بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 441 ـ 450
(441)
    4 ـ والفضل بن غانم ، 5 ـ والذيال بن الهيثم ، 6 ـ وسجّادة ، 7 ـ والقواريري ، 8 ـ وأحمد بن حنبل ، 9 ـ وقتيبة ، 10 ـ وسعدويه الواسطي ، 11 ـ وعليّ بن الجعد ، 12 ـ وإسحاق بن أبي إسرائيل ، 13 ـ وابن الهرش ، 14 ـ وابن عليّة الأكبر ، 15 ـ ويحيى بن عبدالرحمان العمري ، 16 ـ وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطّاب ، كان قاضي الرقّة ، 17 ـ وأبو نصر التمّار 18 ـ وأبو معمر القطيعي ، 19 ـ ومحمّد بن حاتم بن ميمون ، 20 ـ ومحمّدبن نوح المضروب ، 21 ـ وابن الفرخان ، 22 ـ والنّضر بن شميل ، 23 ـ وابن عليّ بن عاصم ، 24 ـ وأبو العوام البزاز ، 25 ـ وابن شجاع ، 26 ـ وعبدالرّحمان بن إسحاق.
    فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموه ، ثمّ سأل كلّ واحد عن رأيه في خلق القرآن.
    فنجد في الأجوبة عيّاً و غباوة ، لا يتطلّبون الحقّ. و إليك نصّ محاورة إسحاق مع بعض هؤلاء.
    1 ـ إسحاق بن إبراهيم ، مخاطباً بشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟
    بشر: القرآن كلام الله.
    إسحاق: لم أسألك عن هذا ، أمخلوق هو ، قال الله: ( خالق كلّ شيء ) ما القرآن شيء؟
    بشر: هو شيء.
    إسحاق: فمخلوق ؟
    بشر: ليس بخالق.
    إسحاق: ليس أسألك عن هذا ، أمخلوق هو؟
    بشر: ما أُحسن غير ما قلتُ لك ، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلّم فيه ، وليس عندي غير ما قلت لك.
محاورته مع عليّ بن أبي مقاتل
    إسحاق بن إبراهيم: القرآن مخلوق؟


(442)
    عليّ بن أبي مقاتل: القرآن كلام الله.
    إسحاق: لم أسألك عن هذا.
    ابن أبي مقاتل: هو كلام الله.
محاورته مع أبي حسّان الزيادي
    إسحاق: القرآن مخلوق هو؟
    أبو حسّان: القرآن كلام الله ، والله خالق كلّ شيء ، وما دون الله مخلوق ، وأمير المؤمنين إمامنا و بسببه سمعنا عامّة العلم ، وقد سمع ما لم نسمع ، وعلم ما لم نعلم ، وقد قلّده الله أمرنا ، فصار يقيم حجّنا وصلاتنا و نؤدّي إليه زكاة أموالنا ، ونجاهد معه ، ونرى إمامته إمامة ، وإن أمرنا ائتمرنا ، وإن نهانا انتهينا ، وإن دعانا أجبنا.
    إسحاق: القرآن مخلوق هو؟
    أبو حسّان: ( أعاد كلامه السابق ).
    إسحاق: إنّ هذه مقالة أمير المؤمنين.
    أبو حسّان: قد تكون مقالة أمير المؤمنين و لا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها ، وإن أخبرتني أنّ أمير المؤمنين أمرك أن أقول ، قلت ما أمرتني به ، فإنّك الثقة المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه.
    إسحاق: ما أمرني أن أبلغك شيئاً.
    قال « علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في الفرائض و المواريث ، ولم يحملوا النّاس عليها ».
    أبو حسّان: ما عندي إلاّ السّمع والطاعة ، فمرني أئتمر.
    إسحاق: ما أمرني أن آمرك و إنّما أمرني أن أمتحنك.
محاورته مع أحمد حنبل
إسحاق: ما تقول في القرآن؟


(443)
    أحمد: هو كلام الله.
    إسحاق: أمخلوق هو؟
    أحمد: هو كلام الله ، لا أزيد عليها.
    إسحاق: ( قرأ عليه رقعة و فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ). فلمّا أتى إسحاق إلى قوله: « ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير » (1) ، وأمسك عن قوله: « لا يشبهه شيء ، من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه » ، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر (2) فقال: أصلحك الله ، إنّه ( أحمد ) يقول: سميع من اذن ، بصير من عين.
    فقال إسحاق: ما معنى قوله سميع بصير؟
    أحمد: هو كما وصف نفسه.
    إسحاق: فما معناه؟
    أحمد: لا أدري ، هو كما وصف نفسه.
    ثمّ إنّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً ، كلّهم يقولون: القرآن كلام الله إلاّ هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمّد بن الحسن ، وابن علية الأكبر ، وابن البكاء ، وعبدالمنعم بن إدريس ، والمظفّر بن مرجا ، ورجلاً ضريراً ليس من أهل الفقه ولا يعرف بشيء منه إلاّ أنّه دسّ في ذلك الموضع ، ورجلاً من ولد عمر بن الخطّاب قاضي الرّقة ، وابن الأحمر. فأمّا ابن البكاء الأكبر فإنّه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ) والقرآن محدث لقوله: ( ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث ).
    قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟
    قال: نعم.
    1 ـ سقط قوله: « ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » من الرقعة التي نقلها ص 200 و لكن نقله ص 201.
    2 ـ في المصدر « أصغر » والصحيح ما أثبتناه.


(444)
    قال إسحاق: فالقرآن مخلوق؟
    قال: لا أقول مخلوق ، ولكنّه مجعول ، فكتب مقالته.
    فلمّا فرغ من امتحان القوم و كتبت مقالاتهم رجلاً رجلاً و وجّهت إلى المأمون ، فمكث القوم تسعة أيّام ثمّ دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمر هؤلاء.
الرسالة الرابعة للمأمون إلى إسحاق
    كتب المأمون في جواب رسالته كتاباً مفصّلاً نأخذ منها مايلي:
     « أمّا بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك ، جوابَ كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنّعة أهل القبلة و ملتمسو الرِّئاسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملّة من القول في القرآن و أمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم و تكشيف أحوالهم و إحلالهم محالّهم ».
    ثمّ تكلّم المأمون في حقِّ الممتنعين عن الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً و الرِّسالة مفصّلة (1) والملفَت للنّظر فيها أمران:
    الأوّل: أمر المأمون رئيس الشّرطة بضرب عنق بشر بن الوليد ، وإبراهيم المهدي إذا لم يتوبا بعد الاستتابة ، وحمل الباقين موثّقين إلى عسكر أمير المؤمنين و تسليمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصّهم أمير المؤمنين ، فإن لم يرجعوا و يتوبوا حملهم جميعاً على السّيف.
    الثاني: تذكّر بعض أفعال الممتنعين بالاعتراف بخلق القرآن ، بوجه يعرب أنّهم لم يكونوا أهل صلاح و فلاح ، بل كانوا من مقترفي المعاصي نقتطف منها مايلي:
     « وأمّا الذيّال بن الهيثم فأعلمه أنّه كان فى الطّعام الّذي كان يسرقه في الأنبار ، وفيما يستوي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العبّاس ما يشغله و أنّه لو كان مقتفياً
    1 ـ لاحظ تاريخ الطبري 7: 202 ـ 203.

(445)
    آثار سلفه و سالكاً مناهجهم و مهتدياً سبيلهم لما خرج إلى الشرّك بعد إيمانه.
    وأمّا أحمد بن حنبل و ما تكتب عنه فاعلمه أنّ أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها و استدلّ على جهله و آفته بها.
    وأمّا الفضل بن غانم فأعلمه أنّه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر ، وما اكتسب من الأموال في أقلّ من سنة ، وما شجر بينه و بين المطّلب بن عبدالله في ذلك ، فإنّه من كان شأنُه شأنَه ، وكانت رغبته في الدّنيا و الدِّرهم رغبته فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعاً فيهما و ايثاراً لعاجل نفعهما.
    وأمّا الزّيادي فأعلمه أنّه كان منتحلاً ، ولا أوّل دعيّ كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله وكان جديراً أن يسلك مسلكه.
    وأمّا الفضل بن الفرخان فأعلمه أنّه حاول بالقول الّذي قاله في القرآن أخذ الودائع الّتي أودعها إيّاه عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره تربّصاً بمن استودعه و طمعاً في الاستكثار لما صار في يده ولا سبيل عليه عن تقادم عهده و تطاول الأيّام به.
    وأمّا محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر فأعلمهم أنّهم مشاغيل بأكل الرّبا عن الوقوف على التوحيد ، وإنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم و ما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك ، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركاً و صاروا للنصارى مثلاً ».
    ثمّ وقّع في الوقيعة في كلّ واحد من الممتنعين ما يشمئزّ القلم من نقله ، فلو كانت تلك النّسب على وجهها فويل لهم مما كسبت أيديهم من عظائم المحرّمات و ما كسبت قلوبهم من الشِّرك (1).
    فلمّا وصل كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم دعا القوم و قرأ عليهم كتاب المأمون ، فأجاب القوم الممتنعون كلّهم ، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم
    1 ـ تاريخ الطبري: 7 / 203 ـ 204.

(446)
    أحمد بن حنبل ، وسجادة ، والقواريري ، ومحمّد بن نوح المضروب ، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدّوا في الحديد. فلمّا كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر باطلاق قيده و خلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.
    فلمّا كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول ، فأجاب القواريري إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله ، و أصرّ أحمد بن حنبل و محمّد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد و وجِّها إلى طرسوس و كتب معهما كتاباً بإشخاصهما.
    ثمّ لمّا اعترض على الرّاجعين من عقيدتهم برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حيث أكره على الشِّرك و قلبه مطمئنّ بالإيمان (1) و قد كُتب تأويلهم إلى المأمون ، فلأجل ذلك ورد كتاب مأمون بأنّه قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه ، وأنّ بشر بن الوليد تأوّل الآية الّتي أنزل الله تعالى في عمّار بن ياسر وقد أخطأ التّأويل إنّما عني الله عزّوجلّ بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك ، فأمّا من كان معتقد الشِّرك مظهر الإيمان فليس هذه له ، فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الرّوم.
    فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا بالعسكر بطرسوس ، فأشخص كلّ من ذكرنا أسماءهم ، فلمّا صاروا إلى الرّقة بلغتهم وفاة المأمون ، فأمر بهم عنبسة بن إسحاق ـ وهو والي الرقة ـ إلى أن يصيروا إلى الرقة ، ثمّ أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السّلام ( بغداد ) مع الرّسول المتوجّه بهم إلى أمير المؤمنين ، فسلّمهم إليه فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم ثمّ رخّص لهم ذلك في الخروج (2).
    وما ذكرناه هو خلاصة محنة أحمد و من كان على فكرته في زمن المأمون وليس فيه
    1 ـ إشارة الى قوله سبحانه ( إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) ( النمل / 106 ).
    2 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 195 إلى 206 بتلخيص منّا.


(447)
    إلاّ إشخاص أحمد و محمّد بن نوح موثّقين في الحديد إلى طرسوس و إشخاص غيرهما مطلقين ، ولمّا بلغهم وفاة المأمون رجعوا من الرقّة ولم يسيروا إلى طرسوس.
    هذا وقد ذكر القصّة اليعقوبي بصورة مختصرة و قال:
     « وصار المأمون إلى دمشق سنة ( 218هـ ) و امتحن النّاس في العدل والتّوحيد وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق و غيرها فامتحنهم في خلق القرآن و أكفر من امتنع أن يقول ـ : القرآن غير مخلوق ، وكتب أن لا تقبل شهادته ، فقال كلّ بذلك إلاّ نفراً يسيراً » (1).
    هذا تفصيل المحنة أيّام المأمون ، وأمّا ما وقع في أيّام الخليفتين: المعتصم والواثق ، فسيوافيك بيانه بعد تعليقتنا.

تعليق على محنة خلق القرآن
    إنّ هنا أُموراً لا بدّ من الإلفات إليها:
    1 ـ لم يظهر من كتب الخليفة إلى صاحب الشّرطة وجه إصراره على أخذ الاعتراف من المحدِّثين بخلق القرآن. فهل كان الحافز إخلاصه للتوحيد ، وصموده أمام الشِّرك ، أو كان هناك مرمى آخر لإثارة هذه المباحث ، حتّى ينصرف المفكِّرون بسبب الاشتغال بهذه المباحث عن نقد أفعالهم و انحرافاتهم ، وبالتّالي إيقاف الثّورة أو إضمارها. فإنّ القلوب إذا اشتغلت بشيء ، منعت عن الاشتغال بشيء آخر.
    2 ـ لو كانت الرِّسالة مكتوبة بيد الخليفة أو باملائه ، فهي تحكي عن عمق تفكيره في المباحث الكلاميّة ، وإحاطته بأكثر الايات وقد جاء في المقام بأسدِّ الدّلائل و أتقنها ، حيث استدلّ تارة بتعلّق الجعل بالقرآن ، وأُخرى باحاطة اللّوح المحفوظ به ، ولا يحاط إلاّ بمخلوق ، وثالثة بتوصيفه ب ـ « محدث » ، و رابعة بتوصيفه بصفات كلّها صفات
    1 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 468 ، ط دار صادر.

(448)
    المخلوق من تعلّق النّزول به ونهي النّبي عن العجلة بقراءته ، والدّعوة إلى الاتيان بمثله ، وأنّ له أماماً و خلفاً ، إلى غير ذلك.
    3 ـ إنّ الرِّسالة كشفت القناع عن السّبب الّذي أدخل هذه المسألة في أوساط المسلمين ، وقال: « إنّ القائلين بقدم القرآن يضاهئون قول النّصارى في أنّ المسيح كلمة وليس بمخلوق » ، وهو يعرب عن أنّ الفكرة دخلت إلى أوساط المسلمين بسبب احتكاك المسلمين بهم. وما يقال من أنّ اليهود هم المصدر لدخول هذه الفكرة بينهم غير تامّ والمأمون أعرف بمصدر هذه الفكرة.
    4 ـ لو صحّ ما ذكره الطّبري من صورة المحاورة الّتي دارت بين رئيس الشّرطة والمحدِّثين ، فإنّه يكشف عن جمود المجيبين و عيّهم في الجواب ، فإنّهم اتّفقوا على أنّ القرآن ليس بخالق ، ولكنّهم امتنعوا عن الاعتراف بأنّه مخلوق ، وبالتّالي جعلوا واسطة بين الخالق والمخلوق أو بين النّفي والاثبات ، وهو كما ترى.
    ولو كان عذرهم في عدم الاعتراف بأنّ القرآن مخلوق ، هو الخوف من أن يكون هذا الاعتراف ذريعة للملاحدة حتّى ينسبوا إلى المسلمين بأنّهم يقولون إنّ القرآن مخلوق أي مختلق و مزوّر أو مخلوق للبشر ، فيمكن التخلّص منه بالتّصريح بأنّه مخلوق لله سبحانه لاغير ، والله هو خالقه و جاعله ليس غير.
    5 ـ لا شكّ أنّ عمل الخليفة كان أشبه بعمل محاكم التّفتيش في القرون الوسطى حيث كان البابا والبطارقة والقساوسة ، يتحرّون عقائد الناس لا سيّما المكتشفين أمثال غاليلو ، وكان ذلك و صمة عار على حياة الخليفة و بالتّالي على المعتزلة الّذين كان الخليفة يلعب بحبالهم ، ويلحقهم وزر أعماله ، وما يترك في المجتمع من ردّ فعل سيّىء. ومن المعلوم أنّ أخذ الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً في جوّ رهيب ، لا يوافق تعاليم المعتزلة ، كما لا يوافق تعاليم الإسلام ، على أنّه لا قيمة لهذا الاعتراف عند العقل و النّقل فكيف رضي القوم بهذا العمل.
    6 ـ العجب من تلوّن الخليفة في قضائه في حقّ الممتنعين عن الاعتراف بخلق


(449)
    القرآن ، فيرى أنّ بشر بن الوليد ، وإبراهيم المهدي مستحقّان لضرب العنق إذا استتيبا ولم يتوبا ، والباقين مستحقّون للإشخاص إلى عسكره ، مع أنّ الجرم واحد ، والكلّ كانوا محدِّثين فهماء ، ولم يكن الأوّلان قائدي الشرك ، والباقون مقتفيه. فلو كان القول بعدم خلق القرآن أو قدمه موجباً للردّة والرجوع إلى الشرّك فالحكم الإلهي هو القتل وإلاّ فلا ، وهذا يعرب عن أنّ جهاز القضاء كان أداة طيّعة بأيدي الخلفاء ، يستغلّونه حسب أهوائهم.
    7 ـ إنّ محنة القائلين بعدم خلق القرآن ، تمّت في زمن الخليفة المأمون بالإشخاص والإبعاد من دار السّلام إلى طرسوس. غير أنّ التأريخ يذكر إشخاص اثنين موثّقين إلى عسكر الخليفة ، وإشخاص الباقين بلا قيود ولا ضرب ولا قتل إلى الخليفة. ولم يحدّث التاريخ هنا عن ضرب وقتل.
    ولكنّ المحنة لم تنته بموت المأمون ، بل استمرّت في خلافة أخيه المعتصم ، فالواثق ابنه ولكن بصورة سيّئة ، حدث عنها التّاريخ.
    قضى المأمون نحبه وجاء بعده أخوه المعتصم ( 218 ـ 227هـ ) فضيّق الأمر على القائلين بعدم خلق القرآن.
    يقول اليعقوبي: « وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن ، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا ، فأحضر له الفقهاء و ناظره عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره ، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق ، فضرب عدّة سياط. فقال إسحاق بن إبراهيم: ولِّني يا أمير المؤمنين مناظرته فقال: شأنك به.
    إسحاق بن ابراهيم: هذا العلم الّذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟
    ابن حنبل: علمته من الرِّجال.
    إسحاق: علمته شيئاً بعد شيء أو جملة؟
    ابن حنبل: علمته شيئاً بعد شيء.


(450)
    إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟
    ابن حنبل: بقي عليّ.
    إسحاق: فهذا ممّا لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين.
    ابن حنبل: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.
    إسحاق: في خلق القرآن؟
    ابن حنبل: في خلق القرآن.
    فأشهد عليه وخلع عليه و أطلقه إلى منزله (1).
    هذا ما كتبه ذلك المؤرخ المتوفّى ( عام 290هـ ).
    وأمّا الطبري فلم يذكر في حياة المعتصم ما يرجع إلى مسألة خلق القرآن.
    وقال المسعودي: « وفيها ( سنة 219هـ ) ضرب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القرآن » (2).
    نعم ذكر الجزري في كامله في حوادث سنة ( 219هـ ) و قال: « وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل و امتحنه بالقرآن ، فلم يجب إلى القول بخلقه ، فأمر به فجلد جلداً عظيماً حتّى غاب عقله و تقطّع جلده و حبس مقيّداً » (3).
    وروى الجاحظ أنّه لم يكن في مجلس الامتحان ضيق ، ولا كانت حاله حالاً مؤيساً ، ولا كان مثقّلاً بالحديد ، ولا خلع قلبه بشدّة الوعيد ، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب و يرزنون و يخفّ و يحلمون و يطيش » (4).
    هذا ولكن المتحيّزين إلى الحنابلة يذكرون المحنة بشكل فظيع. هذا أبو زهرة قد لخّص مقالهم بقوله:
     « وقد تبيّن أنّ أحمد بن حنبل كان مقيّداً مسوقاً عند ما مات المأمون ، فأُعيد إلى
    1 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 472.
    2 ـ مروج الذهب: 3 / 464 ط دار الاندلس.
    3 ـ الكامل ، ج 5 ، ص 233.
    4 ـ الفصول المختارة على هامش الكامل للمبرد: ج 2 ، ص 139.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس