بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 391 ـ 400
(391)
    ب ـ جمع القرائن والشّواهد الّتي تدلّ على صدق دعواه صدقاً قطعيا (1).
    3 ـ صفات النّبي: يقول: « الرّسول لا بدّ أن يكون منزّهاً عن المنفِّرات جملة ، كبيرة أو صغيرة ، لأنّ الغرض من البعثة ليس إلاّ لطف العباد و مصالحهم. فلا بدّ من أن يكون مقبولاً للمكلّف.
    ثمّ جوّز صدور الصّغائر عن الأنبياء الّتي لا حظّ لها إلاّ في تقليل الثّواب دون التنفير... ، لأنّ قلّة الثّواب ممّا لا يقدح في صدق الرُّسل ولا في القبول منهم » (2).
    يلاحظ عليه: أنّ صدور الذّنب من النّبي يوجب زوال الثّقة بصدق قوله ، فيقال: لو كان صادقاً فيما يرويه فلماذا يتخلّف عنه.
    4 ـ نسخ الشرائع: فقد ذكر جملة من الأدلّة على جواز النّسخ في الشّرائع وطرح القول بالبداء و بيّن الفرق بينه و بين النّسخ.
    5 ـ نبوّة نبيّ الإسلام و دلائل نبوّته وأنّ القرآن معجز: ثمّ بسط الكلام في إعجاز القرآن إلى أن وصل بحثه إلى القول بالتّحريف في القرآن.
    ومن أعجب ما أتى به قوله إنّ الإماميّة جوّزوا فى القرآن الزّيادة و النّقصان حتّى قالوا: إنّ سورة الاحزاب كانت بحمل جمل ، وإنّه قد زيد فيها ، ونقص ، وغيِّر و حرِّف (3).
    أقول: غاب عن القاضي أنّ الإماميّة على بكرة أبيهم لم يصدر منهم هذا الكلام الرّكيك.
    نعم ، روى القرطبي عند تفسيره سورة الأحزاب من عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مائتي آية ، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها إلاّ على ما هي الآن (4).
    تمّ الكلام حول الأصل الثّاني والفروع الّتي تترتّب عليه.
    1 ـ قد فصلنا تلك الطرق في بحوثنا الكلامية لاحظ الالهيات ج 3 ص 61 ـ 114.
    2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 574 ـ 575.
    3 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 601.
    4 ـ تفسير القرطبي: ج 14 ، ص 113.


(392)
الأصل الثّالث
الوعد والوعيد
    هذا هو الأصل الثّالث من الاُصول الّتي بني عليها الاعتزال ، والمراد من الوعد هو المدح والثّواب على الطّاعات ، و من الوعيد الذّمّ والعقاب على المعاصي.
    والمسائل المبتنية على الوعد والوعيد في الكتاب والسنّة والعقل كثيرة طرحها المتكلِّمون و المفسِّرون في كتبهم الكلاميّة والتفسيريّة. وليست المعتزلة متفرِّدة بالرأي في هذه المسائل وإنّما تفرّدوا في بعض الفروع و لأجل ذلك نذكر عناوين المسائل الكليّة ، ثمّ نركِّز على متفرِّدات المعتزلة ، وإليك البيان:
    1 ـ الكلام في المستحَقّ بالأفعال ( الطّاعة والعصيان ) فهو إمّا المدح والذّمّ ، أو الثّواب والعقاب.
    2 ـ الكلام في الشروط الّتي معها تستحقّ هذه الأحكام.
    3 ـ هل الثّواب على وجه التفضّل كما هو المشهور لدى الشّيعة و جماعة من أهل السنّة ، أو من باب الاستحقاق ، كما هو المشهور لدى معتزلة البصرة؟
    4 ـ هل استحقاق العقاب عقليّ و سمعيّ ، أو سمعيّ فقط؟
    5 ـ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب ، فيعبّر عن الأوّل بالتّكفير ، وعن الثاني بالإحباط؟
    6 ـ تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصّغائر.


(393)
    هذه هي المسائل الّتي اختلفت فيها كلمة المتكلّمين من غير فرق بين المعتزليّ وغيره ولا نركّز البحث على هذه المسائل ، وإنّما نبحث في المسائل الآتية الّتي تعدّ من متفرّدات المعتزلة.
    أ ـ هل يحسن من الله تعالى عقلاً أن يعفو عن العصاة و أن لا يعاقبهم إذا ماتو بلا توبة ، أو إنّه ليس له إسقاطه؟
    ب ـ هل الفاسق ( مرتكب الكبائر ) مخلّد في العذاب أو لا؟ سواء أكان العذاب بالنّار أم بغيرها.
    ج ـ إذا كان التّخليد في العذاب أمراً محقّقا ، فما معنى الشّفاعة الّتي تضافر عليها الكتاب والسنّة المفسّرة بخروج الفسّاق من النّار بشفاعة الرّسول و غيره؟
    د ـ هل القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود مرجئة أم راجية؟
    هـ ـ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثرة في سقوط الثّواب؟
    هذه هي المسائل الّتي تفرّدت بها المعتزلة ، واشتركت معهم فئة الخوارج في تخليد الفسّاق في العذاب ، لقولهم بكفر المرتكب للكبيرة ، وهذا الأصل ـ أي الوعد والوعيد ـ رمز إلى هذه المسائل الخمس الأخيرة.

أ ـ هل يحسن العفو عن العصاة من الله أو لا؟
    اختلفت مدارس الاعتزال فيها ، فالبصريّون و منهم القاضي عبدالجبّار على الجواز ، والبغداديّون على المنع ، حتّى قالوا: يجب عليه أن يعاقب المستحقّ للعقوبة ، ولا يجوز أن يعفو عنه ، حتّى صار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثّواب. فإنّ الثّواب عندهم لا يجب إلاّ من حيث الجود. وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله على كلِّ حال.


(394)
    احتجّ القاضي على الجواز بأنّ العقاب حقّ الله تعالى على العبد ، وليس في إسقاطه إسقاط حقّ ليس من توابعه ، وإليه استبقاؤه فله إسقاطه ، كالدّين فإنّه لمّا كان حقّاً لصاحب الدّين خالصا ، ولم يتضمّن إسقاط حقّ ليس من توابعه وكان إليه استبقاؤه ، كان له أن يسقط كما أنّ له أن يستوفيه.
    استدلّ البغداديّون بوجوه:
    الأوّل: إنّ العقاب لطف من جهة الله تعالى واللُّطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلّف على أبلغ الوجوه ، ولن يكون كذلك إلاّ والعقاب واجب على الله تعالى. فمعلوم أنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر (1).
    يلاحظ عليه: أنّ اللُّطف عبارة عمّا يقرِّب الإنسان من الطّاعة و يبعِّده عن المعصية ، وهذا لا يتصوّر إلاّ في دار التّكليف لا دار الجزاء ، ففي الاُولى العمل والسّعي ، وفي الاُخرى الحساب والاجتناء.
    وأمّا ما ذكروه أخيراً من أنّه لو علم المكلّف أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر فيلاحظ عليه: أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التّوبة ، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته ، كان أقرب إلى الطّاعة ، وأبعد من المعصية.
    أضف إلى ذلك إنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان ، ولليأس آثاراً سلبيّة في الادامة على الموبقات ، ولأجل ذلك يشتمل الذِّكر الحكيم على آيات التّرغيب كما يشتمل على آيات التّرهيب.
    وأخيراً نقول: إنّ القول بجواز العفو ، غير القول بحتميّته. و الأثر السّلبي ـ لو سلّمنا ـ يترتّب على الثاني دون الأوّل ، والكلام في جواز العفو لا في وجوبه و حتميّته.
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 646 و 647.

(395)
    الثّاني: مانقله عنهم العلاّمة الدوّاني في ( شرح العقائد ) ، قال: « المعتزلة والخوارج أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة ، و حرّموا عليه العفو. واستدلّوا عليه بأنّ الله أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب ، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعده والكذب في خبره ، وهما محالان » (1).
    واُجيب عنه بأنّ الوعد والوعيد مشروطان بقيود و شروط معلومة من النّصوص ، فيجوز التخلّف بسبب انتفاء بعض تلك الشّروط (2).
    وربّما اُجيب بوجه آخر وهو أنّ الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى و إن كان لا يجوز أن يخلف الوعد. وروي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجز له ، ومن أوعده على عمله عقاباً فهو في الخيار » (3).
    وروي أنّ عمرو بن عبيد ( رئيس المعتزلة بعد واصل ) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء وقال: يا أبا عمرو ، يخلف الله ما وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً ، أيخلف الله وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان ، إنّ الوعد غير الوعيد. إنّ العرب لا يَعدّ عيباً ولا خلفاً ، أن يعد شرّاً ثمّ لم يفعل ، بل يرى ذلك كرماً و فضلاً ، وإنّما الخلف أن يعد خيراً ثمّ لم يفعل. قال ( عمرو بن عبيد ) فأوجدني هذا العرب. قال:نعم ، أما سمعت قول الشاعر:
وإنّي إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي و منجز موعدي
    وذكر الشاعر الآخر:
إذا وعد السرّاء أنجز وعده وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع (4)

    1 ـ شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 ـ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.
    2 ـ شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 ـ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.
    3 ـ شرح العقائد العضدية ج 2 ص 194 ـ 199 والمتن للقاضي الايجي ( المتوفى عام 756 ) والشرح لجلال الدين الدواني ( المتوفى عام 908 ، أو 909هـ ) طبعا مع حواشي الشيخ اسماعيل الكلنبوي المتوفى ( عام 1205هـ ) في استنبول ( عام 1317هـ ).
    4 ـ المعتزلة: ص 157 ، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه « الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد ».


(396)
    يلاحظ على الجواب الأوّل أنّه احتمال محض يثبت به الامكان لا الوقوع ، ويرتفع به الاستحالة. ولعلّ الغاية هي اثبات الامكان.
    وأمّا الجواب الثّاني فظاهره أشبه بالبحث اللّفظي و الأدبي ، مع أنّ المسألة عقليّة ، ولعلّ المجيب يريد شيئاً آخر أشار إليه شيخنا المفيد في كتاب « العيون والمحاسن » وهو التّفصيل بين الوعد والوعيد ، وأنّ الخلف في الأوّل قبيح عقلاً والخلف في الثّاني ليس بقبيح عقلاً. والدّليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصّة ، ولا يعلِّقون بصاحبه ذمّاً. فلو كان العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيحاً ، يجب أن يكون كذلك عند كلِّ عاقل.
    ولعلّ وجه ذلك أنّ الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير و إمساك عن أداء ما عليه من الحقّ ، وأمّا الوعيد فإنّ مآل الخلف إلى إسقاط حقّ نفسه ، ومثل ذلك يعدّ مستحسناً لا قبيحاً إذا وقع الخلف في موقعه.
    الثالث : إنّ في جواز ذلك إغراء للمكلّف بفعل القبيح اتّكالاً منه على عفو الله ، فالعقاب ضروري ، لأنّه زاجر عن ارتكاب القبائح ، كما أنّ في العفو تسوية بين المطيع والعاصي و ذلك ما لا يتّفق مع العدل (1).
    يلاحظ عليه: أنّ الاغراء لازم القول بالعفو قطعاً كما عليه المرجئة ، لا القول به احتمالاً كما عليه الراجئة ، ولو صحّ ما ذكر ، لبطل الوعد بالتّوبة والشفاعة ، وأمّا حديث التّسوية ، فهو يرتفع باثابة المطيع دون العاصي و إنّما يلزم بتسويتهما في الثواب أيضاً.
    إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاُولى و ثبت أنّ العفو عن العصاة من المسلمين جائز. ولأجل ذلك يقول الصّدوق في تبيين عقائد الإماميّة:
    اعتقادنا في الوعد والوعيد هو أنّ من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه ، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن عذّبه فبعدله ، وإن عفا عنه فبفضله ( ومَا رَبُّكَ
    1 ـ المعتزلة: ص 157 ، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه « الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد ».

(397)
بِظَلاّم لِلْعَبِيد ) وقال عزّوجلّ: ( إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ و يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (1).
    هذا هو موجز الكلام في المسألة الأولى ، وإليك البحث في مسألة التّخليد.

ب ـ هل الفاسق مخلد في العذاب أو لا؟
    هذا هو البحث المهمّ في هذا الأصل ، ويعدّ بيت القصيد في فروعه. لا شكّ أنّ الله تعالى أوعد المجرمين التّخليد في العذاب ، فهل هو مختصّ بالمشركين والمنافقين أو يعمّ مرتكب الكبائر؟ ذهبت المعتزلة إلى عمومها و صار القول بالتّخليد شارة الاعتزال وسمته ، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين. قال المفيد: « اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النّار متوجّه إلى الكفّار خاصّة ، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى و الاقرار بفرائضه من أهل الصّلاة ، و وافقهم على هذا القول كافّة المرجئة سوى محمّد بن شبيب و أصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعموا أنّ الوعيد بالخلود في النّار عامّ في الكفّار ، وجميع فسّاق أهل الصّلاة » (2).
    ثمّ إنّ المعتزلة استدلّت على خلود الفاسق في النّار بالسّمع وهو عدّة آيات ، استظهرت من إطلاقها أنّ الخلود يعمّ الكافر و المنافق والفاسق ، و إليك هذه الآيات واحدة بعد الاُخرى:
    الآية الأولى: قوله سبحانه: ( وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( النساء / 14 ) (3).
    ولا شكّ أنّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض و ارتكاب المعاصي.
    1 ـ أوائل المقالات: ص 14. والآيتان من سورتي فصّلت 46 والنساء 48.
    2 ـ أوائل المقالات: ص 14.
    3 ـ وأمّا قوله سبحانه: ( ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ) ( الجن 23 ). فهو راجع الى الكفار ، كما هو واضح لمن لاحظ آيات السورة.


(398)
    يلاحظ عليه: أوّلاً : إنّ دلالة الآية على خلود الفاسق في النّار لا يتجاوز حدّ الاطلاق ، والمطلق قابل للتّقييد ، وقد خرج عن هذه الآية باتّفاق المسلمين ، الفاسق التائب. فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربّما تشمله عناية الله و رحمته ، ويخرج عن العذاب ، لكان المطلق مقيّداً بقيد آخر وراء التّائب. فيبقى تحت الآية ، المشرك والمنافق.
    وثانياً: إنّ الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان ، بل العصيان المنضمّ إليه تعدّي حدود الله ، ومن المحتمل جدّاً أنّ المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه ، وطردها ، وعدم قبولها. كيف ، وقد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.
    يقول سبحانه: ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيَنِ... ) ( النساء / 11 ).
    ويقول سبحانه: ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ... ) ( النساء / 12 ).
    ويقول سبحانه: ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ... ) ( النساء / 13 ).
    ثمّ يقول سبحانه: ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ... ) ( النساء / 14 ).
    وقوله: ( ويتعدّ حدوده ) وإن لم يكن ظاهراً في رفض التّشريع ، لكنّه يحتمله ، بل ليس الحمل عليه بعيداً بشهادة الآيات الاُخرى الدالّة على شمول غفرانه لكلِّ ذنب دون الشّرك ، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حقّ الفاسق غير التائب كما سيوافيك.
    يقول الطّبرسي ـ رحمه الله ـ : « إنّ قوله: ( ويتعدّ حدوده ) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله ، وهذه صفة الكفّار. ولأنّ صاحب الصّغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية ، ومتعدّياً حدّاً من حدود الله. وإذا جاز إخراجه بدليل ، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النّبي ، أو يتفضّل الله عليه بالعفو ، بدليل آخر. وأيضاً فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدّليل على وجوب قبول


(399)
    التّوبة. وكذلك يجب إخراج من يتفضّل الله بإسقاط عقابه منها لقيام الدّلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو » (1).
    الآية الثّانية: قوله سبحانه: ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء / 93 ).
    قال القاضي: « وجه الاستدلال هو أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه ، وعاقبه ، وغضب عليه ، ولعنه وأخلده في جهنّم » (2).
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالاطلاق ، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم ، والمسلم القاتل إذا تاب ، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الالهيّة أن يتفضّل عليه بالعفو. فليس التّخصيص أمراً مشكلاً.
    وثانياً: إنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن ، أو قتله لإيمانه. وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.
    لاحظ قوله سبحانه: ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَومَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) ( النساء / 91 ).
    ثمّ ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأً و تعمّداً ، وفي ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمديّ الّذي يقوم به القاتل لعداء دينيّ لاغير ، فيكون ناظراً إلى غير المسلم.
    الآية الثّالثة: قوله سبحانه: ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولِئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة / 81 ).
    1 ـ مجمع البيان: ج 2 ، ص 20 ، طبعة صيدا.
    2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 659.


(400)
    والاستدلال بهذه الآية إنّما يصحّ مع غضِّ النّظر عن سياقها ، وأمّا مع النّظر إليه فإنّها واردة في حقِّ اليهود ، أضف إليه أنّ قوله سبحانه: ( وأحاطت به خطيئته ) لايهدف إلاّ إلى الكافر ، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصياً لا تحيط به خطيئة ، ففي قلبهنقاط بيضاء يشعّ عليها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه و كتبه على أنّ دلالة الآية بالاطلاق ، فلو ثبت ما تقوله جمهرة المسلمين ، يخرج الفاسق من الآية بالدّليل.
    الآية الرابعة:قوله سبحانه: ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ خَالدُونَ* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فَيْهِ مُبْلِسُون * وما ظَلَمْنَاهُمْ ولكِنْ كَانُوا هُمُ الظّالمين ) ( الزخرف / 74 ـ 76 ).
    إنّ دلالة الآية بالإطلاق فهي قابلة للتّقييد أوّلاً. وسياق الآية في حقِّ الكفّار ثانياً ، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِ آيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِين * ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) ( الزخرف / 69 ـ 70 ).
    ثمّ يقول : ( إنّ المجرمين في عذاب جهنّم خالدون ) » ف ـ « المجرمين » في مقابل « الّذين آمنوا » فلايعمّ المسلم.
    هذه هي الآيات الّتي استدلّت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النّار. وقد عرفت أنّ دلالتها بالاطلاق لا بالصِّراحة ، وتقييد المطلق أمر سهل ، مثل تخصيص العام ، مضافاً إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر والمنافق. وهناك آيات (1) أظهر ممّا سبق تدلّ على شمول الرّحمة الإلهيّة للفسّاق غير التّائبين ، وإليك بيانها:
    1 ـ قوله سبحانه: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنّاس عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ) ( الرعد / 6 ).
    قال الشريف المرتضى: « في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة ، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين. لأنّ قوله: ( على ظلمهم )
    1 ـ كما تدلّ هذه الآيات على عدم الخلود في النار ، تدلّ على جواز العفو عن الفاسق من بدء الأمر ، وأنّه يعفى عنه ولا يعذّب من رأس ، فهذا الصنف من الآيات كما تحتجُّ بها في هذه المسألة ، تحتج بها في المسألة السالفة أيضاً فلاحظ.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس