بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 421 ـ 430
(421)
الأصل الرابع
المنزلة بين المنزلتين
    إنّ هذا الأصل يهدف إلى أنّ صاحب الكبيرة لا يسمّى مؤمناً ، كما عليه جمهور المسلمين ولا كافراً ، كما عليه الخوارج ، وإنّما يسمّى فاسقاً. فهو من حيث الإيمان والكفر في منزلة بين المنزلتين.
    قال القاضي: « لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن ، وإنّما يسمّى فاسقاً. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن ، بل يفرد له حكم ثالث و هذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين. فإنّ صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان ، فليست منزلته منزلة الكافر ، ولا منزلة المؤمن ، بل له منزلة بينهما » (1).
    ثمّ إنّه قسّم المكلّف من حيث استحقاق الثّواب والعقاب إلى قسمين: إمّا أن يكون مستحقّاً للثّواب فهو من أولياء الله ، وإمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب فهو من أعداء الله.
    ثمّ الثّاني إمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب العظيم فهو الكافر والمنافق والمرتدّ. وإن استحقّ عقاباً دون ذلك سمّي فاسقاً « وهو المرتكب للكبيرة ».
    ثمّ إنّ الأساس لاخراج الفاسق عن المؤمن هو جعل العمل جزءاً من الإيمان ،
    1 ـ شرح الأصول الخمسة: ص 697.

(422)
    وعلى هذا فإذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من عداد المؤمنين و فيه تشترك المعتزلة والخوارج ، ولكن تنشعب المعتزلة عن الخوارج بقولهم إنّه لا مؤمن ولا كافر ، بل في منزلة ـ أو له ـ بين المنزلتين ، ولكنّه عند الخوارج ليس بمؤمن بل كافر.
    ثمّ إنّهم استدلّوا على كونه ليس بمؤمن بوجوه نأتي بها مع تحليلها:
    الدّليل الأوّل: ما مرّ في مناظرة واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد من اختلاف المسلمين في سائر الأسماء و اتّفاقهم على كونه فاسقاً ، فنأخذ بالمجمع عليه و نطرح ما اختلفوا فيه ، حيث إنّهم اختلفوا في كونه مؤمناً أو كافراً أو منافقاً ، ولكن اتّفقوا في كونه فاسقاً ، فنأخذ بالمتيقّن و نطرح المختلف فيه. وقد عرفت ضعف هذا الدّليل فلا نعيده.
    الدّليل الثّاني: ما ذكره القاضي من أنّ « المؤمن » نقل عن معناه اللّغوي إلى معنى آخر وصار بالشّرع اسماً لمن يستحقّ المدح والتّعظيم ، والدّليل على ذلك أنّه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم. ألا ترى إلى قوله تعالى: ( قد أفلح المؤمنون ) و قوله: ( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) وقوله: ( إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه ) إلى غير ذلك من الآيات.
    ومثله لفظ المسلم فهومنقول إلى من يستحقّ المدح و التّعظيم.
    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ادّعاء محض غير مقترن بالدّليل ناش من خلط الأثر بذي الأثر ، ولو صحّ لوجب أن يقول القاضي: إنّ الصّلاة موضوع لمعراج المؤمن ، والصّوم للجُنّة من النار ، والزّكاة لتنمية المال ، لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : « الصّلاة معراج المؤمن » و « الصّوم جُنّة من النار » و « الزّكاة تنمية للمال ».
    والّذي يدلّ على فساد ما ذكره أنّه لو صحّ لوجب أن يصحّ وضع الممدوح مكان المؤمن في الآيات التّالية ، مع أنّه لا يقبله أيّ ذوق سليم.
    1 ـ قال سبحانه: ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ) ( البقرة / 221 ).


(423)
    2 ـ وقال سبحانه: ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ) ( النساء / 92 ).
    3 ـ وقال سبحانه: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ) ( الأحزاب / 36 ) إلى غير ذلك من الآيات.
    والعجب من القاضي كيف غفل عن الآيات الّتي ذكر فيها متعلّق الإيمان ، ومعه لا يمكن حمله إلاّ على أنّه بمعنى الاذعان. قال سبحانه: ( وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ) ( النساء / 39 ).
    و قال سبحانه: ( والّذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرّقوا بين أحد منهم ) ( النساء / 251 )
    وقال سبحانه: ( فأمّا الّذين آمنوا بالله واعتصموا به ) ( النساء / 175 ).
    إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا تبقي شكّاً في أنّ الإيمان بمعنى الاذعان مطلقاً ، وفي المقام بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر و رسوله.
    وأمّا ما ذكر من أنّه سبحانه لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم منقوض بقوله سبحانه: ( ومن يؤمن بالله و يعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئاته ) ( التغابن / 9 ).
    وقال سبحانه: ( الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) ( الأنعام / 82 ) و الظّاهر أنّ القيد « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » احترازيّ لا توضيحيّ.
    أضف إليه أنّ الإيمان ذو درجات و مراتب ، فالمدح المطلق للدّرجة العليا و المدح النّسبي للدرجات التالية لها.
    ثمّ إنّ تقسيم النّاس إلى قسمين: من يستحقّ الثّواب ، ومن يستحقّ العقاب ، لا يصدقه القرآن ، بل هناك قسم ثالث و هو عبارة عمّن يستحقّ كلا الأمرين. قال سبحانه: ( وآخرون ( من الأعراب ) اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم ) ( التوبة / 102 ) فلأجل كونه ذا عمل


(424)
    صالح يستحقّ الثّواب قطعاً لقوله: ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حيوة طيَّبة و لنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ( النحل / 97 ) ويستحقّ العقاب لكونه ذا عمل سَيّىء.
    ثمّ إنّ القاضي عطف على دليله السابق قوله:
    1 ـ لو كان لفظ المؤمن باقياً على ما كان عليه في اللّغة لكان يجب إذا صدّق المرء غيره أو آمنه من الخوف أن يسمّى مؤمناً و إن كان كافراً.
    2 ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الأخرس مؤمناً.
    3 ـ ولكان أن لا يجري على النّائِم والسّاهي ، لأنّ الانقياد غير مقصود منهما.
    4 ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الآن بهذا الاسم إلاّ المشتغل به دون من سبق منه الإسلام ، ولازمه أن لا نسمّي أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مؤمنين (1).
    يلاحظ عليه: أنّهذه الوجوه عليلة جدّاً لا تليق بمقام القاضي. أمّا الأوّل ، فالمؤمن هو المذعن المصدّق ، ويختلف متعلّقه بحسب اختلاف الموارد ، فإذا أطلق في عرف اللّغة يراد منه نفس المذعن ، سواء كان متعلّقه هو الله سبحانه أو غيره. قال سبحانه: ( وما أنت بمؤمن لنا ) ( يوسف / 17 ).
    وأمّا في عرف الشّرع والمتشرّعة و مصطلح القرآن و الحديث ، فالمراد هو الاذعان بالله واليوم الآخر و رسالة رسوله ، فالّذي يصدق شخصاً مؤمن حسب اللّغة ، ولا يطلق عليه المؤمن في مصطلح الشّرع و المتشرّعة بهذا الملاك.
    وأمّا الأخرس فهو مؤمن لكشف إشاراته عن إذعانه ، والنّائم والسّاهي مؤمنان لوجود الاذعان في روحهما ، غاية الأمر يكون النّوم و السّهو مانعين عن بروزهما. وأمّا من مات مؤمناً فهو أيضاً مؤمن بلحاظ حال النّسبة ، لا حال التكلّم ، فالضّارب والقاتل في اليوم الماضي يطلق عليهما المشتقّ باعتبار زمان النّسبة لا باعتبار زمان التكلّم ، والشّجرة
    1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 703 ـ 705.

(425)
    المثمرة في الشّتاء مثمرة بلحاظ حال النّسبة.
    ثمّ إنّ القاضي استدلّ بآيات ربّما يستظهر منها دخول الأعمال في الإيمان ، فقد أوضحنا مداليلها عند البحث عن عقائد المرجئة ، فلا نطيل.
    ثمّ إنّ هناك اختلافاً بين نفس المعتزلة ، فذهب أبو الهذيل إلى أنّ الإيمان عبارة عن أداء الطّاعات ، الفرائض و النّوافل ، واجتناب المقبّحات. وهو أيضاً خيرة القاضي.
    واختار الجبّائيان أنّه عبارة عن أداء الطّاعات ، الفرائض دون النوافل ، واجتناب المقبّحات.
    وقد عرفت ضعف الكلّ عند البحث عن المرجئة.
    بقي هنا بحث وهو الاجابة عن الاستدلالات الّتي تمسّك بها الخوارج على
    أنّ مرتكب الكبائر كافر. ونبحث عنها في الجزء (1) المختصّ بعقائدهم ،
    فانتظر.
    1 ـ لاحظ الجزء الخامس من هذه الموسوعة.

(426)
الأصل الخامس
الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر
    هذا هو الأصل الخامس من الأُصول الخمسة. والأُصول المتقدّمة تتعلّق بالنّظر والاعتقاد بخلافه ، فهو بالعمل ألصق و على هذا الأصل بعث واصل بن عطاء و غيره دعاته إلى الأقطار المختلفة كما عرفته في ترجمته. ويبحث فيه عن المسائل التّالية.
    1 ـ هل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب أو لا؟
    2 ـ هل وجوبهما سمعيّ أو عقلي؟
    3 ـ ما هي شرائط وجوبهما؟
    4 ـ هل وجوبهما عيني أو كفائي؟
    5 ـ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
    أمّا الأُولى ، فقد ذكر القاضي أنّه لاخلاف بين الأُمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلاّ ما يحكى عن شرذمة من الإماميّة لا يقع بهم و بكلامهم اعتداد (1).
    يلاحظ عليه: أنّه ماذا يريد من قوله « من الإماميّة »؟ هل كلمة من تبعيضيّة أو بيانيّة؟ فإن كان الأوّل كما هو الظّاهر ، فلا نعرف تلك الشّرذمة من الإماميّة ، فإنّهم عن بكرة أبيهم مقتفون للكتاب والسنّة ، وصريح الكتاب و أحاديث العترة الطّاهرة على
    1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 741.

(427)
    وجوبهما. فمن أراد فليرجع إلى جوامعهم الحديثيّة (1).
    ونكتفي برواية واحدة من عشرات الرّوايات. روى جابربن عبدالله الأنصاري عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) أنّه قال: « إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، و تعمّر الأرض ، و ينتصف من الأعداء ، و يستقيم الأمر » (2).
    وإن كان الثّاني ، فهو غير صحيح. وهذه كتب الإماميّة في الكلام والتّفسير والفقه مشحونة بالبحث عن فروع المسألة بعد تسليم و جوبهما.
    قال الشّيخ المفيد ( م 413 هـ ) : « إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللّسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه ، لقيام الحجّة على من لا علم لديه إلاّ بذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبة الظّنّ بذلك » (3).
    وهذا المحقّق الطّوسي نصير الدّين ( م 672 هـ ) يقول في « تجريد الاعتقاد »: « والأمر بالمعروف واجب ، وكذا النّهي عن المنكر. وبالمندوب مندوب » (4).
    نعم ، بعض مراتب الأمر بالمعروف كالجهاد الابتدائي مع العدوّ الكافر مشروط بوجود الإمام العادل. قال الإمام عليّ بن موسى الرّضا ( عليه السلام ) في كتابه إلى المأمون: « والجهاد واجب مع إمام عادل ، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله و نفسه فهو شهيد » (5).
    وقد استظهر بعض الفقهاء من هذا الحديث و غيره أنّ المراد هو الإمام المعصوم المنصوص على ولايته من جانب الله سبحانه بواسطة النّبي. غير أنّ في دلالة الرّوايات على هذا الشرط نوع خفاء ، بل عموم ولاية الفقيه في زمان الغيبة كاف في تسويغ ذلك
    1 ـ لاحظ: وسائل الشيعة ، ج 11 ، الباب الأول من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ص 393.
    2 ـ المصدر السابق ، الحديث السابع.
    3 ـ أوائل المقالات: ص 98.
    4 ـ كشف المراد: ص 271 ، ط صيدا.
    5 ـ الوسائل: ج 11 ، الباب الثاني عشر من أبواب جهاد العدو ، الحديث 10.


(428)
    للفقيه الجامع للشّرائط (1).
    وأمّا سائر مراتب الأمر بالمعروف من الإنكار بالقلب و التّذكير باللّفظ والعمل باليد فسيأتي البحث عنه في المسألة الخامسة.
    نعم ، كان على القاضي أن يذكر خلاف الحنابلة و الأشاعرة في مجابهة الظّالمومكافحته. قال إمام الحنابلة: « السّمع والطّاعة للأئمّة و أمير المؤمنين البرّ و الفاجر ».
    وقال الشيخ أبو جعفر الطّحاوي الحنفي: « ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولاة أمرنا ، وإن جاروا ، ولا ندعو على أحد منهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعات الله فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية » (2).
    وهؤلاء يرون إطاعة السّلطان الجائر ، مع أنّ النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « ومن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » (3).
    وروى أبوبكر أنّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: « إنّ النَاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه » (4).
    ومع ذلك كلّه فقد نسي القاضي أن ينسب عدم وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلى هذه الجماهير ، ونسبه إلى الإماميّة وقد عرفت كيفيّة النسبة.
    والمسألة من الوضوح بمكان لا تحتاج معه إلى تكثير المصادر.
    وامّا الثانية ، فقد ذهب أبو عليّ الجبّائي إلى أنّ ذلك يعلم عقلاً. وقال ابنه أبو هاشم: « بل لا يعلم عقلا إلاّ في موضع واحد ، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحداً فيلحقه بذلك غمّ ، فإنّه يجب عليه النّهي و دفعه ، دفعاً لذلك الضرر الّذي لحقه من
    1 ـ جواهر الكلام: ج 21 ، ص 13 ـ 14.
    2 ـ قد ذكرنا عبارات القوم في وجوب طاعة السلطان الظالم في الجزء الأول من كتابنا هذا.     3. صحيح الترمذي ، ج 4 ، كتاب الفتن ، الباب 14 ، ص 471 ، رقم الحديث 2174.     4. المصدر السابق ، الباب 8 ، رقم الحديث 2168.


(429)
    الغمّ عن نفسه. فإمّا فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلاّ شرعاً » وقال القاضي: « وهو الصّحيح من المذهب » (1).
    يلاحظ عليه: أنّ أبا هاشم يصوّر حياة الفرد منقطعة عن سائر النّاس ، فلأجل ذلك أخذ يستثني صورة واحدة. ولو وقف على كيفيّة حياة الفرد في المجتمع لحكم على الكلّ بحكم واحد ، وذلك أنّ أعضاء المجتمع الواحد الّذين يعيشون في بيئة واحدة مشتركون في المصير ، فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله ، ولو كان هناك شرّ يشمل الجميع أيضاً و لم يختصّ بمرتكبه ، ومن هنا يجب أن تحدّد تصرّفات الأفراد في المجتمع و تحدّد حرّياتهم بمصالح الأُمّة ولا تتخطّاها. ولأجل ذلك يشبّه النّبىُّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وحدة المجتمع بركّاب سفينة في عرض البحر إذا تهدّدها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد.
    ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه ، بحجّة أنّه مكان يختصّ به ولا يرتبط بالآخرين ، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّة.
    روى البخاري عن النّعمان بن بشير أنّه قال: سمعت عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « مثل القائم على حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهمّوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها. فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا ، هلكوا جميعاً و إن أخذوا على أيديهم نجوا و نجوا جميعاً » (2).
    وروى الترمذي نظيره في سننه كتاب الفتن:
    روى جعفر بن محمّد عن آبائه ، عن رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة » قال جعفر
    1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 742.
    2 ـ صحيح البخاري: ج 3 ، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه ، ص 139. المطبوع على النسخة الاميرية ، ورواه الجاحظ في البيان والتبيين ج 2 ص 49.


(430)
    بن محمّد ـ عليهما السلام ـ : وذلك أنّه يذلُّ بعمله دين الله و يقتدي به أهل عداوة الله (1) و بهذا يعرف قيمة كلام أبي هاشم حيث إنّه نظر إلى حقيقة المجتمع بنظرة فرديّة ، ولأجل ذلك لم يقل بوجوب الأمر بالمعروف عقلاً إلاّ في مورد واحد وهو ما إذا عرضه الغمّ من ظلم أحد أحداً ، مع أنّه لو كان هذا هو الملاك لوجب في كثير من الموارد بنفس الملاك ، غاية الأمر ربّما يكون الضّرر مشهوداً و ربّما يكون مستوراً.
    ثمّ إنّ البحث عن وجوبه سمعيّاً أو عقليّاً بحث كلامي لا صلة له بكتاب تاريخ العقائد ، غير أنّا إكمالاً للفائدة نأتي بنكتة وهي: أنّ الظاهر من القول بوجوب اللّطف هو أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عقليّ ، وذلك لأنّ اللُّطف ليس إلاّ تقريب العباد إلى الطّاعة و ابعادهم عن المعصية ، ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامّة مراتبه.
    غير أنّ المحقّق الطّوسي استشكل على وجوبهما عقلاً وقال: « لو كانا واجبين عقلاً ، لزم ما هو خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته ».
    وأوضحه شارح كلامه العلاّمة الحلّي وقال: « إنّهما لو وجبا عقلاً لوجبا على الله تعالى. فإنّ كلّ واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب ، ولو وجبا عليه تعالى لكان إمّا فاعلاً لهما ، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً ، لأنّه تعالى يحمل المكلّفين عليه ، وانتفاء المنكر قطعاً ، لأنّه تعالى يمنع المكلّفين منه ، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج. و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلاّ ً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى » (2).
    يلاحظ عليه: أنّ وجوبهما عقلاً لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامّة مراتبه ، لأنّه لو وجب عليه بعامّة مراتبه يلزم إخلال الغرض و إبطال التّكليف. وهذا يصدّ العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء و الإخلال بالغرض ،
    1 ـ الوسائل: ج 11 ، كتاب الجهاد ، الباب 4 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 1.
    2 ـ كشف المراد: ص 271 ، ط صيدا.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس