بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 431 ـ 440
(431)
    فيكتفي فيه بالتّبليغ و الانذار و غيرهما ممّا لا ينافي حريّة المكلّف في مجال التّكليف. وإلى ذلك يشير شيخنا الشّهيد الثاني بقوله: « لاستلزام القيام به على هذا الوجه ( من وجوبه قولاً و فعلاً ) الالجاء الممتنع في التّكليف ، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه ، خصوصاً مع ظهور المانع ، فيكون الواجب في حقّه تعالى الانذار والتّخويف بالمخالفة لئلاّ يبطل التّكليف ، والمفروض أنّه قد فعل » (1).
    وأمّا الثّالثة ، وهي شرائط وجوبهما ، فقد فصِّل فيه الكلام المتكلّمون والفقهاء فقالوا: شرائط الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ثلاثة:
    الأوّل: علم فاعلهما بالمعروف والمنكر.
    الثّاني: تجويز التّأثير ، فلو عرف أنّ أمره و نهيه لا يؤثّران لم يجبا.
    الثّالث: انتفاء المفسدة ، فلو عرف أو غلب على ظنّه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره و نهيه سقط وجوبهما دفعاً للضرر (2).
    وهناك شروط أُخر لم يذكرها العلاّمة في كلامه. منها:
    الرابع : تنجّز التّكليف في حقّ المأمور والمنهيّ ، فلو كان مضطرّاً إلى أكل الميتة لا تكون الحرمة في حقّه منجّزة ، فلا يكون فعله حراماً ولا منكراً ، وإن كان في حقّ الآمر والنّاهي منجّزاً.
    وعلى كلّ تقدير فالشّرط الثّالث ـ أي عدم المفسدة ـ شرط في موارد خاصّة لا مطلقاً. فربّما يجب على الآمر و النّاهي تحمّل المضرّة و عدم ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، كما إذا كان تركه لهما لغاية دفع المفسدة موجباً لخروج النّاس عن الدّين وتزلزلهم و غير ذلك ممّا أوضحنا حاله فى أبحاثنا الفقهيّة (3).
    وأمّا الرّابعة ، وهي كون وجوبهما عينيّاً أو كفائياً ، فالأكثر على أنّه كفائيّ ، لأنّ
    1 ـ الروضة البهية: ج 1 ، كتاب الجهاد ، الفصل الخامس ، ص 262 ، الطبعة الحجرية.
    2 ـ كشف المراد: ص 271 ، ط صيدا.
    3 ـ لاحظ: رسالتنا الفقهية في التقية. فقد قلنا إنّ التقية ربّما تحرم إذا كان الفساد في تركها أوسع.


(432)
    الغرض شرعاً وقوع المعروف وارتفاع المنكر ، من غير اعتبار مباشر معيّن ، فإذا حصلا ارتفع الوجوب وهو معنى الكفائي. والاستدلال على كونه عينيّاً بالعمومات غير كاف كما حقّق في محلّه.
    وأمّا الخامسة ، أعني مراتبهما ، فتبتدئ من القلب ، ثمّ اللّسان ، ثمّ اليد و تنتهي باجراء الحدود و التّعزيرات. قال الباقر ( عليه السلام ) : « فانكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم » (1).
    وعلى هذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين: قسم لا يحتاج إلى جهاز و قدرة ، وهذا ما يرجع إلى عامّة الناس. وقسم يحتاج إلى الجهاز والقوّة و يتوقّف على صدور الحكم ، وهذا يرجع إلى السّلطة التنفيذيّة القائمة بالدّولة الإسلاميّة بأركانها الثّلاثة.
    وقد بسط الفقهاء الكلام في بيان مراتبهما. فمن لاحظ الروايات وكلمات الفقهاء يقف على أنّ بعض المراتب واجب على الكلّ والبعض الآخر يجب على أصحاب القوّة والسّلطة.
    إلى هنا تمّ البحث عن الأُصول الخمسة للمعتزلة ، وبقي هنا بحوث نجعلها
    خاتمة المطاف.
    1 ـ الوسائل: ج 11 ، كتاب الجهاد ، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 1.

(433)
خاتمة المطاف
    الأوّل: تحليل بعض ما رمي به مشايخ المعتزلة من الانحلال الأخلاقي ، فإنّ في ذلك توضيحاً للحقّ ، بل دفاعاً عنه.
    الثاني: تبيين تاريخ المعتزلة من حيث تدرّجهم من القدرة إلى الضّعف ، وذلك بحث تاريخيّ يهمّنا من بعض الجهات ، وسيظهر في طيّات البحث.
    الثالث: الآثار العلميّة الباقية من المعتزلة.

1 ـ دفاع عن الحقّ
    الاعتزال ظهر في أوساط المسلمين بطابعه العقلي لتحقيق العقائد الإسلاميّة ، ودعمها على ضوء الدّليل و البرهان. فكانوا يدافعون عنها حسب طاقاتهم الفكريّة ، يشهد بذلك حياة مشايخهم و أئمّتهم و تلاميذهم.
    ولعلّ تصلّبهم في المناظرة ، وعدم السّكوت في مقابل الملاحدة وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، لأجل عنايتهم بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، حتّى صار ذلك أحد أُصولهم الّتي بها يتميّزون عن غيرهم ، وقد عرفت نماذج من مناظراتهم مع المخالفين فلا نعيد.
    ولم يكن دفاعهم عن الإسلام منحصراً بالمناقشات اللّفظية ، بل كانوا يستعملون القوّة إذا أُتيح لهم ذلك.
    مثلاً: إنّ بشّار بن برد كان متّهماً بالالحاد ، فهدّده واصل بالقتل ، ولم يكتف بذلك حتّى نفاه من البصرة ، فذهب إلى حرّان و بقي فيها إلى أن توفّي واصل ثمّ عاد إلى البصرة.


(434)
     و في ذلك يقول صفوان الأنصاري مخاطباً لبشّار:
كأنّك غضبان على الدّين كلّه رجعت إلى الأمصار من بعد واصل وطالب دخل لا يبيت على حقد وكنت شريراً في التّهائم والنّجد (1)
    ومن مظاهر دعمهم لأُصول العقائد الإسلاميّة و مكافحة التّجسيم والتّشبيه هو أنّ واصل بن عطاء بعث تلاميذه إلى الأطراف و الأكناف لتبليغ رسالة التّنزيه و رفض التّشبيه ، وقد أتينا بأسماء المبعوثين في ترجمته (2).
    وروى عمر الباهلي أنّه قرأ الجزء الأوّل من كتاب « الألف مسألة في الردّ على المانويّة » لواصل ، كان فيها نيّف و ثلاثون مسألة ، وهو الّذي أوفد حفص بن سالم إلى خراسان ، فناظر جهم بن صفوان و قطعه وجعله يرجع إلى القول الحقّ. وعلى ذلك درج أصحاب واصل و تلاميذه من بعده (3).
    وتبع واصلاً و عمرو بن عبيد ، أبو الهذيل العلاّف و قد قرأت في ترجمته بعض مناظراته.
    ولا تنس ما ذكرناه في ترجمة « معمر بن عباد » وقد بعثه الرّشيد إلى مناظرة السمنى ، وهو يدلّ على أنّ المعتزلة كانوا هم المتحمّسين للمناظرة بين أهل السنّة ، وأمّا غيرهم فلا يملكون في مقام المناظرة سوى القول بأنّ البحث حرام.
    هذا هو القاضي عبد الجبّار قد قام في وجوه الملحدين والشاكّين في إعجاز القرآن ، فألّف كتابه « تنزيه القرآن عن المطاعن » و كتاباً آخر في نبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أسماه « تثبيت دلائل نبوّة سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » قال محقّق كتاب « شرح الأُصول الخمسة » بأنّه أعدّه للطّبع.
    1 ـ البيان والتبيين: ج 1 ، ص 25.
    2 ـ المنية والامل: ص 20 ، ط توماارنلد.
    3 ـ المنية والامل: ص 21.


(435)
    ونحن إذا قرأنا في حياتهم هذه البطولات الفكريّة و العمليّة ، يشكل علينا قبول ما نسبه إليهم أعداؤهم من المجون و الانحلال الأخلاقي.
    لا أقول إنّ كلّ عالم معتزلي ، عادل لا يعصي ولا يخطأ ، غير أنّ الكلام في أنّ تنزيه طائفة خاصّة كالحنابلة و الأشاعرة ، ورمى طائفة أُخرى بضدّه ، ممّا لا يؤيّده الإنصاف ، فلو قلنا إنّما حكمهم حكم سائر الطوائف الإسلاميّة حيث في كلّ طائفة ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخير (1) لكان أقرب إلى الواقع والحقيقة.
    ولأجل إيقاف القارىء على بعض ما رميت به تلك الطائفة نذكر مايلي:
ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف حتّى انثنيت ولي روحان في جسد و أستبيح دماً من غير مجروح و الزق منطرح جسم بلا روح (2)
    1 ـ روى ابن قتيبة أنّ النّظام كان يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على حرائرها ، ويدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات ، وله في الشّراب شعر.
    2 ـ نقل البغدادي عن كتاب « المضاحك » للجاحظ ، أنّ المأمون ركب يوماً فرأى ثمامة سكران قد وقع على الطّين ، فقال المأمون له: ألا تستحيي؟ قال: لا والله. قال: عليك لعنة الله. قال ثمامة: تترى ثمّ تترى (3).
    3 ـ وذكر أيضاً أنّ أبا هاشم الجبّائي كان أفسق أهل زمانه و كان مصرّاً على شرب الخمر وقيل: إنّه مات في سكره حتّى قال فيه بعض المرجئة:
يعيب القول بالإرجاء حتّى وأعظم من ذوي الارجاء جرماً يرى بعض الرجاء من الجرائر وعيديّ أصرّ على الكبائر (4)

    1 ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) ( فاطر / 32 ).
    2 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 18.
    3 ـ الفرق بين الفرق: ص 173.
    4 ـ المصدر السابق: ص 191.


(436)
    يلاحظ عليه: أنّ ابن قتيبة والبغدادي تفرّدا في نقل هذه النّقول والنسب ، وأمّا غيرهما من الأشاعرة فنزّهوا أقلامهم عن ذكرها ، ولو كانت لهذه النّسب مسحة من الحقّ أو لمسة من الصّدق لما تورّعوا عن ذكرها ، على أنّ من سبر كتاب « الفرق بين الفرق » للبغدادي يرى فيه قسوة عجيبة في حقّ الطّوائف الإسلاميّة لا سيّما المعتزلة.
    وعلى ذلك ، فما أحسن قول القائل إذا تمثّل به في حقّ هذه الطائفة:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه كضرائر الحسناء قلن لوجهها فالكلّ أعداء له و خصوم حسداً و بغياً إنّه لدميم (1)
( ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سَبَقُونا بالإيمان ) ( الحشر / 10 )

المعتزلة من القوّة إلى الضّعف
    إنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية ، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني ، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه و بعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين ، كيزيد بن وليد بن عبدالملك ( م 126هـ ) ، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم ( م 132هـ ) ، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن و نفي القدر (2).
    ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين ، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة ، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور ( 136 ـ 158هـ ) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه و بين المنصور.
    ولمّا هلك المنصور ، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم ، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر ، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء ، حسب ما يقولون.
    1 ـ الشعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) راجع ملحق ديوانه.
    2 ـ الكامل لابن الاثير: ج 4 ، ص 332 قال: « وكان مروان يلقب بالحمار ، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.


(437)
    روى الكشّي عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن هشام... أنّه لمّا كان أيّام المهدي ، شدّد على أصحاب الأهواء ، وكتب له ابن المفضّل صنوف الفرق ، صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على النّاس ، فقال يونس: « قد سمعت الكتاب يقرأ على النّاس على باب الذّهب بالمدينة ، مرّة أُخرى بمدينة الوضّاح » (1).
    وبما أنّ أهل الحديث كانوا يشكّلون الأكثريّة الساحقة ، فيكون المراد من أصحاب الأهواء الّذين شدّد عليهم المهدي ، غيرهم من سائر الفرق فيعمّ المعتزلة و المرجئة والمحكّمة والشيعة و غيرهم.
    ولأجل ذلك لم ير أيّ نشاط للمعتزلة أيّامه ، حتّى مضى المهدىُّ لسبيله ، و جاء عصر الرّشيد ( 170 ـ 193هـ ) فيحكي التّاريخ عن وجود نشاط لهم في أيّامه ، حتّى انّه لم يوجد في عصره من يجادل السمنية غيرهم (2) ومع ذلك لم يكن الرّشيد يفسح المجال للمتكلّمين. يقول ابن المرتضى: « وكان الرّشيد نهى عن الكلام ، وأمر بحبس المتكلّمين » (3).
    نعم ابتسم الدّهر للمعتزلة أيّام المأمون ، لأنّه كان متعطّشاً إلى العلم و التعقّل ، والبحث والجدال ، فنرى في عصره أنّ رجال المعتزلة يتّصلون ببلاطه ، وكان لهم تأثير كبير في نفسيّته.
    يقول الطّبري: « وفي هذه السّنة ( 212هـ ) أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وقال: هو أفضل النّاس بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وذلك في شهر ربيع الأوّل (4) و لمّا استفحلت دعوة المحدّثين إلى قدم القرآن و اشتدّ أمرهم كتب المأمون عام ( 218هـ ) إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة و المحدّثين ،
    1 ـ رجال الكشي: ترجمة هشام بن الحكم ، الرقم 131 ، ص 227. ولعل هذا الكتاب أوّل كتاب أُلِّف في الملل والنحل بين المسلمين.
    2 ـ لاحظ: طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ، ص 55.
    3 ـ طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ، ص 56.
    4 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 188 ، حوادث سنة 212.


(438)
    وممّا جاء في تلك الرسالة:
    فاجمع من بحضرتك من القضاة ، و اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك ، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، و تكشيفهم عمّا يعتقدون في خلق الله القرآن و إحداثه ، وأعلمهم أنّ أمير ألمؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلّده الله و استحفظه من أُمور رعيّته ، بمن لا يوثق بدينه و خلوص توحيده و يقينه ، فإذا أقرّوا بذلك و وافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدى والنّجاة ، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشّهود على الناس ، ومسألتهم عن علمهم في القرآن ، و ترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنّه مخلوق محدث ولم يره ، والامتناع من توقيعها عنده ، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك فى مسألتهم و الأمر لهم بمثل ذلك. ثمّ أشرف عليهم و تفقّد آثارهم حتّى لا تنفذ أحكام الله إلاّ بشهادة أهل البصائر في الدّين و الإخلاص للتّوحيد و اكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله ، و كتب في شهر ربيع الأوّل سنة ( 218هـ ) » (1).

رسالة ثانية من المأمون في إشخاص سبعة نفر إليه
    ثمّ إنّ المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يشخص إليه سبعة نفر من المحدّثين. منهم:
    1 ـ محمّد بن سعد كاتب الواقدي 2 ـ أبو مسلم ، مستملي يزيد بن هارون 3 ـ يحيي بن معين 4 ـ زهير بن حرب أبو خثيمة 5 ـ إسماعيل بن داود 6 ـ إسماعيل بن أبي مسعود 7 ـ أحمد بن الدورقي ، فامتحنهم المأمون و سألهم عن خلق القرآن ، فأجابوا جميعاً أنّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السّلام و أحضرهم إسحاق بن إبراهيم دارَه فشهّر أمرهم و قولهم بحضرة الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث ، فأقرّوا بمثل ما
    1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ص 197 ، حوادث سنة 218.

(439)
    أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. فقد فعل ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.
رسالة ثالثة للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم
    ثمّ إنّ المأمون كتب بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم رسالة مفصّلة و ممّا جاء فيه:
     « وممّا بيّنه أمير المؤمنين برويّته و طالعه بفكره ، فتبيّن عظيم خطره و جليل ما يرجع في الدّين من وكفه و ضرره ، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الّذي جعله الله إماماً لهم. و أثراً من رسول الله و صفيّه محمّد ـ صلّى الله عليه و آله ـ باقياً لهم و اشتباهه على كثير منهم حتّى حسن عندهم و تزيّن في عقولهم أن لا يكون مخلوقاً ، فتعرّضوا لذلك لدفع خلق الله الّذي بان به عن خلقه ، و تفرّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلّها بحكمته ، وأنشأها بقدرته ، والتقدّم عليها بأوّليّته الّتي لا يبلغ أولاها ولا يدرك مداها ، وكان كلّ شيء دونه خلقاً من خلقه و حدثاً هو المحدِث له ، وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه و قاطعاً للاختلاف فيه وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.
    والله عزّوجلّ يقول: ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ) و تأويل ذلك أنّا خلقناه كما قال جلّ جلاله: ( وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسكنَ إليها ) وقال: ( وجَعَلْنا اللّيلَ لباساً و جَعَلْنا النّهارَ معاشاً ) و ( جَعَلْنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيّ ) فسوّى عزّ وجلّ بين القرآن وبين هذه الخلائق الّتي ذكرها في شية الصّنعة و أخبر أنّه جاعله وحده فقال: ( إنّه لقرآنٌ مجيدٌ* في لوح محفوظ ) فقال ذلك على إحاطة اللّوح بالقرآن ولا يحاط إلاّ بمخلوق ، وقال لنبيّه : ( لا تُحرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) وقال: ( مَا يَأتِيهم مِن ذِكْر مِن َربِّهِم مُحْدَث ) و قال: ( ومَن أَظْلَمُ ممّنِ افترى على اللّهِ كذباً أو كذَّب بآياتِه ) و أخبر عن قوم ذمّهم بكذبهم أنّهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ، ثمّ أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكتابَ الّذي جاءَ بهِ موسى ) فسمّى الله تعالى القرآن قرآناً


(440)
    و ذكراً و إيماناً و نوراً و هدىً و مباركاً و عربياً و قصصاً فقال: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القُصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِليكَ هذا القرآن ) و قال: ( قُلْ لِئنِ اجْتَمَعَت الإنْسُ و الجنُّ على أَن يأْتُوا بِمِثلِ هذا القرآن لا يأَتُونَ بمثلهِ ) و قال: ( قُلْ فَأْتُوا بعشرِ سِوَر مَثْلهُ مُفْتَريات ) وقال: ( لا يَأْتيهِ الباطل مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) فجعل له أوّلاً و آخراً ، ودلّ عليه أنّه محدود مخلوق ، وقد عظّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم والحرج في أمانتهم ، وسهّلوا السّبيل لعدوّ الإسلام ، واعترفوا بالتّبديل والالحاد على قلوبهم حتّى عرّفوا و وصفوا خلق الله و فعله بالصّفة الّتي هي للّه وحده و شبّهوه به ، والأشباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّاً في الدّين ولا نصيباً من الإيمان واليقين....إلى أن قال: فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبدالرحمن بن إسحاق القاضي كتابَ أمير المؤمنين بما كتب به إليك و انصصهما عن علمهما في القرآن و أعلمهما أنّ أميرالمؤمنين لا يستعين على شيء من أُمور المسلمين إلاّ بمن و ثق بإخلاصه و توحيده ، و أنّه لاتوحيد لمن لم يقرّ بأنّ القرآن مخلوق. فإن قالا: بقول أميرالمؤمنين في ذلك فتقدّم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما في الشّهادات على الحقوق و نصّهم عن قولهم في القرآن ، فمن لمن يقل منهم إنّه مخلوق أبطلا شهادته ولم يقطعا حكماً بقوله و إن ثبت عفافه بالقصد والسّداد في أمره ، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة و أشرف عليهم إشرافاً يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته و يمنع المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله » (1).
دعوة المحدّثين والقضاة لسماع كتاب الخليفة
    ولما جاءت الرسالة الثالثة إلى إسحاق بن إبراهيم ، أحضر لفيفاً من المحدّثين منهم 1 ـ أبو حسّان الزيادي ، 2 ـ وبشر بن وليد الكندي ، 3 ـ وعليّ بن أبي مقاتل ،
    1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 198 و 199و 200 ، حوادث سنة 218.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس