بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 371 ـ 380
(371)
    ابن المعتمر من معتزلة بغداد ، وإيضاح الحقّ يستدعي البحث عن أُمور:
الأوّل : تعريف اللّطف و بيان حقيقته و أقسامه.
    إنّ اللّطف ، في اصطلاح المتكلّمين ، يوصف بوصفين:
    1 ـ اللّطف المُحَصِّل.
    2 ـ اللّطف المُقَرِّب.
    وهناك مسائل تترتّب على اللّطف بالمعنى الأوّل ، ومسائل أُخرى تترتّب على اللّطف بالمعنى الثاني ، وربّما يؤدّي عدم التّمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتّب على الأوّل بما يترتّب على الثاني.. ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كلّ منهما بنحو مستقل.
1 ـ اللُّطف المحصِّل
    اللُّطف المحصِّل: عبارة عن القيام بالمبادئ والمقدّمات الّتي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة ، وصونها عن العبث واللّغو ، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدّمات من جانبه سبحانه ، لصار فعله فارغاً عن الغاية ، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرّز عن العبث ، وذلك كبيان تكاليف الإنسان و إعطائه القدرة على امتثالها.
    ومن هذا الباب بعث الرّسل لتبيين طريق السّعادة ، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلّة السابقة ، أنّ الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة ، أو يهتدي إلى طريق السّعادة في الحياة بالاعتماد على عقله ، والاستغناء عن التّعليم السماوي.
    و وجوب اللّطف بهذا المعنى ، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه ، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتّفق عليه العقل والنقل (1). وإنّما الكلام في « اللّطف المقرِّب » ، وإليك البيان فيه:
    1 ـ لاحظ سورة الذاريات: الآية 56 وسورة المؤمنون: الآية 115.

(372)
2 ـ اللُّطف المقرِّب
    اللّطف المقرِّب: عبارة عن القيام بما يكون محصِّلا لغرض التّكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه و ذلك كالوعد والوعيد ، والتّرغيب و التّرهيب ، الّتي تستتبع رغبة العبد إلى العمل ، وبعده عن المعصية (1).
    وهذا النّوع من اللّطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطّاعة ، بل هو قادر على الطّاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا ، فإنّ القدرة على الإمتثال رهن التعرّف على التّكليف عن طريق الأنبياء ، مضافاً إلى إعطاء الطّاقات الماديّة ، والمفروض حصول هذه المبادئ والمقدّمات ، غير أنّ كثيراً من النّاس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على التّكليف ما لم يكن هناك وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب ، فهذا النوع من اللّطف قد وقع موقع النِّقاش بين المتكلِّمين.
    والحقّ هو القول بوجوب اللّطف إذا كان غرض التّكليف ( لا غرض الخلقة ) موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين.
    مثلاً لو فرضنا أنّ غالب المكلّفين ، لا يقومون بتكاليفهم بمجرّد سماعها من الرّسل ـ وان كانوا قادرين عليها ـ إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب ، وجب على المكلِّف القيام بذلك ، صوناً للتّكليف عن اللّغوية ، ولو أهملها المكلِّف ترتّب عليه بطلان غرضه من التّكليف ، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.
    وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوّع من اللّطف. يقول سبحانه:

    1 ـ عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية ، من دون أن يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة ، ولا يبلغ حدّ الالجاء.
فخرج بالقيد الأوّل ( لم يكن له حظ... ) اللطف المحصّل ، فإنّ له دخالة في تمكين المكلّف من الفعل بحيث لولاه لانتفت القدرة.
وخرج بالقيد الثاني ( لا يبلغ حدّ الإلجاء ) الإكراه والإلزام على الطاعة والاجتناب عن المعصية ، فإنّ ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية والاختيار في المكلف ( لاحظ: كشف المراد ، ص 201 ، ط صيدا ).
وقال القاضي عبد الجبار: « اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح ، أو ما يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح » ( شرح الاصول الخمسة: ص 519 ).


(373)
( وَبَلَوناهُم بالحَسَناتِ والسّيئاتِ لعلَّهُم يَرجِعون ) ( سوره الأعراف / 168 )
    والمراد من الحسنات والسّيئات ، نعماء الدّنيا و ضرّاؤها ، و كأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطّاعة.
    و يقول سبحانه: ( وما أرسَلْنَا في قَرْيَة مِن نَبِىّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبَأْساءِ و الضََّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضّرّعُون ) ( سوره الأعراف / 94 ) وفي الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللّطف ، ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل رسله لإِبلاغ تكاليفه إلى العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال ( اللّطف المحصِّل ) ، غير أنّ الرّفاه و الرّخاء و التوغّل في النّعم المادّية ، ربّما يسبِّب الطّغيان وغفلة الإِنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء ، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضرّاء ، لعلّهم يَضّرّعون ويبتهلون إلى الله تعالى.
    ولأجل ذلك نشهد أنّ الأنبياء لم يكتفوا باقامة الحجّة والبرهان ، والإتيان بالمعاجز ، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشِّرين و منذرين ، وكان التّرغيب والتّرهيب من شؤون رسالتهم ، قال تعالى: ( رُسُلاً مُبَشِّرين و مُنذِرينَ ) ( سورة النساء / 165 ) و الإنذار والتّبشير دخيلان في رغبة النّاس بالطّاعة و ابتعادهم عن المعصية.
    وفي كلام الإِمام عليّ ( عليه السلام ) إشارة إلى هذا:
    قال ( عليه السلام ) : « أيّها الناس ، إنّ الله تبارك و تعالى لمّا خلق خلقَه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة ، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم ، والتّعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنّهي (1) ، والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلاّ بالتّرغيب ، والوعيد لا يكون إلاّ بالتّرهيب ، والتّرغيب لايكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذّه أعينهم ، والتّرهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك... الخ » (2).
    وقوله ( عليه السلام ) : « والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد » إشارة إلى أنّ
    1 ـ هذا إشارة إلى اللطف المحصل.
    2 ـ بحار الأنوار ، ج 5 ، كتاب العدل والمعاد ، الباب الخامس عشر ، الحديث 13 ، ص 316.


(374)
    امتثال الأمر و النّهي و نفوذهما في نفوس النّاس ، يتوقّف على الثّواب والعقاب ، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابيّة نحو التّكليف إلاّ من العارفين الّذين يعبدون الله تعالى ، لا رغبة ولا رهبة ، بل لكونه مستحقّاً للعبادة.
    فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقّق الرّغبة بالطّاعة ، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثريّة الساحقة من البشر ، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتّكليف عن اللّغو ، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.
    نعم ، إذا كانت هذه المبادئ كافية في تحريك الأكثريّة نحو الطّاعة ، ولكنّ القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصّة كاليسار في الرزق ، أو كثرة الرفاه ، فهل هو واجب على الله سبحانه؟ الظّاهر لا ، إلاّ من باب الجود والتّفضّل.
    وبذلك يعلم أنّ اللّطف المقرِّب إذا كان مؤثّراً في رغبة الأكثريّة بالطّاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة ، وأمّا إذا كان مؤثّراً في آحادهم المعدودين ، فالقيام به من باب الفضل والكرم. وبذلك تقف على مدى صحّة ما استدلّ به بعضهم على اللّطف في المقام ، أو سقمه.
    استدلّ القاضي عبد الجبّار على وجوب اللّطف بقوله: « إنّه تعالى كلّف المكلّف ، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثّواب ، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب ، واجتنب القبيح ، فلا بدّ من أن يفعل به ذلك الفعل و إلاّ عاد بالنّقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذ أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتّخذه ، وعلم من حاله أنّه لا يجيبه ، إلاّ إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره ، فإنّه يجب عليه أن يبعث ، حتّى إذا لم يفعل عاد بالنّقض على غرضه و كذلك هيهنا » (1).
    قال الشّهرستاني: « اللّطف عبارة عن كلِّ ما يوصل الإنسان إلى الطّاعة و يبعِّده عن المعصية ، ولمّا كان الله عادلاً في حكمه ، رؤوفاً بخلقه ، ناظراً لعباده ، لا يرضى لعباده
    1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 521.

(375)
    الكفر ، ولا يريد ظلماً للعالمين ، فهو لم يدّخر عنهم شيئاً ممّا يعلم أنّه إذا فعل بهم ، أتوا بالطّاعة والصّلاح » (1).
    وقال العلاّمة الحلي: « إنّ المكلِّف ـ بالكسر ـ إذا علم أن المكلّف ـ بالفتح ـ لايطيع إلاّ باللّطف ، فلو كلّفه من دونه ، كان ناقضاً لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعام ، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعاً من التّأدّب ، فإن لم يفعل الداعي ذلك النّوع من التأدّب كان ناقضاً لغرضه ، فوجوب اللّطف يستلزم تحصيل الغرض » (2).
    وقال الفاضل المقداد: « إنّا بيّنّا أنّه تعالى مريد للطّاعة و كاره للمعصية ، فإذا علم أنّ المكلّف لا يختار الطّاعة ، أو لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلاّ عند فعل يفعله به ، وذلك الفعل ليس فيه مشقّة ولا غضاضة ، فإنّه يجب في حكمته أن يفعله ، إذ لو لم يفعله لكشف ذلك ، إمّا عن عدم إرادته لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدّم ، أو عن نقض غرضه إذا كان مريداً له ، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.
    ويجري ذلك في الشّاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة ، وعرف أو غلب على ظنِّه أنّ ذلك الشّخص لا يحضر إلاّ مع فعل يفعله ، من إرسال رسول ، أو نوع ، أدب ، أو بشاشة ، أو غير ذلك من الأفعال ، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك ، فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه ، ونقض الغرض باطل ، لأنّه نقص ، والنّقص عليه تعالى محال ، ولأنّ العقلاء يعدّونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة » (3).
    وهذه البيانات تدلّ على أنّ اللّطف واجب من باب الحكمة.
    هذا كلام القائلين بوجوب اللّطف ، وهو على إطلاقه غير تامّ ، بل الحقّ هو التّفصيل بين ما يكون مؤثِّراً في تحقّق التّكليف بشكل عامّ بين المكلّفين ، فيجب من
    1 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 107.
    2 ـ كشف المراد: الفصل الثاني ، المسألة الثانية عشرة ، ص 325 ، ط قم 1407.
    3 ـ ارشاد الطالبين: ص 277 ـ 278.


(376)
    باب الحكمة ، وإلاّ فيرجع إلى جوده و تفضّله من دون إيجاب عليه.
    واستدلّ القائل بعدم وجوبه بقوله: « لو وجب اللّطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنّه ما من مكلّف إلاّ وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب القبيح ، فلمّا وجدنا في المكلّفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبيّن أنّ الألطاف غير واجبة على الله تعالى » (1).
    يلاحظ عليه: أنّ هذا المستدلّ لم يقف على حقيقة اللّطف ، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه ، فهو تصوّر أنّ اللّطف عبارة عمّا لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطّاعة وترك المعصية ، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوبه ، وعدم وجوده دليلاً على وجوبه ، مع أنّك قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرِّباً إلى الطّاعة و مبعِّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.
    يقول القاضي عبد الجبّار: « إنّ العباد على قسمين ، فإنّ فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنّب القبيح ، أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو خلافه حتّى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً » (2).
    ويؤيِّده ما ورد في الذِّكر الحكيم من أنّ هناك أُناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلِّ أنواع الآيات والمعاجز.
    قال سبحانه: ( وما تُغني الآياتُ و النُذُرُ عَن قول لا يُؤْمنون ) (3).
    وقال سبحانه: ( ولَئِن أَتَيْتَ الّذين أُوتُوا الكِتابَ بكلِّ آية ما تَبِعوا قِبلَتَك ) (4).
    وفي الختام نقول: إنّ اللُّطف سواء أكان المراد منه اللّطف المحصِّل أم اللّطف المقرِّب ، من شؤون الحكمة ، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللّغو والعبث ، لامناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة ، غير أنّ القول بوجوب اللّطف في المحصِّل
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 523.
    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 520.
    3 ـ سورة يونس: الآية 101.
    4 ـ سورة البقرة: الآية 145.


(377)
    أوضح من القول به في المقرِّب.
    ولكن يظهر من الشّيخ المفيد أنّ وجوب اللّطف من باب الجود والكرم ، قال: « إنّ ماأوجبه أصحاب اللّطف من اللّطف ، إنّما وجب من جهة الجود والكرم ، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه ، وأنّه لو لم يفعل لكان ظالماً » (1).
    يلاحظ عليه: أنّ إيجابه من باب الجود والكرم يختّص باللّطف الراجع إلى آحاد المكلّفين ، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة ، أو غرض التّكليف ، عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين ، كما عرفت.
    ثمّ إنّ المراد من وجوب اللّطف على الله سبحانه ليس ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس ، من حاكميّة العباد على الله ، مع أنّ له الحكم والفصل ، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى ، فإنّ أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى ، كما أنّ أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى. فإذا علمنا ـ بدليل عقليّ قاطع ـ أنّه تعالى حكيم ، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنّه لطيف بعباده ، حيثما يَبطل غرض الخلقة أو غرض التّكليف لولا اللّطف.

المسألة السابعة:
في حدوث كلامه تعالى
    من المسائل الّتي أثارت ضجّة كبرى بين العلماء وانتهت إلى محنة تعرف في التأريخ بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، هي البحث عن حدوث القرآن و قدمه ، وعن كونه مخلوقاً أو لا. فالمعتزلة على حدوث القرآن و نفي قدمه تنزيهاً له سبحانه عن المثل القديم و غير المخلوق ، وأصحاب الحديث و الحنابلة و بعدهم الأشاعرة على ضدّهم و أنّه قديم أو ليس بمخلوق فراراً عن سمة الحدوث الطارئ على صفاته مثل التكلّم.
    ولمّا وصلت المعتزلة في عصر المأمون و بعده في عصر الواثق إلى قمّة القدرة و
    1 ـ أوائل المقالات: ص 25 ـ 26.

(378)
    كانت الخلافة العبّاسية تؤازرهم و تؤيّدهم ، خرجوا عن منهجهم السّابق ـ منهج الحرّيّة في الرأي والتفكّر ـ وسلكوا في هذه المسألة مسلك الضّغط. فطفقوا يحملون النّاس على عقيدتهم ( خلق القرآن ) بالقوّة والاكراه ، فمن خالفهم ولم يقرّ به يحكم عليه بالحبس تارة والضّرب أُخرى. وأوجد ذلك في حياتهم العلميّة نقطة سوداء ، وسيوافيك تفصيل حمل الناس على اعتناق عقيدتهم في هذا المجال في فصل خاصّ.
    هذا من جانب و من جانب آخر ، لمّا أخذ أحمد بن حنبل في هذا المجال موقف الصّمود والثّبات في عقيدته صار بطلاً في حياته ، و بعدها يضرب به المثل في الصّمود على العقيدة ، و قد استبطلته المعتزلة و صار إماماً في عقائد أهل السنّة بصموده في طريق عقيدته. و لإيضاح الحقّ نرسم اُموراً:
1 ـ مسلك أهل الحديث
    إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله. فما جاء فيها يؤخذ به و ما لم يجئ فيها يسكت عنه ولا يبحث فيه ، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرِّمون علم الكلام ، ويمنعون البحث عن كلِّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.
    وعلى ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث السّكوت وعدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة ، لأنّ البحث فيها حرام على اُصولهم ، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه ، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله ، ولا عن أصحابه ، ومع الأسف كان موقفهم ـ وفي مقدّمهم أحمد بن حنبل ـ موقف الايجاب وتكفير المخالف.
    يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب « السنّة »: « والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل ، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه ، فهو جهميّ ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو


(379)
    مثلهم » (1).
    إنّ السّلفيين و حتّى أتباعهم في هذه الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ الله ليس بجسم ، قائلين بأنّه لم يرد نصّ فيه في الشّريعة ، ولكن يتشدّقون بقدم القرآن وعدم حدوثه ، بلا اكتراث سالفهم و لاحقهم حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء وكفره.

2 ـ النّصارى و قدم الكلمة
    إنّ القول بقدم القرآن تسرّب إلى أوساط المسلمين من المسيحيّين ، حيث كانوا يقولون بقدم الكلمة. وقد صرّح بذلك الخليفة العبّاسي في كتابه الّذي بعثه من الرقّة إلى رئيس شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول : « وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله » (2).
    قال أبو العبّاس البغوي: « دخلنا على « فثيون » النّصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب ( الّذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله ) فقال: « رحم الله عبدالله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزّاوية و أشار إلى ناحية من البيعة وعنى أخذ هذا القول ( كلام الله هو الله ) ولو عاش لنصّرنا المسلمين قال البغوي: وسأله محمّد بن إسحاق الطّالقاني ، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن » (3).
    قال أبو زهرة: « إنّ النّصارى الّذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنّا الدمشقي و غيرهم ، كانوا يبثّون الشّكوك بين المسلمين. فقد جاء في القرآن أنّ عيس بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم. فكان يبثّ بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة فيسألهم: أ كلمته قديمة أم لا؟ فان قالوا:لا ، فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق. وإن قالوا:
    1 ـ كتاب السنّة: ص 49.
    2 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 198 ، حوادث سنة 218.
    3 ـ فهرست ابن النديم: الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.


(380)
    قديمة ، ادّعى أنّ عيسى قديم » (1).
    وبعد ذلك لا يعبأ بما قاله مؤلّف كتاب « المعتزلة » من أنّ القول بخلق القرآن جاء من اليهود ، وأنّ أوّل من نشرها منهم لبيد بن الأعصم عدوّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم اللّدود الّذي كان يقول بخلق القرآن ، ثمّ أخذ ابن اُخته طالوت هذه المقالة عنه ، وصنّف في خلق القرآن (2).
    هذا ، وإنّ المشهور بين اليهود هو قدم التّوراة (3).
    وعلى كلِّ تقدير ، فالمسألة مستوردة وليست نابتة من صميم الدّين و اُصوله. وقد طرحت في أواخر القرن الثّاني في عصر المأمون ، وامتدّت إلى عصر المتوكّل ومن بعده الّذين يضغطون على المعتزلة وينكِّلون بهم.
    إنّ تأريخ البحث يعرب عن أمرين:
    أ ـ إنّ المسألة طرحت في جوّ غير هادئ و مشحون بالعداء ، ولم يكن البحث لكشف الحقيقة وابتداعها ، بل كلُّ يصرّ على إثبات مدّعاه.
    ب ـ لم يكن موضوع البحث منقّحاً حتّى يتوارد عليه النّفي والاثبات ، وأنّهم لماذا يفرّون من القول بحدوث القرآن ولماذا يكفّرون القائل به. أهم يريدون من قدم القرآن ، قدم الآيات الّتي يتلوها القارئ ، أو النّبي الأكرم ، أو أمين الوحي. أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه. أو يريدون قدم علمه ، سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لم يركّز البحث على واحد منها.
    يقول القاضي: « ذهبت الحشويّة من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلوّ في المحاريب والمكتوب في المصاحف ، غير مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى ».
    وقال ابن قتيبة: « اتّفقوا على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق و إنّما اختلفوا في
    1 ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ، ص 394.
    2 ـ المعتزلة: ص 22 ، زهدي حسن جار الله.
    3 ـ اليهودية: ص 222 ، تأليف أحمد شلبي ، كما في بحوث مع أهل السنة والسلفية ص 153.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس