّة ، بل حديث العلّيّة هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النّار إلى الحرارة ، وذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائيّة و الكيميائيّة ، فالعلّيّة هناك تبدّل عنصر إلى عنصر في ظلّ شرائط و خصوصيات توجب التبدّل ، و ليس هناك حديث عن الايجاد و الاعطاء.
    وعلى ذلك فالتّفويض ـ أي استقلال الفاعل في الفعل ـ يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجباً في جهتين:
    الاُولى: الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.
    الثانية: الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذّات.
    الوجه الرابع: إنّ القول بالتّفويض يستلزم الشّرك ، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين أحدهما العلّة العليا الّتي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان ، والاُخرى الإنسان بل كلّ الكائنات ، فإنّها تستقلّ بعد الخلقة والحدوث في بقائها أوّلاً ، وتأثيراتها ثانياً.
    فلو قالت المعتزلة بالتّفصيل بين الكائنات والإنسان و نسبت آثار الكائنات إلى الواجب ، فهو لأجل أنّها لا تزاحم العدل دون الإنسان ، وعلى ما ذكرنا يكون التفصيل بلا دليل.
    ثمّ إنّ القوم استدلّوا على المسألة العقليّة ( غناء الممكن في بقائه عن العلّة ) ، بالأمثلة المحسوسة ، منها: بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البنّاء والصانع ، ولكنّ


(362)
    التّمثيل في غير محلّه ، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة أي ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلاً عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوعات فهو مرهون للنّظم السائد فيهما ، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعيّة الكامنة فيه ، الّتي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع ، وأمّا الهيئة والشّكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة ، فتحصّل من المجموع هيئة خاصّة وليس لهما فيها أيضاً صنع.
تمثيلان لإيضاح الحقيقة
    الحقّ إنّ قياس المعقول بالمحسوس الّذي ارتكبته المعتزلة ـ لو صحّت النسبة ـ قياس غير تامّ ، ولو أراد المحقّق القياس والتّمثيل فعليه أن يتمسّك بالمثالين التّاليين:
    الأوّل: إنّ مثل الموجودات الإمكانيّة بالنسبة إلى الواجب ، كمثل المصباح الكهربائي المضيء ، فالحسّ الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضّوء الأوّل ، ويتصوّر أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولِّد الكهربائي في حدوث الضّوء دون استمراره. والحال إنّ المصباح فاقد للاضاءة في مقام الذّات ، محتاج في حصولها إلى ذلك المولِّد في كلِّ لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة ، من المولّد الكهربائي ، أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتّصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً ، فهو لكونه فاقداً للوجود الذّاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن ، وزماناً بعد زمان.
    الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعّتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائماً بتقطير الماء عليها ، وإفاضته بما يشبه الرذاذ (1) ، فإنّ هذا الأمر يتوقّف على استمرار تقاطر الماء عليها ، ولو انقطع لحظة ساد
    1 ـ المطر الضعيف

(363)
    عليها الجفاف ، وصارت يابسة.
    فمثل الممكن يتّصف بالوجود باستمرار ، مثل هذه الأرض المتّصفة بالرطوبة دائماً ، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آناً بعد آن ، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آناً بعد آن ، ولو انقطع الفيض والصِّلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.
تعلّق مقدور واحد بقادرين أو قدرتين
    قد سبق أن القاضي اعتمد على هذا الوجه (1) في نفي صلة فعل العبد بالله سبحانه ، وزعم أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقه للّه سبحانه يستلزم تعلّق المقدور الواحد بقادرين أو بقدرتين ، وهذا أمر محال سواء أكانا حادثين أم قديمين ، أم كان أحدهما حادثاً والآخر قديماً.
    وقد خصّص القاضي الجزء الثّامن من أجزاء موسوعته « المغني » بالجبر والاختيار ، وأسماه « المخلوق » ويشتمل على عشرين فصلاً ، عرض فيها آراء المعتزلة المتنوِّعة في خلق الأفعال وناقش خصومهم ، وردّ على شبهاتهم.
    وقد عقد فصلاً خاصّا (2) لهذا الأمر ، واستدلّ على الامتناع بأدلّة عشر أو أزيد ، وهو أبسط الفصول وأوسعها من بينها ، وقد فات على القاضي تحرير محلِّ النّزاع ، وأنّ المراد من القدرتين ما هو. فهل المراد القدرتان العرضيّتان أو الطوّليتان؟
    فإن كان المراد هو الاُولى فاستحالة اجتماع قدرتين تامّتين عرضيّتين على مقدور واحد لا يحتاج إلى الاطناب الّذي ارتكبه القاضي ، لأنّه ينتهي إلى خلف الفرض ، وتخرج العلّة التامّة عن كونها علّة تامّة ، وتصير علّة ناقصة.
    لأنّ المقدور بعد التحقّق إمّا أن ينسب إلى كلتا القدرتين ، بحيث يكون لكلِّ منهما تأثير و دخالة ، فتعود العلّة التامّة إلى العلّة الناقصة ، والقادر التامّ إلى القادر غير
    1 ـ لاحظ ص 350 من هذا الجزء.
    2 ـ المغني: الجزء 8 ، ص 109 ـ 161.


(364)
    التامّ وهو خلف الفرض ، وهذا كما إذا اشترك رجلان في رفع الصّخرة ، مع قدرة كلِّ منهما على الرّفع وحده. فعند ذاك لا يعدّ كل منهما علّة تامّة في مقام الرفع.
    وإمّا أن ينسب إلى واحدة منهما دون الاُخرى ، وهذا هو المطلوب.
    وإمّا أن لا ينسب إلى واحدة منهما ، فكيف خرج عن كتم العدم ، مع أنّ حاجة الحادث إلى العلّة أمر واضح.
    وأمّا اجتماع قدرتين عرضيّتين لكن ناقصتين على مقدور واحد ، فلا يترتّب عليه محذور أبداً.
    واللائق بالبحث غير هاتين الصورتين ، فإنّ قدرة الله سبحانه و قدرة العبد ليستا في عرض واحد ، بل الثانية في طول الاُخرى ، فهو الّذي خلق العبد ، وحباه القدرة ، وأقدره على الايجاد وهو في كلِّ آن و حين يستمدُّ من مواهب ربّه. فالعبد وكلّ ما في الكون من علل وأسباب ، جنوده و قواه ، بين فاعل بالاختيار ، ومؤثّر بالاضطرار. فللفعل صلة بقدرة العبد ، كما أنّ له صلة بالله سبحانه و قدرته. وبوجه بعيد كالرؤية والسّماع ، فهما فعلان للأجهزة الظاهريّة من العين والسمع ، وفي الوقت نفسه فعلان للنفس القاهرة على قواه الباطنيّة والظاهريّة. فاجتماع قدرتين مثل هاتين لا يستلزم شيئاً من الاشكالات.
    إنّ المعتزلة لم تجد في حلِّ مشكلة فعل الإنسان إلاّ سلوك أحد الطّريقين و زعمت أنّه لا طريق غيرهما ينتهي أحدهما إلى الجبر ، والآخرى إلى التفويض.
    1 ـ صلة الفعل بالله سبحانه و انقطاعه عن العبد ، فعند ذاك يقال: فعلام يحاسَب العبد ويعاقب؟
    2 ـ نسبة الفعل إلى العبد و انقطاعه عن بارئه ، فيسأل: هل هناك أفعال تجاوز قدرة الله وهل يصدر في ملكه ما لا يريد؟
    فالأشاعرة استسهلوا الاشكال الأوّل ونسبوا الفعل إلى الله سبحانه و صوّروا العبد محلاً لارادته و قدرته سبحانه ، من دون أن يقميوا لإرادة العبد و قدرته و زناً وقيمة.


(365)
    والمعتزلة اختارت الثاني واستسهلت وقوع ظاهرة خارجة عن سلطانه سبحانه.
    ولو أنّ القوم وقفوا على الطّريق الثالث الّذي يتنزّه عن فساد المسلكين و يجمع مزيّتهما ، لأعرضوا عنهما والتجأوا إلى الحقّ اللاّحب وهو القول بالأمر بين الأمرين ، فللفعل صلة لخالق العبد ، كما أنّ له صلة لفاعل الفعل ، ولكنّ المسؤولية متوجّهة على العبد ، إذ هو الّذي يصرف القدرة الموهوبة عن اختيار فيما يختاره من الأفعال و يعمل من الأعمال. وسوف تقف على حقيقة الحال عند بيان عقائد الإماميّة فانتظر.

المسألة الثالثة:
في تقدّم الاستطاعة على الفعل
    اختلفت المعتزلة والأشاعرة في تقدّم القدرة على المقدور ، فالطّائفة الاُولى على لزوم تقدُّمها عليه والثانية على لزوم المقارنة بينهما.
    وكان الأولى البحث عن هذه المسألة فى باب القدرة. غير أنّ القاضي طرحه في باب العدل و قال: « ووجه اتّصاله به أنّه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور ، تكليف ما لا يطاق و ذلك قبيح ، ومن العدل أن لا يفعل القبيح ».
    ثمّ استدلّ على مذهبه بوجهين:
    الأوّل: لو كانت القدرة مقارنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ، إذ لو أطاقه لوقع منه ، فلمّا لم يقع دلّ على أنّه كان غير قادر عليه. وتكليف ما لا يطاق قبيح.
    الثّاني: إنّ القدرة صالحة للضدّين ، فلو كانت مقارنة لهما لوجب بوجودها وجود الضّدّين ، فيجب في الكافر وقد كلّف بالإيمان ، أن يكون كافراً مؤمناً دفعة واحدة ، وذلك محال (1).
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 396.

(366)
    يلاحظ على الاستدلال الأوّل: أنّه مبنيّ على تفسير القدرة بالعلّة التامّة الّتي يكون الفعل معها ضروريّ الوجود فيصحّ كلّ ما جاء فيه. وذلك لأنّ التّكليف مشروط بالقدرة ، والقدرة المفسّرة بالعلّة التامّة لا تنفكّ عن المقدور. فيستكشف عند عدم اعتناقه له بعد التّكليف ، فقدان القدرة والطّاقة ، إذ لو كانت لآمنت ، لاستحالة انفكاك العلّة التامّة عن معلولها. فيلزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.
    هذا ، ولكنّ المستدلّ غفل عن أنّ المراد من القدرة هو الاستعداد للفعل بحيث لو أراد وقع ، ومثل هذا لا يستلزم وجود المقدور ، ولا يستكشف من عدمه عدمه ، لأنّ الاستعداد للفعل ليس علّة تامّة للمقدور.
    فللأشعري أن يلتزم باقتران القدرة للفعل في تكليف أبي جهل ، ولا يترتّب عليه أيّ تال فاسد عند امتناعه.
    ويلاحظ على الثاني: أنّه فسِّرت القدرة فيه على خلاف ما فسّرت به في الدّليل الأوّل. ومبنى استدلاله في هذا الدّليل هو تفسير القدرة بالعلّة الناقصة والاستعداد ، لوضوح أنّ القدرة بهذا المعنى صالحة للضدّين ، لا القدرة بمعنى العلّة التامّة ، فلو قلنا باقترانها بالمقدور يصحّ أن نقول: إنّ القدرة صالحة للضدّين ولكن لا يلزم منه أن يكون مؤمناً و كافراً.
    وبالجملة: كونها صالحة للضدّين مبنيّ على كونها علّة ناقصة ، ولزوم كون الإنسان مؤمناً وكافراً معاً ، مبنيّ على كونها علّة تامّة. فالاستدلال الواحد مبنيّ على مبنيين مختلفين.
    والحقّ إنّ المسألة غير منقّحة في كلام الطّائفتين ، إذ لم ينقّح موضوع البحث ، ولا المراد من القدرة. فالحقّ هو التّفصيل بين القدرة بمعنى الاقتضاء فهي مقدّمة على الفعل ، والعلّة التامّة فمقارنة له (1).
    1 ـ لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا: ص 172.

(367)
المسألة الرابعة:
في قبح التكليف بما لا يطاق
    القول بجواز التّكليف بما لا يطاق نشأ من المسألة السابقة. ولو كانت السابقة منقّحة من حيث الموضوع والحكم ، لما اندفعت الأشاعرة إلى اختيار الجواز في هذه المسألة الّتي يشهد العقل السّليم بقبحه أوّلاً وعدم إمكانه ثبوتاً ثانياً ، إذ كيف يريد الإنسان بالارادة الجدّيّة الركض من الفالج ، والنّكاح من الطّفل الرضيع؟
    ولكنّهم لمّا فسّروا القدرة بالعلّة التامّة من جانب ، واعتقدوا بلزوم اقترانها بالمقدور من جانب آخر ، واستنتجوا من عدم الاعتناق عدم القدرة ، فلزمهم عند تكليف الكفّار بالإيمان وعدم اعتناقهم ، القول بجواز التّكليف بما لا يطاق ، وإنّه كان هناك تكليف للكافر ، ولم تكن له طاقة ، وذلك لأنّه لو كانت له طاقة لآمن قطعاً. فبقاؤه على الكفر يكشف عن عدم قدرته ، إذ لو كانت لآمن قطعاً لحديث امتناع الانفكاك. فينتج أنّ التّكليف كان موجوداً ولم يكن هناك قدرة.
    غير أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده ، لو فسّروا القدرة الّتي هي من شرائط التّكليف بمعنى العلّة الناقصة والاقتضاء ، لما لزمهم الالتزام بهذه النّتيجة الفاسدة ، حتّى ولو قالوا بلزوم الاقتران. ففي مورد أبي جهل و أبي لهب كان هناك تكليف أوّلاً ، وطاقة بمعنى الاستعداد والاستطاعة على نحو لو أراد كلّ لآمن ثانياً ، وكانت القدرة بهذا المعنى مقارنة للتّكليف ثالثاً. ولكن عدم إيمانه و إصراره على الكفر ، لايكشفعنفقدان الشّرط ، لأنّ الاستطاعة بمعنى الاقتضاء أعمّ من تحقّق المعلول معها وعدمه.
    والعجب أنّ هؤلاء استدلّوا بآيات على ما يتبنّونه من جواز التّكليف بالقبيح. وبذلك عرّفوا الإسلام والقرآن مناقضين للفطرة و حكم العقل و إدراك العقلاء ـ أعاذنا الله من سوء الموقف.


(368)
    وبما أنّ الاجابة عن الاستدلال بالآيات واضحة ، طوينا الكلام عن استدلالاتهم ، روماً للاختصار ولما سبق منّا في الجزء الثاني في تحليل عقائد الأشعري (1).

المسألة الخامسة:
في أنّ الله لا يريد المعاصي
    ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يكون سبحانه مريداً للمعاصي. وأوضح القاضي وجه صلة هذا البحث بباب العدل بأنّ الارادة فعل من الأفعال ، ومتى تعلّقت بالقبيح كانت واجبة لا محالة ، وكونه تعالى عدلاً يقتضي أن تنفى عنه هذه الارادة (2).
    المعتزلة ينظرون إلى المسألة من زاوية التّنزيه فيتصوّرون أنّ تنزيه الرّبِّ يتحقق بعدم تعلّق إرادته بالقبائح ، لأنّ من أراد القبيح يتّصف فعله بالقبح و يسري إلى الفاعل ، بينما يريد الأشعري تعظيم الرّبّ ، وأنّه لا يكون في ملكه ما لا يريد ويذهب إلى سعة إرادته.
    وقد نقل التفتازاني في « شرح المقاصد » أنّه دخل القاضي عبد الجبّار ( ت 415 هـ ) دار الصاحب بن عبّاد ( ت 385 هـ ) فرأى الاُستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني ( ت 413 هـ ) ، فقال القاضي: « سبحان من تنزّه عن الفحشاء » ( مزدرياً بالاسفرائيني بأنّه لأجل القول بسعة إرادته يصفه سبحانه بالفحشاء ) فأجابه الاسفرائيني بقوله: « سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء » إيماءً بأنّ القاضي لأجل قوله بضيق إرادته سبحانه ، يعتقد بأنّ هناك أشياء تقع في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته » (3).
    لكنّ القولين بين الافراط والتّفريط. وما يتبنّيانه من الغاية ( التّنزيه و التّعظيم ) يحصل برفض القولين ، والاعتناق بالقول الثّالث الّذي هو مذهب بين المذهبين ، وأمر
    1 ـ لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: ص 193.
    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 431.
    3 ـ انظر شرح المقاصد: ج 2 ، ص 145.


(369)
    بين الأمرين.
    وهذا المذهب هو المرويّ عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ويوافقه العقل و تؤيّده نصوص الكتاب ، وهو جامع بين المزيّتين و منزّهٌ عن شناعة القولين.
    فالمعتزلة ، وإن أصابوا في تنزيه الرّبّ عن القبائح ، لكنّهم أخطأوا في تحديد سلطنته بإخراج أفعال عباده عن إحاطة إرادته و سلطنته وملكه ، فصوّروا الإنسان فاعلاً يفعل بارادته ، ويعمل بمشيئته مستقلاً بلا استمداد من ارادته ومشيئته سبحانه.
    والأشاعرة ، وإن أصابوا في إدخال أفعال العباد في ملكه و سلطنته ، لكنّهم أخطأوا في جعل أفعال العباد مرادة للّه بالارادة المباشريّة. فصار هناك مريد واحد وهو الله سبحانه و غيره من الفواعل مظاهر إرادته. وهذا يستلزم كونه سبحانه هو المسؤول عن القبائح لكونه الفاعل لها.
    وأمّا القول الثالث فهو عبارة عن سعة إرادته لكلِّ ظاهرة امكانيّة ، لكن لا بمعنى كونه سبحانه هو المصدر المباشر لكلِّ شيء ، بل بمعنى أنّه تعلّقت إرادته على صدور كلِّ فعل عن فاعله بما فيه من الخصوصيّات ، فلو صدر عنه بلا هذه الخصوصيّات لزم تخلّف مراده عن إرادته ، فتعلّقت ارادته سبحانه على كون النّار مصدراً للحرارة بلا علم و شعور ، بل عن جبر واضطرار. كما تعلّقت إرادته على صدور فعل الإنسان عنه باختيار ذاتيّ و حرّيّة فطريّة.
    وباختصار ، شاء أن يكون الإنسان مختاراً في فعله و عمله. فإذا اختار و فعل فقد فعل بارادته ، كما فعل بارادة الله سبحانه. وليست الارادة الأزليّة منافية لحرّيّته و اختياره ، وقد أوضحنا ذلك في أبحاثنا الكلاميّة (1). فلاحظ.
    وهناك كلام للشّهيد الأجلّ محمّد بن مكّي ( المتوفى عام 786هـ ) عند بحثه عن تضافر الأخبار على أنّ صلة الأرحام تزيد في العمر ، يقرب ممّا ذكرناه ، قال ( قدّس سرّه ) :
    1 ـ لاحظ: الالهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، ص 632 ، والجزء الثاني من هذه الموسوعة ، ص 302.

(370)
     « أُشكل هذا بأنّ المقدّرات في الأزل ، والمكتوبات في اللّوح المحفوظ لا تتغيّر بالزيادة والنقصان لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى ، وقد سبق العلم بوجود كلِّ ممكن أراد وجوده و بعدم كلِّ ممكن أراد بقاءه على حالة العدم أو إعدامه بعد ايجاده ، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر و نقصانه بسبب من الأسباب؟ ».
    ثمّ أجاب وقال: « إنّ الله تعالى كما علم كميّة العمر ، علم ارتباطه بسببه المخصوص ، وكما علم من زيد دخول الجنّة ، جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة ، من إيجاده ، وخلق العقل له ، وبعث الأنبياء و نصب الألطاف ، وحسن الاختيار ، والعمل بموجب الشّرع ، فالواجب على كلِّ مكلّف الاتيان بما أُمر به ، ولا يتّكل على العلم ، فإنّه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه.
    وبالجملة: جميع ما يحدث في العالم ، معلوم للّه تعالى على ما هو عليه واقع ، من شرط أو سبب وليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر إلاّ كنصب الإيمان سبباً في دخول الجنّة » (1).
    ولو أمعنت فى أطراف كلامه تجد أنّه ( قدّس الله سرّه ) يشير إلى نفس الجواب الّذي بيّناه خصوصاً قوله « جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة من إيجاده.. وحسن الاختيار » وقوله: « جميع ما يحدث في العالم معلوم للّه تعالى على ما هو عليه... ».

المسألة السادسة:
في وجوب اللّطف
    اشتهرت العدليّة بوجوب اللّطف (2) على الله سبحانه ، وخالفتهم الأشعريّة وبشر
    1 ـ القواعد والفوائد: ج 2 ، ص 56 ، القاعدة 163.
    2 ـ المراد من الوجوب كونه مقتضى الحكمة ، أو الجود والكرم ، لا الوجوب بالمعنى المتبادر في أوساط الناس من حاكمية العباد على الله ، وكون تركه مستلزماً للذم واللوم أو العقاب ، وعلى ذلك فالحكم مستكشف العقل باعتبار ملاحظة أوصافه الجميلة. وعلى أيّ تقدير فمن قال به فإنما قال به من باب الحكمة ، تحصيلاً لهدف الخلقة ، أو هدف التكليف ، أو من باب الجود والكرم ، وأما إيجابه من باب العدل فلم يعلم له معنى محصل.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس