ابن المعتمر من
معتزلة بغداد ، وإيضاح الحقّ يستدعي البحث عن أُمور:
الأوّل : تعريف اللّطف و بيان حقيقته و
أقسامه. إنّ اللّطف ، في
اصطلاح المتكلّمين ، يوصف بوصفين:
1 ـ اللّطف المُحَصِّل.
2 ـ اللّطف المُقَرِّب.
وهناك مسائل تترتّب على اللّطف بالمعنى
الأوّل ، ومسائل أُخرى تترتّب على اللّطف بالمعنى الثاني ، وربّما يؤدّي عدم
التّمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتّب على الأوّل بما يترتّب على الثاني..
ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كلّ منهما بنحو مستقل.
1 ـ اللُّطف المحصِّل اللُّطف المحصِّل: عبارة عن القيام بالمبادئ
والمقدّمات الّتي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة ، وصونها عن العبث واللّغو ،
بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدّمات من جانبه سبحانه ، لصار فعله فارغاً
عن الغاية ، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرّز عن العبث ، وذلك كبيان تكاليف
الإنسان و إعطائه القدرة على امتثالها.
ومن هذا الباب بعث الرّسل لتبيين طريق
السّعادة ، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلّة السابقة ، أنّ الإنسان أقصر من أن
ينال المعارف الحقّة ، أو يهتدي إلى طريق السّعادة في الحياة بالاعتماد على
عقله ، والاستغناء عن التّعليم السماوي.
و وجوب اللّطف بهذا المعنى ، ليس موضع
مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه ، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتّفق عليه
العقل والنقل (1). وإنّما الكلام في « اللّطف المقرِّب » ، وإليك البيان فيه:
1 ـ
لاحظ سورة الذاريات: الآية 56 وسورة المؤمنون: الآية 115.
(372)
2 ـ اللُّطف المقرِّب اللّطف
المقرِّب: عبارة عن القيام بما يكون محصِّلا لغرض التّكليف بحيث لولاه لما حصل
الغرض منه و ذلك كالوعد والوعيد ، والتّرغيب و التّرهيب ، الّتي تستتبع رغبة
العبد إلى العمل ، وبعده عن المعصية (1).
وهذا النّوع من اللّطف ليس دخيلاً في
تمكين العبد من الطّاعة ، بل هو قادر على الطّاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك
وعد أم لا ، فإنّ القدرة على الإمتثال رهن التعرّف على التّكليف عن طريق
الأنبياء ، مضافاً إلى إعطاء الطّاقات الماديّة ، والمفروض حصول هذه المبادئ
والمقدّمات ، غير أنّ كثيراً من النّاس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على
التّكليف ما لم يكن هناك وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب ، فهذا النوع من اللّطف قد
وقع موقع النِّقاش بين المتكلِّمين.
والحقّ هو القول بوجوب اللّطف إذا كان
غرض التّكليف ( لا غرض الخلقة ) موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من
المكلّفين.
مثلاً لو فرضنا أنّ غالب المكلّفين ، لا
يقومون بتكاليفهم بمجرّد سماعها من الرّسل ـ وان كانوا قادرين عليها ـ إلاّ إذا
كانت مقرونة بالوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب ، وجب على المكلِّف القيام
بذلك ، صوناً للتّكليف عن اللّغوية ، ولو أهملها المكلِّف ترتّب عليه بطلان غرضه
من التّكليف ، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.
وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا
النوّع من اللّطف. يقول سبحانه:
1 ـ
عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية ، من دون أن
يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة ، ولا يبلغ حدّ الالجاء. فخرج بالقيد الأوّل ( لم يكن له حظ... ) اللطف
المحصّل ، فإنّ له دخالة في تمكين المكلّف من الفعل بحيث لولاه لانتفت
القدرة.
وخرج بالقيد الثاني ( لا يبلغ
حدّ الإلجاء ) الإكراه والإلزام على الطاعة والاجتناب عن المعصية ، فإنّ ذلك
ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية والاختيار في المكلف ( لاحظ: كشف المراد ، ص
201 ، ط صيدا ).
وقال القاضي عبد الجبار: « اللطف
هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح ، أو ما يكون عنده أقرب إمّا
إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح » ( شرح الاصول الخمسة: ص 519 ).
(373)
( وَبَلَوناهُم
بالحَسَناتِ والسّيئاتِ لعلَّهُم يَرجِعون ) ( سوره الأعراف / 168 ) والمراد من
الحسنات والسّيئات ، نعماء الدّنيا و ضرّاؤها ، و كأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو
رجوعهم إلى الحقّ والطّاعة.
و يقول سبحانه: ( وما أرسَلْنَا في قَرْيَة مِن نَبِىّ إلاّ
أخَذْنا أهلَها بالبَأْساءِ و الضََّرّاءِ لَعَلَّهُم
يَضّرّعُون ) ( سوره الأعراف / 94 ) وفي الآية إشارة إلى كلا
القسمين من اللّطف ، ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل رسله لإِبلاغ تكاليفه إلى
العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال ( اللّطف المحصِّل ) ، غير أنّ الرّفاه و
الرّخاء و التوغّل في النّعم المادّية ، ربّما يسبِّب الطّغيان وغفلة الإِنسان
عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء ، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء
والضرّاء ، لعلّهم يَضّرّعون ويبتهلون إلى الله تعالى.
ولأجل ذلك نشهد أنّ الأنبياء لم يكتفوا
باقامة الحجّة والبرهان ، والإتيان بالمعاجز ، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ
مبشِّرين و منذرين ، وكان التّرغيب والتّرهيب من شؤون رسالتهم ، قال تعالى:
( رُسُلاً مُبَشِّرين و
مُنذِرينَ ) ( سورة النساء / 165 ) و الإنذار والتّبشير دخيلان
في رغبة النّاس بالطّاعة و ابتعادهم عن المعصية.
وفي كلام الإِمام عليّ ( عليه السلام )
إشارة إلى هذا:
قال ( عليه السلام ) : « أيّها الناس ، إنّ
الله تبارك و تعالى لمّا خلق خلقَه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق
شريفة ، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم ،
والتّعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنّهي (1) ، والأمر والنّهي لا
يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلاّ بالتّرغيب ، والوعيد لا يكون إلاّ بالتّرهيب ، والتّرغيب لايكون
إلاّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذّه أعينهم ، والتّرهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك...
الخ » (2).
وقوله ( عليه السلام ) : « والأمر والنّهي
لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد » إشارة إلى أنّ
1 ـ
هذا إشارة إلى اللطف المحصل. 2 ـ
بحار الأنوار ، ج 5 ، كتاب العدل والمعاد ، الباب الخامس عشر ، الحديث 13 ، ص
316.
(374)
امتثال الأمر و
النّهي و نفوذهما في نفوس النّاس ، يتوقّف على الثّواب والعقاب ، فلولاهما لما
كان هناك حركة إيجابيّة نحو التّكليف إلاّ من العارفين الّذين يعبدون الله
تعالى ، لا رغبة ولا رهبة ، بل لكونه مستحقّاً للعبادة.
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقّق
الرّغبة بالطّاعة ، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثريّة الساحقة من البشر ،
يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتّكليف عن اللّغو ، وبالتالي صوناً
للخلقة عن العبث.
نعم ، إذا كانت هذه المبادئ كافية في
تحريك الأكثريّة نحو الطّاعة ، ولكنّ القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصّة
كاليسار في الرزق ، أو كثرة الرفاه ، فهل هو واجب على الله سبحانه؟ الظّاهر لا ،
إلاّ من باب الجود والتّفضّل.
وبذلك يعلم أنّ اللّطف المقرِّب إذا كان
مؤثّراً في رغبة الأكثريّة بالطّاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة ، وأمّا
إذا كان مؤثّراً في آحادهم المعدودين ، فالقيام به من باب الفضل والكرم. وبذلك
تقف على مدى صحّة ما استدلّ به بعضهم على اللّطف في المقام ، أو سقمه.
استدلّ القاضي عبد الجبّار على وجوب
اللّطف بقوله: « إنّه تعالى كلّف المكلّف ، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة
الثّواب ، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب ، واجتنب القبيح ،
فلا بدّ من أن يفعل به ذلك الفعل و إلاّ عاد بالنّقض على غرضه ، وصار الحال فيه
كالحال في أحدنا إذ أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتّخذه ، وعلم من
حاله أنّه لا يجيبه ، إلاّ إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره ، فإنّه يجب
عليه أن يبعث ، حتّى إذا لم يفعل عاد بالنّقض على غرضه و كذلك
هيهنا » (1).
قال الشّهرستاني: « اللّطف عبارة عن كلِّ
ما يوصل الإنسان إلى الطّاعة و يبعِّده عن المعصية ، ولمّا كان الله عادلاً في
حكمه ، رؤوفاً بخلقه ، ناظراً لعباده ، لا يرضى لعباده
1 ـ
شرح الاصول الخمسة: ص 521.
(375)
الكفر ، ولا يريد
ظلماً للعالمين ، فهو لم يدّخر عنهم شيئاً ممّا يعلم أنّه إذا فعل بهم ، أتوا
بالطّاعة والصّلاح » (1).
وقال العلاّمة الحلي: « إنّ المكلِّف ـ
بالكسر ـ إذا علم أن المكلّف ـ بالفتح ـ لايطيع إلاّ باللّطف ، فلو كلّفه من
دونه ، كان ناقضاً لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعام ، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ
أن يستعمل معه نوعاً من التّأدّب ، فإن لم يفعل الداعي ذلك النّوع من التأدّب
كان ناقضاً لغرضه ، فوجوب اللّطف يستلزم تحصيل الغرض » (2).
وقال الفاضل المقداد: « إنّا بيّنّا أنّه
تعالى مريد للطّاعة و كاره للمعصية ، فإذا علم أنّ المكلّف لا يختار الطّاعة ، أو
لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلاّ عند فعل يفعله به ، وذلك الفعل
ليس فيه مشقّة ولا غضاضة ، فإنّه يجب في حكمته أن يفعله ، إذ لو لم يفعله لكشف
ذلك ، إمّا عن عدم إرادته لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدّم ، أو عن نقض غرضه إذا
كان مريداً له ، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.
ويجري ذلك في الشّاهد مجرى من أراد حضور
شخص إلى وليمة ، وعرف أو غلب على ظنِّه أنّ ذلك الشّخص لا يحضر إلاّ مع فعل
يفعله ، من إرسال رسول ، أو نوع ، أدب ، أو بشاشة ، أو غير ذلك من الأفعال ، ولا
غضاضة عليه في فعل ذلك ، فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه ، ونقض الغرض باطل ،
لأنّه نقص ، والنّقص عليه تعالى محال ، ولأنّ العقلاء يعدّونه سَفَهاً وهو ينافي
الحكمة » (3).
وهذه البيانات تدلّ على أنّ اللّطف واجب
من باب الحكمة.
هذا كلام القائلين بوجوب اللّطف ، وهو على
إطلاقه غير تامّ ، بل الحقّ هو التّفصيل بين ما يكون مؤثِّراً في تحقّق التّكليف
بشكل عامّ بين المكلّفين ، فيجب من
1 ـ
الملل والنحل: ج 1 ، ص 107. 2 ـ
كشف المراد: الفصل الثاني ، المسألة الثانية عشرة ، ص 325 ، ط قم 1407. 3 ـ
ارشاد الطالبين: ص 277 ـ 278.
(376)
باب الحكمة ،
وإلاّ فيرجع إلى جوده و تفضّله من دون إيجاب عليه.
واستدلّ القائل بعدم وجوبه بقوله: « لو
وجب اللّطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنّه ما من مكلّف إلاّ
وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب
القبيح ، فلمّا وجدنا في المكلّفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبيّن أنّ الألطاف غير
واجبة على الله تعالى » (1).
يلاحظ عليه: أنّ هذا المستدلّ لم يقف على
حقيقة اللّطف ، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه ، فهو تصوّر أنّ اللّطف
عبارة عمّا لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطّاعة وترك المعصية ، فنتيجته
كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوبه ، وعدم وجوده دليلاً على وجوبه ، مع أنّك
قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرِّباً إلى الطّاعة و مبعِّداً
عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.
يقول القاضي عبد الجبّار: « إنّ العباد
على قسمين ، فإنّ فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال
كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنّب القبيح ، أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو
خلافه حتّى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب
قبيحاً » (2).
ويؤيِّده ما ورد في الذِّكر الحكيم من
أنّ هناك أُناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلِّ أنواع الآيات
والمعاجز.
قال سبحانه: ( وما تُغني الآياتُ و النُذُرُ عَن قول لا
يُؤْمنون ) (3).
وقال سبحانه: ( ولَئِن أَتَيْتَ الّذين أُوتُوا الكِتابَ بكلِّ
آية ما تَبِعوا قِبلَتَك ) (4).
وفي الختام نقول: إنّ اللُّطف سواء أكان
المراد منه اللّطف المحصِّل أم اللّطف المقرِّب ، من شؤون الحكمة ، فمن وصفه
سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللّغو والعبث ، لامناص له عن الاعتقاد بهذه
القاعدة ، غير أنّ القول بوجوب اللّطف في المحصِّل
1 ـ
شرح الاُصول الخمسة: ص 523. 2 ـ
شرح الاُصول الخمسة: ص 520. 3 ـ
سورة يونس: الآية 101. 4 ـ
سورة البقرة: الآية 145.
(377)
أوضح من القول به
في المقرِّب.
ولكن يظهر من الشّيخ المفيد أنّ وجوب
اللّطف من باب الجود والكرم ، قال: « إنّ ماأوجبه أصحاب اللّطف من اللّطف ، إنّما
وجب من جهة الجود والكرم ، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه ، وأنّه لو لم يفعل
لكان ظالماً » (1).
يلاحظ عليه: أنّ إيجابه من باب الجود
والكرم يختّص باللّطف الراجع إلى آحاد المكلّفين ، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض
الخلقة ، أو غرض التّكليف ، عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين ، كما
عرفت.
ثمّ إنّ المراد من وجوب اللّطف على الله
سبحانه ليس ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس ، من حاكميّة العباد على
الله ، مع أنّ له الحكم والفصل ، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى ، فإنّ
أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى ، كما أنّ أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى. فإذا
علمنا ـ بدليل عقليّ قاطع ـ أنّه تعالى حكيم ، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنّه لطيف
بعباده ، حيثما يَبطل غرض الخلقة أو غرض التّكليف لولا اللّطف.
من
المسائل الّتي أثارت ضجّة كبرى بين العلماء وانتهت إلى محنة تعرف في التأريخ
بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، هي البحث عن حدوث القرآن و قدمه ، وعن كونه مخلوقاً
أو لا. فالمعتزلة على حدوث القرآن و نفي قدمه تنزيهاً له سبحانه عن المثل
القديم و غير المخلوق ، وأصحاب الحديث و الحنابلة و بعدهم الأشاعرة على ضدّهم و
أنّه قديم أو ليس بمخلوق فراراً عن سمة الحدوث الطارئ على صفاته مثل
التكلّم.
ولمّا وصلت المعتزلة في عصر المأمون و
بعده في عصر الواثق إلى قمّة القدرة و
1 ـ
أوائل المقالات: ص 25 ـ 26.
(378)
كانت الخلافة
العبّاسية تؤازرهم و تؤيّدهم ، خرجوا عن منهجهم السّابق ـ منهج الحرّيّة في
الرأي والتفكّر ـ وسلكوا في هذه المسألة مسلك الضّغط. فطفقوا يحملون النّاس على
عقيدتهم ( خلق القرآن ) بالقوّة والاكراه ، فمن خالفهم ولم يقرّ به يحكم عليه
بالحبس تارة والضّرب أُخرى. وأوجد ذلك في حياتهم العلميّة نقطة سوداء ، وسيوافيك
تفصيل حمل الناس على اعتناق عقيدتهم في هذا المجال في فصل خاصّ.
هذا من جانب و من جانب آخر ، لمّا أخذ
أحمد بن حنبل في هذا المجال موقف الصّمود والثّبات في عقيدته صار بطلاً في
حياته ، و بعدها يضرب به المثل في الصّمود على العقيدة ، و قد استبطلته المعتزلة
و صار إماماً في عقائد أهل السنّة بصموده في طريق عقيدته. و لإيضاح الحقّ نرسم
اُموراً:
1 ـ
مسلك أهل الحديث إنّ
مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة
رسوله. فما جاء فيها يؤخذ به و ما لم يجئ فيها يسكت عنه ولا يبحث فيه ، ولأجل
ذلك كان أهل الحديث يحرِّمون علم الكلام ، ويمنعون البحث عن كلِّ ما ليس وارداً
في الكتاب والسنّة.
وعلى ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث
السّكوت وعدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة ، لأنّ البحث فيها حرام على
اُصولهم ، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه ، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن
رسول الله ، ولا عن أصحابه ، ومع الأسف كان موقفهم ـ وفي مقدّمهم أحمد بن حنبل ـ
موقف الايجاب وتكفير المخالف.
يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب
« السنّة »: « والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ
كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق
فهو أخبث من الأوّل ، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة والقرآن
كلام اللّه ، فهو جهميّ ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو
(379)
مثلهم » (1).
إنّ السّلفيين و حتّى أتباعهم في هذه
الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ الله ليس بجسم ، قائلين بأنّه لم يرد نصّ فيه في
الشّريعة ، ولكن يتشدّقون بقدم القرآن وعدم حدوثه ، بلا اكتراث سالفهم و لاحقهم
حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء وكفره.
2 ـ
النّصارى و قدم الكلمة إنّ القول بقدم القرآن تسرّب إلى أوساط المسلمين من
المسيحيّين ، حيث كانوا يقولون بقدم الكلمة. وقد صرّح بذلك الخليفة العبّاسي في
كتابه الّذي بعثه من الرقّة إلى رئيس شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول :
« وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان
كلمة الله » (2).
قال أبو العبّاس البغوي: « دخلنا على
« فثيون » النّصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته
عن ابن كلاب ( الّذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله ) فقال: « رحم الله عبدالله
كان يجيء فيجلس إلى تلك الزّاوية و أشار إلى ناحية من البيعة وعنى أخذ هذا
القول ( كلام الله هو الله ) ولو عاش لنصّرنا المسلمين قال البغوي: وسأله محمّد
بن إسحاق الطّالقاني ، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنّة من
المسلمين في القرآن » (3).
قال أبو زهرة: « إنّ النّصارى الّذين
كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنّا الدمشقي و غيرهم ، كانوا يبثّون
الشّكوك بين المسلمين. فقد جاء في القرآن أنّ عيس بن مريم كلمة الله ألقاها إلى
مريم. فكان يبثّ بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة فيسألهم: أ كلمته قديمة أم
لا؟ فان قالوا:لا ، فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق. وإن قالوا:
1 ـ
كتاب السنّة: ص 49. 2 ـ
تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 198 ، حوادث سنة 218. 3 ـ
فهرست ابن النديم: الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.
(380)
قديمة ، ادّعى أنّ
عيسى قديم » (1).
وبعد ذلك لا يعبأ بما قاله مؤلّف كتاب
« المعتزلة » من أنّ القول بخلق القرآن جاء من اليهود ، وأنّ أوّل من نشرها منهم
لبيد بن الأعصم عدوّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم اللّدود الّذي كان
يقول بخلق القرآن ، ثمّ أخذ ابن اُخته طالوت هذه المقالة عنه ، وصنّف في خلق
القرآن (2).
هذا ، وإنّ المشهور بين اليهود هو قدم
التّوراة (3).
وعلى كلِّ تقدير ، فالمسألة مستوردة وليست
نابتة من صميم الدّين و اُصوله. وقد طرحت في أواخر القرن الثّاني في عصر
المأمون ، وامتدّت إلى عصر المتوكّل ومن بعده الّذين يضغطون على المعتزلة
وينكِّلون بهم.
إنّ تأريخ البحث يعرب عن أمرين:
أ ـ إنّ المسألة طرحت في جوّ غير هادئ و
مشحون بالعداء ، ولم يكن البحث لكشف الحقيقة وابتداعها ، بل كلُّ يصرّ على إثبات
مدّعاه.
ب ـ لم يكن موضوع البحث منقّحاً حتّى
يتوارد عليه النّفي والاثبات ، وأنّهم لماذا يفرّون من القول بحدوث القرآن
ولماذا يكفّرون القائل به. أهم يريدون من قدم القرآن ، قدم الآيات الّتي يتلوها
القارئ ، أو النّبي الأكرم ، أو أمين الوحي. أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم
الواردة فيه. أو يريدون قدم علمه ، سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لم
يركّز البحث على واحد منها.
يقول القاضي: « ذهبت الحشويّة من الحنابلة
إلى أنّ هذا القرآن المتلوّ في المحاريب والمكتوب في المصاحف ، غير مخلوق ولا
محدث ، بل قديم مع الله تعالى ».
وقال ابن قتيبة: « اتّفقوا على أنّ القرآن
كلام الله غير مخلوق و إنّما اختلفوا في
1 ـ
تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ، ص 394. 2 ـ
المعتزلة: ص 22 ، زهدي حسن جار الله. 3 ـ
اليهودية: ص 222 ، تأليف أحمد شلبي ، كما في بحوث مع أهل السنة والسلفية ص
153.