بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 381 ـ 390
(381)
    اللّفظ بالقرآن لغموض وقع في ذلك وكلّهم يجمعون على أنّ القرآن بكلّ حال ـ مقروءاً و مكتوباً ومسموعاً و محفوظاً ـ غير مخلوق » (1).
    وذهبت الكلابيّة (2) إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزليّ قائم بذاته مع أنّه شيء واحد.
    وأمّا مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى و وحيه وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيِّه ليكون علماً و دالاً على نبوّته ، و جعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام واستوجب منّا بذلك الحمد و الشّكر والتّحميد والتّقديس ، واذن هو الّذي نسمعه اليوم ونتلوه و إن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن مُحدِثاً لها من جهته الآن (3).

3 ـ استدلالهم على حدوث القرآن
    إذا كان محلّ النزاع هو القرآن المتلوّ كما يظهر من كلام القاضي فحدوثه أمر واضح ، فإنّ الكلام هو الحروف المنظومة الّتي تظهر بالأصوات المقطّعة وليس حدوثه شيئاً يحتاج إلى دليل ولو احتاج حدوث مثل هذا إلى دليل إذاً احتاج النّهار إلى دليل. كيف وإنّ ترتيب حروف الكلمات والجمل يستلزم الحدوث ، لأنّ تحقّق كلمة بسم الله يتوقّف على حدوث الباء وانعدامها ، ثمّ حدوث السين كذلك ، ثمّ حدوث الميم وهكذا إلى آخر البسملة. فالحدوث ثمّ الانعدام لا يفارقان مفردات الحروف. وفي ضوء هذا توجد الكلمة فكيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزليّاً مع الله تعالى؟.
    وهذا الاستدلال متين لا مفرّ منه.
    1 ـ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 16 طبع دار الجيل ،.
    2 ـ المؤسس هو عبدالله بن محمد بن كلاب ، وله مع عباد بن سليمان مناظرات ، وكان يقول: إنّ كلام الله هو الله ، وكان عباد يقول: إنّه نصراني بهذا القول: فلاحظ فهرست ابن النديم الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.
    3 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 528.


(382)
    ثمّ إنّ القاضي استدلّ على حدوث القرآن بآيات:
    1 ـ ( وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث ) ( الأنبياء / 2 ) والذِّكر هو القرآن بدليل قوله: ( إنّا نَحْنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ و إنَّا لَهُ لَحَافِظُون ). فقد وصفه بأنّه محدث ، ووصفه بأنّه منزّل ، والمنزّل لا يكون إلاّ محدثاً. وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر ، لأنّه قال: ( وإنّا له لحافظون ) فلو كان قديماً لما احتاج إلى حافظ يحفظه.
    2 ـ ( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ ) ( هود / 1 ).
    بيّن كونه مركّباً من هذه الحروف وذلك دلالة حدوثه ، ثمّ وصفه بأنّه كتاب ، أي مجتمع من كتب ، ومنه سمّيت الكتيبة كتيبة ، وما كان مجتمعاً لا يجوز أن يكون قديماً.
    3 ـ ( اللّهُ نزَّل أحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثانِيَ ) ( الزمر / 23 ).
    وصفه بأنّه « منزّل » أوّلاً ، ثمّ قال: « أحسن الحديث ». وصفه بالحسن ، والحسن من صفات الأفعال. ووصفه بأنّه « حديث » وهو والمحدث واحد. فهذا صريح ما ادّعيناه. وسمّاه « كتاباً » ، وذلك يدلّ على حدوثه كما تقدّم. وقال: « متشابهاً » أي يشبه بعضه بعضاً في الاعجاز والدّلالة على صدق من ظهر عليه. وما هذا حاله لا بدّ من أن يكون محدثاً (1).
4 ـ محاولة بعض الحنابلة لإثبات القدم
    ولمّا كانت العقيدة بقدم القرآن منافية لتوحيده سبحانه ، حاول ابن تيميّة تصحيح عقيدة الحنابلة ـ الّتي صارت متروكة و مندرسة بعد ثورة الإمام الأشعري على الطّائفتين ـ بالتّفريق بين القدم و عدم المخلوقيّة و قال:
     « وكما لم يقل أحد من السّلف إنّ كلام الله مخلوق ، فلم يقل أحد منهم إنّه قديم ، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصّحابة ، ولا التّابعين لهم بإحسان ، ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم. وأوّل من عرف أنّه قال « هو قديم » ، عبدالله بن سعيد بن
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 532.

(383)
    كلاب » (1).
    ولا يخفى أنّ التّفريق بين عدم الخلقة و القدم ، كالتّفريق بين المترادفين مثل « الإنسان » و « البشر » فكما لا يصحّ أن يقال: هذا بشر لا إنسان ، فهكذا لا يصحّ أن يقال: « القرآن غير مخلوق و لكن ليس بقديم » لأنّ الشّيء إذا لم يكن مخلوقاً يكون وجوده لذاته ، وما كان كذلك لا يكون مسبوقاً بالعدم فيكون قديماً.
    أضف إلى ذلك أنّ ابن الجوزي صرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا: إنّ القرآن كلام الله قديم (2).
    فكما أنّ هذه المحاولة فاشلة ، فهكذا محاولته الثّانية الّتي لا يليق بها أن تسطر. وهي القول بقدم حروف المعجم الّتي هي موادّ كلمة الله ، حيث قال: « وما تكلّم الله به فهو قائم به ، ليس مخلوقاً منفصلاً عنه ، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله سبحانه وكتبه المنزلة مخلوقة ، فقول القائل بأنّ الحروف قديمة ، أو حروف المعجم قديمة ، فإن أراد جنسها فهذا صحيح. وإن أراد الحرف المعيّن فقد أخطأ » (3).
    إنّ القول بقدم موادِّ القرآن ـ أعني حروف المعجم ـ أشبه بالقول بقدم الماهيّات المنفكّة عن الوجود. وهذه الحروف بجنسها ، كما أنّ الماهيّات بنوعها ، ليست إلاّ مفاهيم بحتة معدومة و إنّما تتشخّص بالوجود ، وتتحقّق بالكينونة ، ولا يكون ذلك إلاّ فرداً و هو حادث قطعاً حسب ما اعترف به.
    هذه المسائل صارت سبباً لسقوط عقيدة الحنابلة في أعين المفكِّرين والمحقّقين من علماء الإسلام. ولأجل ذلك التجأ الأشعري لتصحيح العقيدة إلى الكلام النّفسي القائم بذاته سبحانه. وقد عرفت في تبيين عقيدة الأشعري أنّ مرجع الكلام النّفسي إلى العلم ، وليس شيئاً غيره.
    1 ـ مجموعة الرسائل: ج 3 ص 20.
    2 ـ المنتظم في ترجمة الأشعري ، ج 6 ، ص 332.
    3 ـ مجموعة الرسائل: ج 3 ، ص 45.


(384)
    ثمّ إنّ هيهنا أدلّة سمعيّة للحنابلة في إثبات قدم القرآن نأتي بها على وجه الاجمال ، وقد طرحها القاضي في كتبه وقام بتحليلها.

5 ـ نقد أدلّة القائلين بالقدم
    إنّ القاضي يذكر أدلّة القائلين بقدم القرآن و يقول: « وللمخالف في قدم القرآن شبه ، من جملتها:
    الشبهة الأولى: قولهم: قد ثبت أنّ القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى والاسم والمسمّى واحد ، فيجب في القرآن أن يكون قديماً مثل: الله تعالى. قالوا: والّذي يدلّ على أنّ الاسم والمسمّى واحد ، هو أنّ أحدنا عند الحلف يقول: تالله و والله. وهكذا يقول: بسم الله. ولا يكون كذلك إلاّ و الأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
    أي السّلام عليكما.
    وهكذا فإنّ أحدنا إذا قال: طلّقت زينب ، كان الطّلاق واقعاً عليها. فلو لم يكن الاسم والمسمّى واحداً لا يكون كذلك ».
    وأجاب عنه القاضي بأنّ الاسم غير المسمّى و إلاّ فمن قال: ناراً ، يجب أن يحترق فمه.
    وعلى هذا قال بعضهم:
لو كان من قال ناراً أُحرقت فمه لما تفوّه باسم النّار مخلوق
    فكيف يكون الاسم و المسمّى واحداً ، مع أنّ الاسم عرض و المسمّى جسم؟.
    أقول: يجب إلفات نظر القارئ إلى اُمور:
    1 ـ إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى صحيح على وجه و باطل على وجه آخر. فإن أرادوا اتّحاد واقعيّة العالم مع ذاته سبحانه فذلك صحيح ، لما قلنا من أنّ ذاته سبحانه


(385)
    بلا ضمّ ضميمة مصداق للعالم ، وليست ذاته شيئاً و عالميّته شيئاً آخر ، ولأجل ذلك ، الاسم هو واقعيّة العالميّة ، ولفظ ( العالم ) إسم للاسم.
    وإن أرادوا اتّحاد لفظ ( العالم ) الّذي حدوثه ذاتيّ ، و تدرّجه عين تحقّقه ، مع المسمّى فذلك من البطلان بمكان.
    2 ـ إنّ المعارف الإلهيّة لا تبتنى على المسائل الفقهيّة ، فإنّ لكلِّ علم منهجاً خاصّاً لتحليل مسائله. فالمعارف الإلهيّة مسائل حقيقيّة تطرح على بساط البحث ، و ينظر إليها من زاوية البرهان العقلي. وأمّا المسائل الفقهيّة فهي مسائل اعتباريّة ، اعتبرها الشّارع موضوعاً لأمره ونهيه و طاعته و عصيانه ، فلا يصحّ الاستدلال عليها إلاّ من زاوية العلوم الاعتباريّة.
    فالعالم كلُّ العالم من يحلِّل كلّ مسألة بمنهجها الخاصّ ، ولا يخلط هذا بذاك. ولكنّ الحنابلة طفقوا يستدلّون على اتّحاد الاسم مع المسمّى بمسألة فقهيّة ، وهذا مثل من أنكر كرويّة الأرض بحجّة أنّ كرويّتها لا توافق كون ليلة القدر ليلة واحدة ، بل تستلزم أن تكون ليلتين. وقد أوضحنا حال هذه الشّبهة في أبحاثنا الفقهيّة.
    3 ـ إنّ الحلف في قول « تالله » و « والله » ، واقع على الاسم لا على المسمّى ، لوضوح أنّ المقسم به هو لفظ الجلالة لا مصداقه ، غاية الأمر اللّفظ طريق و مرآة إلى المسمّى ، ومع ذلك فالمحلوف به لفظه واسمه ، لا مصداقه و ذاته مباشرة ، فأين للإنسان النّاقص شهود ذاته حتّى يحلف بها. فلو تصعّد و تصوّب لا يكون حلفه خارجاً عن الحلف باللّفظ. فإذا كان الحلف هنا على الاسم ، يكون الحلف في قوله « باسم الله » أيضاً على الاسم بحجّة أنّ الاضافة بيانيّة ، بمعنى أحلف على الاسم الّذي هو الله. ففي كلا القسمين الحلف واقع على الاسم ، دون المسمّى ، وليس الحلف في الأوّل على المسمّى حتّى يستدلّ بصحّة الحلف في الثّاني المشتمل على لفظ الاسم ، على أنّ الاسم هو المسمّى و يستنتج من قدم المسمّى قدم الاسم و منه قدم القرآن لاشتماله على أسمائه.
    إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى من الأفكار الباطلة الّتي شطب العلم ، والفكر


(386)
    الصحيح ، عليها طيلة قرون. ومع الأسف إنّ الشّيخ الأشعري جعله من جملة عقائد أصحاب الحديث و أهل السنّة ، وقال في قائمة عقائد تلك الطّائفة: « إنّ أسماء الله لا يقال إنّها غير الله ، كما قالت المعتزلة والخوارج » (1).
    يحكى أنّ بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل في هذه المسألة فأخذ لوحاً و كتب عليه « الله ». قال: أفتنكر أن يكون هذا هو الله و تدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللّوح من يده و كتب بجنبه: « الله » آخر. فقال للحنبليّ: أيّهما الله إذن؟ ـ فانقطع المدبر (2).
    فلو صحّت هذه الوحدة لوجب تعدّد الآلهة حسب تعدُّد أسمائه و كثرتها في لغة العرب وسائر اللّغات.
    الشبهة الثانية: إنّ القوم تعلّقوا بآيات من القرآن في إثبات قدمه. منها قوله تعالى: ( ألا لَهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ ) ( الاعراف / 54 ) قالوا: إنّه تعالى فصّل بين الخلق والأمر ، وفي ذلك دلالة على أنّ الأمر غير مخلوق (3). والقرآن مشتمل على الأمر فيكون غير مخلوق.
    وأجاب عنه القاضي بأنّ ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العامّ ، مثل قوله سبحانه: ( فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ ) ( الرحمن / 68 ).
    ويمكن أن يجاب بالنّقض والحلّ.
    أمّا نقضاً فبقوله سبحانه: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي ) ( الإسراء / 85 ).
    فلو كان الأمر غير مخلوق يلزم أن يكون الروح الّذي من الأمر غير مخلوق و قديماً.
    وأمّا حلاّ ً فبوجهين:
    أ ـ المراد من الخلق هنا هو التّقدير ، قال في اللّسان: « الخلق: التقدير ، وخلَق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع. قال زهير يمدح رجلاً:
    1 ـ المقالات: ص 290. وفي هذا المصدر تكلّم عن أصحاب الحديث حول اتحاد الاسم مع المسمى ، فراجعه.
    2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 544.
    3 ـ المصدر نفسه



(387)
ولأنت تَفري ما خلقتَ و بعض القوم يَخلق ثمّ لا يفري (1).
    والمراد من الأمر هو الايجاد ، لقوله سبحانه: ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذْا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) ( يس / 82 ). وعلى ذلك يعود معنى الآية إلى أنّ التقدير والايجاد في عالم الكون من السّماوات و الأرض و ما بينهما له سبحانه. ويشهد عليه ملاحظة نفس الآية: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ، يُغْشِى الَّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً و الشَّمسَ والقَمَرَ و النُّجومَ مُسَخّرات بِأَمْرِهِ ، ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِين ) ( الأعراف / 54 ).
    فخلق العالم من الذّرّة إلى المجرّة ، رهن التّقدير و الايجاد ، ولا شريك له سبحانه في واحد من هذين الأمرين ، و عندئذ لا صلة لكلمة الأمر ، بالأوامر الشّرعية الواردة في القرآن الكريم حتّى يستدلّ من حديث المقابلة أنّ الأمر غير الخلق.
    ب ـ المراد من الخلق هو الايجاد ، كما هو الشائع ، والمراد من الأمر السنن السائدة على العالم ، الحاكمة عليه والوسيلة للتدبير. و يشهد له قوله قبل ذلك: ( مسخّرات بأمره ) أي مسخّرات بسننه و قوانينه سبحانه. فيعود معنى الآية أيضاً إلى أنّ الخلق و التّدبير بالسنن له سبحانه ، لا يشاركه فيهما شيء.
    ويظهر ذلك إذا علمنا أنّ « الألف واللام » في « له الأمر » إشارة إلى الأمر الوارد قبله أي: ( مسخّرات بأمره ) ومن المعلوم أنّ التّسخير قائم بوضع سنن و قوانين على عالم الخلق.
    الشبهة الثالثة: إنّ توصيف القرآن بأنّه مخلوق ربّما يوهم وصف القرآن بالكذب والاختلاق ، ولهذا يقال: قصيدة مخلوقة و مختلقة ، إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل.
    قال سبحانه: ( إن هذا إلاّ خلق الأوّلين ) ( الشعراء / 137 ).
    وقال سبحانه: ( إن هذا إلاّ اختلاق ) ( ص / 7 ).
    والإجابة عنه واضحة ، فإنّ المراد من كونه مخلوقاً ، كونه مخلوقاً لله سبحانه.
    1 ـ لسان العرب: مادة « خلق ».

(388)
    ويشهد له أنّه سبحانه وصفه بـ « أنزله » ، و « جعله » ، وغيرذلك من الأفعال الدالّة على انتسابه إلى الله سبحانه.
    واستغلال الملحد لهذه الكلمة بتفسيرها بالكذب و الاختلاق لا يغيِّر الواقع ، فالمراد أنّ القرآن المتلوّ على لسان النّبي والصّحابة و التّابعين والمسلمين ، شيء موجود و لا بدّ له من محدث و خالق ، و خالقه هو الله سبحانه.
    قال المفيد ـ رحمه الله ـ : « إنّ كلام الله تعالى محدث ، وبذلك جاءت الآثار عن آل محمّد ( عليهم السلام ) والمراد أنّ القرآن كلام الله و وحيه و أنّه محدث كما وصفه الله تعالى. وأمنع من إطلاق القول عليه بأنّه مخلوق. وبهذا جاءت الآثار عن الصّادقين ، وعليه كافّة الإماميّة إلاّ من شذّ » (1).
    والحاصل إنّ إطلاق لفظة « الخلق » على القرآن ، لم ـ ّا كان موهماً لكونه كذباً و مختلقاً ، منع من إطلاقه في هذا المقام ، وأجيز إطلاق ما لا يوهم مثل هذا المعنى. كلفظ « محدث ». وأنّه كلام الله و كتابه و تنزيله ، مما يفيد أنه غير أزليّ ، وليس بقديم. فإذن ، يكون من قبيل:
عباراتنا شتّى و حسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
    وقد وردت الروايات في النّهي عن إطلاق الخلق على القرآن ـ لصدّ استغلال الملاحدة ـ في ( توحيد الصّدوق ) (2).
    هذا ، وقد أشار القاضي عبد الجبّار إلى هذا الوجه و قال:
     « فان قيل: أليس قوله تعالى ' « و تخلقون إفكاً » أريد به كونه كذباً فما أنكرتم ، أليس من أنّ القرآن لا يوصف بذلك من إيهام كونه كذباً... أليس يقولون قصيدة مخلوقة مختلقة يعني أنّها كذب ، و على هذا الوجه يقول القائل: خلقت حديثاً و اختلقته » (3).
    1 ـ اوائل المقالات: ص 18 ـ 19.
    2 ـ لاحظ: توحيد الصدوق ، باب القرآن ، الأحاديث 2 و 3 و 4 و 5 ، ص 221 ـ 222.
    3 ـ المغنى: أبواب التوحيد والعدل ، ج 7 ، ص 216 ـ 217.


(389)
    ولكنّ الإجابة عنه واضحة ، لما عرفت من أنّه يمكن التّعبير عنه بوجه لا يستلزم ذلك الوهم ككونه محدثاً ، أو إنّه غير قديم.
    والظّاهر أنّ الوجه في عدم توصيفه بكونه مخلوقاً هو تصوّر الملازمة بين كونه مخلوقاً وكون علمه سبحانه حادثاً.
    وهناك وجه آخر لعدم التزامهم بكونه مخلوقاً وهو تصوّر أنّ كلِّ مخلوق فان ، فيلزم فناء القرآن و موته مع أنّه سبحانه يقول: ( إنّا نحن نزّلنا الذِّكر و إنّا له لحافظون ) (1).
    الشّبهة الرابعة: إنّ الله سبحانه خلق العالم بلفظ « كن » ، يقول: ( إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ( يس / 74 ) و يقولون لو لم يكن هذا ال ـ « كن » قديماً ، لوجب أن يكون محدثاً. فكان لا يحدث إلاّ ب ـ « كن » آخر. والكلام في ذلك ال ـ « كن » كالكلام فيه ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له (2).
    وأجاب عنه القاضي: ليس المراد من هذه اللّفظة هو المركّب من الكاف و النّون ، إذ لا شكّ في حدوثه ، فيجب أن يكون المراد هو الارادة (3).
    ثمّ قال: « والغرض من هذه الآية و ما جرى مجراها إنّما هو الدّلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع ، نظيرها قوله تعالى: ( وقال لها و للأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً ) ( فصلت / 11 ). ومنه قول الشاعر:
و قالت له العينان سمعاً و طاعة وحدرتا كالدُّرّ لمّا يثقّب
    والّذي يدلّ على أنّ المراد هنا ليس لفظة « كن » ، أنّه ليس في المقام مخاطب ذو سمع يسمع الخطاب فيوجد به ، وعندئذ تصير الآية تمثيلاً لحقيقة فلسفيّة ، وهي أنّ إفاضته سبحانه وجود الشّيء لا تتوقّف على شيء وراء ذاته المتعالية. فمشيئته سبحانه
    1 ـ المغنى: ج 7 ، ص 121 وهو أيضاً كما ترى.
    2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 560.
    3 ـ المصدر السابق. ولمّا كان القول بالارادة الحادثة في ذاته مستلزماً لحدوث الذات ، التجأ القاضي وأتباعه إلى أنّ للّه سبحانه إرادة غير قائمة بذاته ، وهو كما ترى.


(390)
    مساوقة لوجود الشّىء بلا تخلّف. وأمّا حقيقة إرادته فلبيانها مقام آخر.
    وفي نفس الآيات إشارات لطيفة إلى هذا المعنى.
    قال سبحانه: ( وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر ) ( القمر / 50 ) فيكون الهدف من الآية ونظائرها بيان أنّ إرادته و مشيئته المتعلِّقة بتحقّق الشيء يساوق وجوده و ليست كارادة الإنسان. فإنّ الارادة والمشيئة فيه لا تساوق وجود الشّيء ، بل يحتاج إلى مقدّمات و أسباب.

المسألة الثامنة:
ما تتعلّق بالنبوّات و الشّرائع و معاجز الأنبياء
    إنّ القاضي رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل زعم أنّها من نتائج القول به ، وبما أنّ الاختلاف فيها بين المعتزلة و غيرهم بسيط ، نكتفي بإيرادها إجمالاً:
    1 ـ بعث الأنبياء: قال: « ووجه اتّصاله بباب العدل هو أنّه سبحانه إذا علم أنّ صلاحنا يتعلّق بالشّرعيات ، فلا بدّ من أن يعرِّفناها ، لكي لا يكون مُخلاًّ بما هو واجب عليه ، ومن العدل أن لا يخلّ بما هو واجب عليه ».
    2 ـ لزوم اقتران النبوّة بالمعجز: قال: « إذا بعث إلينا رسولاً ليعرِّفنا المصالح ، فلا بدّ من أن يدّعي النبوّة و يظهر عليه العلم المعجز الدّالّ على صدقه عقيب دعواه النُّبوة ».
    ثمّ فصّل حقيقة المعجز.
    يلاحظ عليه: إنّ مقتضى العدل بعث الأنبياء بالدّلائل و البيّنات المثبتة لدعواهم النّبوّة ، ولا تنحصر البيّنات بالمعجزات ، بل المعجز إحدى الطّرق إلى التعرّف على صدق النّبي. وهناك طريقان آخران نشير إلى عنوانيهما:
    أ ـ تصديق النبّيّ السابق ( الّذي ثبتت نبوّته قطعيّاً ) نبوّة النّبىِّ اللاّحق.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس