بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 401 ـ 410
(401)
    إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين ، ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره ، وأصِلُه على هجره » (1).
    وقد قرّر القاضي دلالة الآية و أجاب عنه بأنّ الأخذ بظاهر الآية ممّا لا يجوز بالاتّفاق ، لأنّه يقتضي الاغراء على الظّلم ، وذلك ممّا لا يجوز على الله تعالى ، فلا بدّ من أن يؤوّل ، وتأويله هو أنّه يغفر للظّالم على ظلمه إذا تاب (2).
    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الإشكال ، جار في صورة التّوبة أيضاً ، فإنّ الوعد بالمغفرة مع التّوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية برجاء أنّه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجباً للاغراء ، فليكن الوعد بالغفران مع التّوبة كذلك.
    والّذي يدلّ على أنّ الحكم عامّ للتّائب و غيره هو التّعبير بلفظ « الناس » مكان « المؤمنين ». فلو كان المراد هو التّائب لكان المناسب أن يقول سبحانه: « وإنّ ربّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم » مكان قوله للناس. وهذا يدلّ على أنّ الحكم عامّ يعمّ التائب و غيره.
    وفي الختام ، إنّ الآية تعد المغفرة للنّاس ولا تذكر حدودها و شرائطها ، فلا يصحّ عند العقل الاعتماد على هذا الوعد و ارتكاب الكبائر. فإنّه وعد إجماليّ غير مبيّن من حيث الشّروط و القيود.
    2 ـ قوله سبحانه: ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِك بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ) ( النساء / 48 ).
    وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ رحمته تشمل غير التّائب من الذنوب ، أنّه سبحانه نفى غفران الشِّرك دون غيره من الذٌّنوب ، وبما أنّ الشرك يغفر مع التّوبة فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب ، فمعنى قوله: « إنّ اللّهَ لا يغفِرُ أن يشركَ » أنّه لا يغفر إذا مات بلا توبة ، كما أنّ معنى قوله: « و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء » أنّه يغفر ما دون
    1 ـ مجمع البيان: ج 3 ، ص 278.
    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 684.


(402)
    الشِّرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين. ولو كانت سائر الذنوب مثل الشِّرك غير مغفورة إلاّ بالتّوبة ، لما حسن التّفصيل بينهما ، مع وضوح الآية في التّفصيل (1).
    وقد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبنّاه الجمهور بوجه رائع ، ولكنّه تأثّراً بعقيدته الخاصّة في الفاسق قال: « إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان لأنّه قال: « و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء » ولم يبيِّن من الّذي يغفر له. فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر ، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر. فسقط احتجاجهم بالآية (2).
    أقول: عزب عن القاضي أنّ الآية مطلقة تعمّ كلا القسمين ، فأيّ إجمال في الآية حتّى نتوقّف. والعجب أنّه يتمسّك بإطلاق الطّائفة الاُولى من الآيات ، ولكنّه يتوقّف في إطلاق هذا الصِّنف.
    نعم ، دفعاً للاغراء ، وقطعاً لعذر الجاهل ، قيّد سبحانه غفرانه بقوله: « لمن يشاء » حتّى يصدّه عن الإرتماء في أحضان المعصية بحجّة أنّه سبحانه وعد له بالمغفرة.
    ثمّ إنّ القاسم بن محمّد بن عليّ الزّيدي العلويّ المعتزلي تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات وقال: آيات الوعيد لا إجمال فيها ، وهذه الآيات و نحوها مجملة فيجب حملها على قوله تعالى ( وإني لغفّارٌ لمن تابَ و آمَنَ و عَمِلَ صَالحاً ثُمَّ اهْتَدى ) ( طه / 82 ) ثمّ ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التّوبة (3).
    ويظهر النّظر في كلامه ممّا قدّمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.
    إلى غير ذلك من الآيات الّتي استدلّ بها جمهور المسلمين على شمول مغفرته سبحانه لعصاة المسلمين ، وعدم تعذيبهم ، أو إخراجهم من العذاب ، بعد فترة خاصّة.
    هذا ، والبحث أشبه بالبحث التّفسيري منه بالكلامي. ومن أراد الاستقصاء في هذا المجال فعليه جمع الآيات الواردة حول الذّنوب والغفران ، حتّى يتّضح الحال فيها ، ويتّخذ موضعاً حاسماً بإزاء اختلافاتها الأوّليّة.
    1 ـ مجمع البيان: ج 2 ص 57 بتلخيص.
    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 678.
    3 ـ الأساس لعقائد الأكياس: ص 198.


(403)
ج ـ هل الشّفاعة للتائبين من المؤمنين أو للفسّاق منهم؟
    إنّ هذه المسألة مبنيّة على المختار في المسألة السابقة ، ولمّا كان المختار عند جمهور المسلمين جواز العفو عن الفاسق ، أو عدم تخليده بعد تعذيبه مدّة ، قالوا بأنّ الشّفاعة للفسّاق وأنّ شفاعة الشّفعاء تجلب عفوه سبحانه إليهم ، فيعفو عنهم من بدء الأمر ، أو بعد ما يعذِّبهم فترة.
    وأمّا المعتزلة ، فلمّا كان المختار عندهم في المسألة السابقة خلود الفاسق في العذاب ، خصّوا الشّفاعة بالتّائبين من المؤمنين ، وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الانقاذ من العذاب ، أو الخروج منه.
    وهذه هي النّقطة الحسّاسة في الأبحاث الكلاميّة الّتي لها صلة بكتاب الله و سنّته. فالمعتزلة في المقام أوّلوا صريح القرآن و الروايات وقالوا: إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا ، يتنزّل منزلة الشّفاعة لمن قتل ولد الغير و ترصّد للآخر حتّى يقتله; ، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هيهنا (1).
    والخطأ في تفسير آيات الشّفاعة ، و رفض الروايات المتواترة ، حدث من الخطأ في المسألة السّابقة. وهكذا شيمة الخطأ و خاصّته فلا يقف عند حد ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « ألا و إنّ الخطايا خيل شمس ، حمل عليها أهلها ، و خلعت لجمها » (2).
    وما ذكره القاضي غفلة عن شروط الشّفاعة ، المحرّرة في محلِّها ، فإنّ بعض الذّنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانيّة بالله سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحيّة مع النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشّفاعة ، وقد وردت الروايات الإسلاميّة حول شروط الشّفاعة ، و في حرمان طوائف من الناس منها.
    والعجب أنّ القاضي يستدلّ على أنّ العقوبة على طريق الدّوام ، ولا يخرج الفاسق
    1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 688.
    2 ـ نهج البلاغة: الخطبة 61.


(404)
    من النّار بشفاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقوله سبحانه: ( واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفُسٌ عَنْ نَفْس شيئاً ) ( البقرة / 48 ) ، وقوله سبحانه: ( ما للظّالمين من حميم ولا شَفِيع يُطَاعُ ) ( غافر / 18 ) (1).
    يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاُسلوب الصّحيح لتفسير القرآن الكريم هو تجريد المفسِّر نفسه عن كلِّ رأي سابق أوّلاً ، وجمع الآيات المربوطة بموضوع واحد ثانياً. فعند ذلك يقدر على فهم المراد. والقاضي نظر إلى الآيات بمنظار الاعتزال أوّلاً ، ولم يجمع الآيات الراجعة إلى الشّفاعة ثانياً ، مع أنّ الآيات الراجعة إلى الشّفاعة على سبعة أصناف (2) فأخذ صنفاً واحداً و ترك الأصناف الاُخر.
    ثانياً: ما ذكره من الآيتين في نفي الشفاعة راجعتان الى الكفّار. فالآية الاُولى ناظرة إلى نفي الشّفاعة الّتي كانت اليهود يتبنّونها كما هو صريح سياقها ، والآية الثانية الّتي وردت في السّورة المكّية ناظرة إلى الشّفاعة الّتي كان المشركون يعتقدون بها. قال سبحانه حاكياً عنهم: ( إذ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العالمين * وما أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُون * فَما لَنَا مِن شَافِعِين * ولا صَدِيق حَمِيم ) ( الشعراء / 98 ـ 101 ).
    وقال سبحانه: ( وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَينَا اليَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِين ) ( المدثر / 46 ـ 48 ).
    ثالثاً: أنّ مسألة الشّفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل ، و خاصّة الوثنيّين واليهود ، والإسلام طرحها مهذّبة من الخرافات ، و ممّا نسج حولها من الأوهام ، و قرّرها على اُسلوب يوافق اُصول العدل والعقل ، وصحّحها تحت شرائط في الشّافع والمشفوع له ، و هي الّتي تجرّ العصاة إلى الطّهارة من الذّنوب ، وكفّ اليد عن الآثام والمعاصي ، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك السّتر.
    و من امعن النظر في آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشّفاعة أنّ الشّفاعة تقف على
    1 ـ الاصول الخمسة: ص 689.
    2 ـ لاحظ في الوقوف على هذه الأصناف الجزء الرابع من مفاهيم القرآن 177 ـ 199.


(405)
    الدّارجة بينهم ، خصوصاً اليهود ، كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم و آبائهم في حطِّ ذنوبهم ، وغفران آثامهم. ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ، ويرتكبون الذّنوب تعويلاً على ذلك الرّجاء.
    وفي هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة: ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ ) ( البقرة / 55 ) ، ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشّفاعة المحرّرة من كلِّ قيد: ( ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) ( الأنبياء / 28 ).
    وحاصل الآيتين أنّ أصل الشّفاعة الّتي تدّعيها اليهود و يلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابت في الشّريعة السماويّة ، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشّافع ، و رضاه للمشفوع له.
    وعلى ذلك فكيف يصحّ لنا تخصيص الآيات بقسم خاصّ من الشّفاعة و هي شفاعة الأولياء لرفع الدّرجة و زيادة الثّواب.
    وأوضح دليل على عموميّة الشّفاعة ما أصفق على نقله المحدِّثون من قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ». والقاضي رمى هذا الحديث بأنّه خبر واحد لا يصحّ به الاحتجاج في باب العقائد. وما ذكره يعرب عن قصور باعه في مجال الحديث. فقد رواه من أئمّة الحديث أبو داود في سننه ، والتّرمذي في صحيحه ، وابن حنبل في مسنده ، وابن ماجة في صحيحه (1).
    وليس حديث الشّفاعة الدالّ على شمولها لأصحاب الكبائر منحصراً به ، بل أحاديث الشّفاعة في هذا المجال متواترة ، وقد جمعنا ما رواه السنّة والشيعة في هذا المجال في كتابنا « مفاهيم القرآن » (2).
    1 ـ راجع سنن ابي داود ، ج 4 ، ص 236. وصحيح الترمذي ، ج 4 ، ص 45. وصحيح ابن ماجة ، ج 2 ، ص 144. ومسند احمد ، ج 3 ص 213.
    2 ـ لاحظ: ج 4 ، فصل الشفاعة في الأحاديث الاسلاميّة ، ص 289 ـ 311. فتجد في تلك الصحائف ( 112 ) حديثاً عن النبي وعترته. وقد قام العلامة المجلسي بجمع احاديث الشفاعة في موسوعته بحار الانوار ( ج 8 ، ص 29 ـ 63 ) وروى بعضها الآخر في سائر أجزائه. كما روى علاء الدين المتقي احاديث الشفاعة في كنز العمال ج 14ص 628 ـ 640.


(406)
د ـ القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود ، مرجئة أو راجية؟
    قد تعرّفت على عقيدة المرجئة في الفصول السّابقة و أنّ شعارهم أنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الشِّرك طاعة. وقد عرّفناك منهجهم و أنّ هؤلاء بهذا الشعار يغرّون الجهّال بالمعصية واقتراف الذنوب ولا يعتنون بالعمل بحجّة أنّهم مؤمنون في كلِّ حال ، ويعيشون في جميع الأحوال بإرجاء العمل و يقولون: إنّ إيمان واحد منّا يعدل إيمان جبرائيل والنّبيّ الأكرم. هذه هي المرجئة.
    وأمّا جمهرة المسلمين القائلون بجواز العفو وعدم الخلود ، فهم راجية ، يعتقدون بالعقاب والثّواب ، يدعون ربّهم رغباً و رهباً ، ولا يتّكلون في حياتهم على العفو و الرجاء من دون عمل ، غير أنّهم يبثّون بذور الرجاء في قلوب العباد لما فيه من آثار تربويّة. وقد ذكرنا في محلِّه أنّ في القول بالعفو عن العصاة و خروجهم من النّار بالشّفاعة و غيرها ، بصيص من الرجاء ، و نافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتّى لا ييأسوا من روح الله و رحمته ، ولئلاّ يغلبهم الشّعور بالحرمان من عفوه ، فيتمادوا في العصيان.
    فالمرجئة من قدّموا الإيمان و أخّروا العمل ، بخلاف الراجية ، فإنّهم جعلوا الإيمان غير منفكّ عن العمل و ينادون بأعلى أصواتهم أنّ الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر ، لا يغني ولا يسمن من جوع ، ويخافون ربّهم بالغيب ، ومع ذلك يرجون رحمته. فلا ينفكّ الخوف عن الرجاء ، والرّهبة عن الرغبة.
هـ ـ هل الطاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب ، و هذا ما يعبّر عنه بالإحباط و التكفير.
    الاحباط في اللّغة بمعنى: الإبطال ، يقال: أحبط الله عمل الكافر. أي أبطله (1).
    والكفر بمعنى « السّتر » و « التّغطية » ، يقال لمن غطّى درعه بثوب: قد كفر درعه ،
    1 ـ المقاييس: ج 2 ، مادة حبط ، ص 129.

(407)
    والمكفّر: الرّجل المتغطّي بسلاحه ، ويقال للزّارع: كافر ، لأنّه يغطي الحَبّ بتراب الأرض ، قال الله تعالى: ( كمثلِ غيث أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) ( سورة الحديد ، الآية 20 ). والكفر ضدّ الإيمان ، سمّي بذلك لأنّه تغطية الحقّ (1).
    والمراد من الحبط هو: سقوط ثواب العمل الصالح المتقدَّم ، بالذّنوب المتأخّرة ، كما أنّ المراد من التّكفير هو سقوط الذّنوب المتقدَّمة ، بالطّاعة المتأخِّرة.
    وبعبارة اُخرى: إنّ الاحباط في عرف المتكلّمين: عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتّب ما يتوقّع منها عليها ، ويقابله التّكفير وهو: إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها ، فهو في المعصية نقيض الاحباط في الطّاعة و لنقدّم الكلام في الإحباط أوّلاً.

1 ـ الاحباط
    المعروف عن المعتزلة هو القول بالإحباط ، كما أنّ المعروف عن الاماميّة و الأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي و الطّاعات والثّواب والعقاب (2).
    قال القاضي عبد الجبّار: « إنّ المكلّف لا يخلو إمّا أن تخلص طاعاته و معاصيه ، أو يكون قد جمع بينهما ، فلا يخلو إمّا أن تتساوى طاعاته و معاصيه ، أو يزيد أحدهما على الآخر ، فإنّه لا بدّ من أن يسقط الأقلّ بالأكثر....وهذا هو القول بالإحباط و التّكفير على ما قاله المشايخ ، وقد خالفنا في ذلك المرجئة ، وعبّادبن سليمان الصّيمري » (3).
    قال التفتازاني: « لا خلاف في أنّ من آمن بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل الجنّة بمنزلة من لا معصية له ، ومن كفر بعد الإيمان والعمل الصّالح ، فهو من أهل النّار بمنزلة من لا حسنة له. وإنّما الكلام فيمن آمن و عمل صالحاً و آخر سيّئاً ، واستمرّ على
    1 ـ المقاييس: ج 5 ، مادة كفر ، ص 91.
    2 ـ أوائل المقالات: ص 57.
    3 ـ الأصول الخمسة: ص 624 ، وقد ذهب القاضي إلى عدم جواز استحقاق المكلّف الثواب والعقاب إذا كانا مساويين ، فانحصر الأمر في المطيع المحض والعاصي كذلك ومن خلط أحدهما بالآخر على وجه لا يتساويان ، وهذا القسم هو مورد نظريّة الإحباط والتكفير. فلاحظ.


(408)
    الطّاعات والكبائر ، كما يشاهد من النّاس ، فعندنا مآله إلى الجنّة ولو بعد النّار ، واستحقاقه للثّواب والعقاب ، بمقتضى الوعد والوعيد من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النّار إذا مات قبل التّوبة ، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه و طاعته و ما يثبت من استحقاقاته ، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطّاعات ، ومالوا إلى أنّ السيّئات يذهبن الحسنات » (1).
    أقول: اشتهر بين المتكلّمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط و التّكفير ، وأمّا الأشاعرة والإماميّة فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة وهي أنّ نفيهما على الاطلاق يخالف ما هو مسلّم عند المسلمين من أنّ الإيمان يُكفِّر الكفر ، ويُدخل المؤمن الجنّة خالداً فيها ، و أنّ الكفر يُحبط الإيمان و يخلِّد الكافر في النار. وهذا النّوع من الإحباط و التّكفير ممّا أصفقت عليه الاُمّة ، ومع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة و الإماميّة؟ ولأجل ذلك ، يجب الدقّة في فهم مرادهما من نفيهما على الاطلاق ، وسوف يتبيّن الحال في هذين المجالين. هذا ، وإنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيّته ، فمنهم من قال بأنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة ، وتمحوها بالكليّة ، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة ، وهو المحكيّ عن أبي عليّ الجبّائي.
    ومنهم من قال بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ، ولكنّه يؤثّر في تقليل الإساءة فينقص الإحسان من الاساءة ، فيجزى العبد بالمقدار الباقي بعد التّنقيص ، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.
    وهناك قول آخر في الإحباط وهو عجيب جدّاً ، حكاه التّفتازاني في « شرح المقاصد » وهو أنّ الإساءة المتأخِّرة تحبط جميع الطّاعات و إن كانت الإساءة أقلّ منها قال: حتّى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات.
    وعلى هذا (2) ففي الإحباط أقوال ثلاثة:
    1 ـ شرح المقاصد: ج 2 ، ص 232.
    2 ـ شرح المقاصد: ج 2 ، ص 232.


(409)
    1 ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.
    2 ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة ، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.
    3 ـ إنّ الإساءة المتأخِّرة عن الطّاعات ، تبطل جميع الطّاعات من دون ملاحظة القلّة والكثرة.
    إذا عرفت موضع النّزاع في كلام القوم ، فلننقل أدلّة الطّرفين:
أدلّة نفاة الإحباط
    استدلّ النافون بوجهين: عقليّ و نقليّ.
    أمّا الوجه العقليّ: فهو أَنّ القول بالإِحباط يستلزم الظّلم ، لأنّ من أساء و أطاع و كانت إساءته أكثر ، يكون بمنزلة من لم يُحسن. وإن كان إحسانه أَكثر ، يكون بمنزلة من لم يسىء. وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنه أحدهما ، وهو نفس الظّلم (1).
    يلاحظ عليه: أنّ الإِحباط إنّما يعدّ ظلماً ، و يشمُلُه هذا الدّليل ، إذا كان الأكثر من الإِساءة مؤثِّراً في سقوط الأقلّ من الطّاعة بالكلّية ، من دون أن تؤثّر الطّاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة ، كما عليه أبو عليّ الجبّائي. وأمّا على القول بالموازنة ، كما هو المحكيّ عن ابنه أبي هاشم ، فلا يلزم الظّلم ، وصورته أن يأتي المكلّف بطاعة استحقّ عليها عشرة أجزاء من الثّواب ، وبمعصية استحقّ عليها عشرين جزءً من العقاب ، فلو قلنا بأنّه يَحسُن من الله سبحانه أَن يفعل به عشرين جزءً من العقاب ، ولا يكون لما استحقّه من الطّاعة أيّ تأثير للزم منه الظّلم. وأَمّا إذا قلنا بأنّه يقبح من الله تعالى ذلك ، ولا يحسن منه أَن يفعل به من العقاب إلاّ عشرة أجزاء ، وأَمّا العشرة الاُخرى فإنّها تسقط بالثّواب الّذي استحقّه على ما أتى به من الطّاعة ، فلا يلزم ذلك.
    يقول القاضي عبدالجبّار بعد نقل مذهب أبي هاشم: « وَ لَعَمري إنّه القول اللاّئق بالله تعالى. دون ما يقوله أبو عليّ و الّذي يدلّ على صحّته هو أَنّ المكلّف أتى
    1 ـ كشف المراد: ص 260.

(410)
    بالطاعات على الحدّ الذي أُمر به ، وعلى الحدّ الّذي لو أتى به منفرداً عن المعصية لكان يستحقّ عليها الثّواب ، فيجب أن يستحقّ عليها الثّواب وإن دَنّسها بالمعصية ، إلاّ أَنّه لا يمكن والحالة هذه أَن يوفّر عليه ، على الحدّ الّذي يستحقّه ، لاستحالته ، فلا مانع من أَن يزول من العقاب بمقداره ، لأنّ دفع الضّرر كالنّفع في أنّه مما يعدّ من المنافع.
    ثمّ قال: فأَمّا على مذهب أبي عليّ فيلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة شيئاً ممّا أتى به من الطّاعات. وقد نصّ الله تعالى على خلافه » (1).
    والأولى أن يستدلّ على بطلان الإحباط بأَنّه يستلزم خُلف الوعد إذا كان الوعد منجّزاً ، كما هو في محلّ النّزاع ، وأمّا إذا كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان به ، فهو خارج عن محلِّ البحث هذا ، من غير فرق بين قول الوالد والولد.
    وأمّا الوجه النّقلي ، فقوله سبحانه: ( فَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ ) ( سورة الزلزلة: الآية 7 ).
    يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالآية إنّما يتمّ على القولين الأوّل والثّالث ، حيث لا يكون للإحسان القليل دور ، وأمّا على القول الثّاني ، فالآية قابلة للانطباق عليه ، لأنّه إِذا كان للإحسان القليل ، تأثير في تقليل الإِساءة الكثيرة ، فهو نحو رؤية له ، لأنّ دفع المضرّة كالنّفع في أنّه مما يُعَدّ منفعة. وهذا كما إذا ربح إنسان في تجارة قليلاً ، وخسر في تجارة أُخرى أكثر فأَدّى بعض ديونه من الرِّبح القليل.
    نعم الظّاهر من الآية رؤية جزاء الخير ، وهو بالقول بعدم الإِحباط اَلصق و اَطبق.
سؤال و إجابة
    السؤال: لو كان القول بالاحباط مستلزماً للظّلم ، أو كان مستلزماً لخلف الوعد ، فما هو المخلص فيما يدلّ على حبط العمل ، في غير مورد من الآيات الّتي ورد فيها أنّ
    1 ـ شرح الأصول الخمسة: ص 629.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس