بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 411 ـ 420
(411)
    الكفر والارتداد والشرك و الإِساءة إلى النّبي و غير ذلك ممّا يحبط الحسنات (1). ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ وما هو تفسيرها؟
    الجواب: إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسِّرون الآيات بأنّ الاستحقاق في مواردها كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان بالطّاعات ، فإذا عصى الإِنسان ولم يحقِّق الشرط ، انكشف عدم الاستحقاق.
    ويمكن أن يقال بأنّ الإستحقاق في بدء صدور الطّاعات لم يكن مشروطاً بعدم لحوق العصيان ، بل كان استقرار الإستحقاق في مستقبل الأيّام ، هو المشروط بعدم لحوق المعصية ، فإن فُقِد الشرط فُقِد استقرار الاستحقاق و استمراره.
    يقول الشيخ الطّوسي في تفسير قوله سبحانه: ( وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ ، فأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعمالُهُمْ في الدّنيا والآخرةِ و أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيْهَا خالِدُونَ ) (2) « معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم يكن ، لإيقاعهم إيّاها على خلاف الوجه المأمور به ، وليس المراد أنّهم استحقّوا عليها الثّواب ثمّ انحبطت ، لأنّ الإحباطَ ـ عندنا باطلُ على هذا ال (3)وجه ».
    ويقول الطّبرسي في تفسير قوله سبحانه: ( وَمَنْ يَكْفُر بالإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُو في الآخِرةِ مِنَ الخاسِرينَ ) ( المائدة: الآية 5 ). « وفي قوله: ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثّواب. فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب ، وإنّما يكون له عمل في الظّاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثّواب عليه ، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط ، فهو حقيقة معناه » (4).
    ويقول في تفسير قوله سبحانه: ( وَ يَقولُ الّذين آمنوا أهؤلاءِ الّذينَ أقسموا باللّهِ
    1 ـ سنذكرها في آخر البحث.
    2 ـ سورة البقرة: الآية 217.
    3 ـ التبيان: ج 2 ، ص 208 ، ولاحظ: مجمع البيان ، ج 1 ، ص 313.
    4 ـ مجمع البيان: ج 2 ، ص 163.


(412)
جَهْدَ أَيْمانِهِم إنَّهُم لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فَأَصْبَحُوا خَاسِرينَ ) ( سورة المائدة: الآية 53 ). « أي ضاعت أَعمالهم الّتي عملوها لأنّهم أَوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبَطَلَماأظهروه من الإِيمان ، لأنّه لم يوافق باطنُهم ظاهرَهُم ، فلم يستحقّوا به الثّواب » (1).
    وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان ، فإذا صدر يكشف عن عدم الإستحقاق أبداً ، فكيف يطلق عليه الإِحباط ، وما الإحباط إلاّ الإِبطال والإسقاط ، ولم يكن هناك شيء حتّى يبطل أو يسقط؟
    وذلك لأنّ نفس العمل في الظّاهر سبب و مقتض ، فالإبطال و الإسقاط كما يصدقان مع وجود العلّة التامّة ، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلّة و سببها ومقتضيها ، وهذا كمن ملك أَرضاً صالحة للزراعة فأَحدث فيها ما أفقدها هذه الصّلاحيّة.
    وبعبارة أُخرى ، إنّ الموت على الكفر ، وإن كان يُبطل ثواب جميع الأعمال ، لكن ليس هذا بالإحباط ، بل بشترط الموافاة على الإِيمان في استحقاق الثّواب على القول بالاستحقاق. أو في إنجاز الوعد بالثّواب على القول بعدم الاستحقاق. وهكذا القول في المعاصي الّتي ورد أنّها حابطة لبعض الحسنات من غير قول بالحبط ، بل يكون الإستحقاق أَو الوعد مشروطاً بعدم صدور تلك المعصية.
    والّذي يبدو لنا من هذه الكلمات إنّ النّزاع بين نافي الاحباط و مثبته في هذه الموارد الخاصّة ، أشبه بنزاع لفظي ، لأنّهما متّفقان على النّتيجة وهي عدم ترتّب الثّواب على الإيمان و الأعمال الحسنة إذا لحقها الكفر أو بعض الكبائر ، غير أنّ النافي يقول بأنّه لم يكن هناك ثواب فعليّ حتّى يحبطه الكفر أو بعض الكبائر ، لأنّ ترتّب الثّواب أو الاستحقاق كان مشروطاً بشرط غير حاصل ، والمثبت له يقول بوجوده فعلاً ، لكنّه يسقط
    1 ـ مجمع البيان: ج 2 ، ص 207.

(413)
    بهما. وعلى كلّ واحدة من النّظريّتين فالكافر و المرتكب للكبائر ، صفر اليد يوم القيامة.
    نعم ، هذا التّفسير إنّما نحتاج إليه في جانب الاحباط ، وأمّا في جانب التّكفير فلا حاجة إليه ، بل لنا أَن نقول إنّ التّوبة و الأعمال المكفِّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الإستحقاق مشروطاً بالموافاة على الكفر ، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.
    هذا ، ولا يصحّ القول بالإِحباط و التّكفير في كلِّ المعاصي عند النافي ، بل يجب عليه تَتَبُّعُ النّصوص ، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصّحيحة إنّها مذهبة لأثر الإيمان و الحسنة نقول بالاحباط فيها على التّفسير الّذي ذكرناه. وهكذا في جانب التّكفير فلا يمكن لنا أَن نقول إِنّ كلّ حسنة تُذهب السيّئة إلاّ بالنّص. وأمّا على قول المثبت فالظاهر أنّه يقول بأنّ كلّ كبيرة توجب الإحباط للأصل الّذي افترضه صحيحاً وهو خلود مرتكب الكبيرة في النّار على الإطلاق.
    إلى هنا تمّ بيان دليل النّافين للإحباط على الوجه اللاّئق بكلامهم ، والإجابة عليه.
أدلّة مُثبِتي الإِحباط
    استدلّ القاضي على ثبوت الإحباط بوجه عقليّ فقال: « قد ثبت أَنّ الثّواب (1) والعقاب يستحقّان على طريق الدّوام. فلا يخلو المكلّف إمّا أن يستحقّ الثّواب فيثاب ، أَو يستحقّ العقاب فيعاقب ، أَو لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب ، فلا يثاب ولا يعاقب ، أَو يستحقّ الثّواب والعقاب ، فيثاب و يعاقب دفعة واحدة ، أَو يؤثّر الأكثر في الأقلّ على ما نقوله:
    لا يجوز أن لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب ، فإنّ ذلك خلاف ما اتّفقت عليه الاُمّة. ولا أَن يستحقّ الثّواب والعقاب معاً فيكون مثاباً و معاقباً دفعة واحدة ، لأنّ ذلك
    1 ـ يكفي في ذلك كونه مستحقاً للعقاب دائماً فقط ولا يتوقف على استحقاقه للثواب كذلك فلاحظ.

(414)
    مستحيل والمستحيل ممّا لا يستحقّ...
    فلا يصحّ إلاّ ما ذكرناه من أنّ الأقلّ يسقط بالأكثر. و هذا هو الّذي يقوله الشّيخان أبو عليّ و أبو هاشم ولا يختلفان فيه ، وإنّما الخلاف بينهما في كيفيّة ذلك » (1).
    يلاحظ عليه: إنّه مبنيّ على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدّوام ، وهو مبنيّ على أنّ مرتكب الكبيرة مُخلّد في النّار ، وبما أنّ الأساس باطل ، فيبطل ما بنى عليه ، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب ، وعلى ذلك فالحصر غير حاصر ، وأنّ هنا شقّاً سادساً ترك في كلامه وهو أنّه يستحقّ الثّواب والعقاب معاً لكن لا دفعة واحدة ، بل يعاقب مدّة ثمّ يخرج من النّار فيثاب بالجنّة على ما عليه جمهور المسلمين.
    وقد نقل القاضي عبدالجبّار وجهاً عقليّاً آخر للإِحباط عن الشّيخ أبي عليّ و أجاب عنه ، فلاحظ (2).
تحليل لمسألة الإِحباط
    وهيهنا تحليل آخر للمسألة و هو أَنّ في الثّواب والعقاب أقوال:
    1 ـ الثّواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأمور الوضعيّة الجعليّة ، كجعل الاُجرة للعامل ، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.
    2 ـ الثّواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات الّتي اكتسبها في هذه الدّنيا ، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة ، السُّكون والهدوء إلاّ بفعل ما يناسبها.
    3 ـ الثّواب و العقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة و تجلّيه فيها
    1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 625. وترك تعليل الوجه الأول ( وهو أن يستحق الثواب فقط ) والثاني ( وهو أن يستحق العقاب فقط ) لوضوحه.
    2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 630 ـ 631 ، وحاصل هذا الدليل أنّ المكلّف ، بارتكاب الكبيرة يخرج نفسه من صلاحيّة استحقاق الثواب. وهو كما ترى دعوى بلا دليل ، إذ لا دليل على أنّ كلّ معصية لها هذا الشأن ، وليست كلّ معصية كالكفر والارتداد والنفاق.


(415)
    بوجوده الاُخروي من دون أَن يكون للنّفس دور في تلك الحياة في تجلّي هذه الأعمال بتلك الصور ، بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور.
    فلو قلنا بالوجه الأوّل ، كان لما نقلناه من نفاة الحبط ( من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية ) وجه حسن ، لأنّ الاُمور الوضعيّة ، رفعها ووضعها و تبسيطها و تضييقها ، بيد المقنِّن و المشرع ، وعندئذ يُجمع بين حكم العقل بلزوم الوفاء بالوعد ، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة ، كما سيوافيك.
    وقد عرفت حاصل الجمع ، وهو أَنّ إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الإنسان الثّواب ، بل لم يكن مستحقّاً من رأس لعدم تحقُّق شرط الثّواب ، وأمّا مصحِّح تسميته بالإحباط فقد عرفته أَيضاً ، وهو أَنّ ظاهر العمل كان يحكي عن الثّواب وكان جزء علّة له.
    ولو قلنا بالوجه الثاني ، وحاصله أَنّ الملكات الحسنة و السيّئة الّتي تعدّ فعليّات للنّفس ، تحصل بسبب الحسنات و السيّئات الّتي كانت تصدر من النّفس. فإذا قامت بفعل الحسنات ، تحصل فيها صورة معنويّة مقتضية لخلق الثّواب. كما أَنّه إذا صدر منها سيّئة ، تقوم بها صورة معنويّة تصلح لأن تكون مبدأ لخلق العقاب. وبما أَنّ الإنسان في معرض التّحوّل والتغيّر من حيث الملكات النفسانيّة ، حسب ما يفعل من الحسنات والسيّئات ، فإنّ من الممكن بُطلان صورة موجودة في النّفس و تبدُّلها إلى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدّنيوية.
    نعم ، تقف الحركة و يبطل التّحوّل عند موافاة الموت ، فعند ذلك تثبت لها الصّور بلا تغيير أصلاً.
    فلو قلنا بهذا الوجه ، كان الإحباط على وفق القاعدة ، لأنّ الجزاء في الآخرة ، إِذا كان فعل النّفس و إِيجادها ، فهو يتبع الصّورة الأخيرة للنّفس ، الّتي اكتسبتها قبل الموت ، فإن كانت صورة معنويّة مناسبة للثّواب فالنّفس منعّمة في الثّواب من دون


(416)
    مقابلة بالعقاب ، لأنّ الصّورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أُخرى. وإذا انعكست الصّورة انعكس الحُكم.
    وأمّا لو قلنا بالوجه الثالث ، وهو تَجَسّم الأعمال و تمثّلها في الآخرة بالوجود المماثل لها ، فالقول بعدم الاحباط هو الموافق للقاعدة ، إذ لا معنى للإِبطال في النشأة الاُخرى.
    غير أَنّ الكلام كلّه في انحصار الثّواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين (1).

عوامل الإحباط و أَسبابه
    البحث عن عوامل الإِحباط و أَسبابه ، بحثُ نقليّ يتوقّف على السّبر و الفحص في الكتاب والسنّة ، ونكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.
1 ـ الإرتداد بعد الإِسلام
    قال سبحانه: ( وَ مَن يرتَدِد مِنكُم عَن دِيِنِه فَيَمُت وَ هُوَ كافِرٌ ، فأُولئكَ حَبِطَت أَعْمالُهُم في الدنيا و الآخرة ، وَ أُولئكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ ) ( سورة البقرة: الآية 217 ).
2 ـ الشرك المقارن بالعمل
    يقول سبحانه: ( ما كانَ للمُشركينَ أَنْ يَعمُرُوا مساجِدَ اللّهِ شاهدينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ أُولئكَ حَبِطَتْ أَعّْمالُهُم و في النّارِ هُمْ خالِدونَ ) ( سورة التوبة: الآية 17 ).
    وقدكان المشركون يزعمون أَنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثّواب ، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة ، و صرّح بأنّ الثّواب يترتّب على العمل الصالح ، إذا صدر من فاعل مؤمن.
    ولأجل ذلك أتبع سبحانه الآية السابقة بقوله: ( إنّما يَعْمُرُ مساجِدَ الله مَنْ آمَنَ
    1 ـ لاحظ: « الالهيات » ج 1 ، ص 299.

(417)
باللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ) ( سورة التوبة: الآية 18 ).
3 ـ كراهة ما أنزل الله
    قال سبحانه: ( وَالّذينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُم وَأَضَلّ أَعّْمالَهُم * ذَلِكَ بأَنّهُمّْ كَرِهُوا ما أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) ( سورة محمد: الآيتان 8 و 9 ).
4 ـ الكُفر
5 ـ الصدُّ عن سبيل الله
6 ـ مجادلة الرسول و مشاقّته
    وقد جاءَت هذه العوامل الثّلاثة في قوله سبحانه: ( إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سبيلِ الله وَ شَاقُّوا الرّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدى لَنّْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحبِطُ أَعْمالَهُم ) ( سورة محمد: الآية 32. ولاحظ في عامل الكفر ، سورة التوبة: الآية 69 ).
    وهل كلُّ منها عاملٌ مستقلٌٌّ ، أَو أَنّ هنا عاملاً واحداً هو الكفر ، ويكون حينئذ الصّدُّ عن سبيل الله و مشاقّة الرّسول من آثار الكفر ، فهم كفروا ، فصّدوا و شاقّوا؟ وجهان.
    وتظهر الثّمرة فيما لو صَدّ إنسانٌّ عن سبيل الله لأغراض دنيويّة ، أَو شاقّ الرّسولَ لحالة نفسانيّة مع اعتقاده التّام بنبوّة ذاك الرّسول و قبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منها في الحبط ، يحبط عمله ، وإلاّ فلا ، و بما أَنّ الآية ليست في مقام البيان ، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشؤون فلا يمكن استظهار استقلال كلّ منها في الحبط نعم ، يمكن القول بالاستقلال من باب الأولويّة ، وذلك أنّه إذا كان رفع الصّوت فوق صوت النّبي من عوامل الإحباط كما سيأتي فكيف لا يكون الصدّ و القتل من عوامله؟
    7 ـ قتل الأنبياء
    8 ـ قتل الآمرين بالقِسط من الناس
    قال سبحانه: ( إنّ الّذينَ يَكْفُرونَ بآياتِ اللّهِ ، و يَقْتُلونَ النّبِييّنَ بغير حقّ ،


(418)
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشْرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرينَ ) ( آل عمران: الآيتان 21 ـ 22 ).
9 ـ إساءة الأدب مع النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم
    قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ( سورة الحجرات: الآية 2 ).
    وربّما يُتصوّر أَنّ رفع الصّوت ليس عاملاً مستقلاّ ً فى الإحباط ، بل هو كاشف عن كفر الرافع ، ولكنّه احتمال ضعيف ، لأنّ الآية تخاطب المؤمنين به بقولها: ( يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوُا ).
    نعم ، لا يمكن الالتزام بأنّ كلّ إساءة بالنّسبة إلى النّبي تُحبط الأعمال الصّالحة (1) ، إِلاّ إِذا كانت هتكاً في نظر العامّة ، و تحقيراً له في أَوساط المسلمين ، كما هوالظّاهر من أَسباب نزول الآية.
10 ـ الإقبال على الدُنيا و الاعراض عن الاخرة
    قال سبحانه: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* اُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاّ النَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( سورة هود: الآيتان 15 و 16 ).
    ويمكن أَن يقال إنّ الاقبال على الدّنيا بهذا النّحو الّذي جاء في الآية يساوق الكفر ، أَو يساوق ترك الفرائض ، والتوغّل في الموبقات ، فتكون إِرادة الحياة الدّنيا وزينتها إشارة إلى العامل الواقعي.
    1 ـ كالغضب في محضرهـ صلوات الله عليه وآله.

(419)
11 ـ إنكار الآخرة
    قال سبحانه: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) ( سورة الأعراف: الآية 147. ولاحظ سورة الكهف: الآية 105 ).
    وهو فرع من فروع الكفر وليس عاملاً مستقلاّ ً.
12 ـ النِفاق
    قال سبحانه: ( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المَعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ القَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إَلَيْنَا وَ لا يَأْتُونَ البَأْسَ إلاّ قَلِيلاً * أُولِئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ) ( سورة الاحزاب: الآيتان 18 و 19 ).
    وقوله: « لإخوانهم » ، يدلّ على أَنّهم لم يكونوا مؤمنين ، بل كانوا منافقين. ويصرّح به قوله: « أُولئك لم يُؤّْمِنوا ». وعلى ذلك فيَرجع النّفاق إلى عامل الكفر و عدم الإِيمان ، وليس سبباً مستقلاً.
    هذه هي أبرز أسباب الإِحباط في الذّكر الحكيم ، وقد عرفت إمكان إذعام البعض في البعض ، وعلى كلِّ تقدير ، فالإحباط هنا هو بطلان أَثر المقتضي ، لا إبطال أَثر ثابت بالفعل ، كما تقدّم (1).

2 ـ التكفير
    التّكفير هو إسقاط ذنوب الأفعال المتقدّمة بثواب الطّاعات المتأَخِّرة ، وهو لا يعدّ ظلماً ، لأنّ العقاب حقّ للمولى ، وإسقاط الحقّ ليس ظلماً بل إحسان ، وقد عرفت أَنّ خلف الوعيد ليس بقبيح و إنّما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه بعدم تعقّب الطّاعات. بل الاستحقاق
    1 ـ وأمّا بيان عوامل الإحباط في السنّة فهو موكول الى محل آخر.

(420)
    واستمراره ثابتان ، غير أَنّ المولى سبحانه ، تَفَضّلاً منه ، عفا عن عبده لفعله الطّاعات.
    قال سبحانه: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) ( سورة النساء: الآية 31 ).
    وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الفَضْلِ العَظِيم ) ( سورة الأنفال: الآية 29 ).
    وقال سبحانه: ( والّذينَ آمَنوُا وَ عَمِلوا الصالحاتِ و آمَنُوا بما نُزِّلَ على مُحَمّد وَ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سيِّئاتِهِمْ و أَصْلَحَ باَلُهمْ ) ( سورة محمد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم الآية 2 ).
    ولا يمكن استفادة الإطلاق من هذه الآيات ، و أَنّ كلّ معصية تكفَّر ، لأنّها بصدد بيان تشريع التّكفير ، و أمّا شروطه و بيان المعاصي الّتي تكفّر دون غيرها ، فلا يستفاد منها ، وإنّما الظاهر من الآية الأُولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها ، ومن الآية الثانية ، اشتراط تكفير السّيئات بالتّقوى و من الثالثة ، تكفير السيّئات للّذين آمنوا وعملوا الصالحات و آمنوا بما نُزِّل على الرّسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.
    روى الكراجكي بسنده عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: « وإنْ كان عليه فضل ، وهو من أَهل التّقوى ، ولم يشرك بالله تعالى ، واتّقى الشرك به ، فهو من أَهل المغفرة ، يغفر الله له برحمته إن شاء و يتفضّل عليه بعفوه » (1).
    1 ـ البحار ، ج 5 ، ص 335.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس