بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: 451 ـ 460
(451)
    السجن ببغداد حتّى يصدر في شأنه أمر ، ثمّ سيق إلى المعتصم و اتّخذت معه ذرايع الاغراء و الارهاب ، فما أجدى في حمله ترغيب و لا ترهيب ، فلمّ ـ ا لم يجد القول رغباً و رهباً ، نفّذوا الوعيد فأخذوا يضربونه بالسياط ، المرّة بعد الأُخرى ، ولم يترك في كلِّ مرّة حتّى يغمى عليه و ينخس بالسيف فلا يحسّ. فتكرّر ذلك مع حبسه نحواً من ثمانية وعشرين شهراً فلمّا استيأسوا منه و ثارت في نفوسهم بعض نوازع الرّحمة أطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته وقد أثخنه الجراح و أثقله الضّرب المبرح المتوالي والالقاء في غيابات السِّجن » (1).
    وليس لما ذكره أبو زهرة مصدر سوى « مناقب الامام أحمد بن حنبل » للحافظ أبي الفرج عبدالرّحمان بن الجوزي ومن تبعه مثل الحافظ ابن كثير في « البداية و النهاية » (2).
    والنّاظر في هذين الكتابين يرى تحيّزهما لأحمد بن حنبل و أنّهما يريدان نحت الفضائل له و عند ما قصرت أيديهما عنها لجأوا إلى المنامات ، فلا يمكن الاعتماد عليهما فيما يرويان من التّفاصيل في هذه المحنة. وقد عرفت التضارب في التاريخ بين قائل بأنّ أحمد رجع عن رأيه أثناء الضّرب كاليعقوبي ، وقائل بأنّه بقي على إنكاره.
محنة خلق القرآن والواثق
    قضى المعتصم نحبه و خلفه ابنه الواثق ( 223 ـ 227هـ ) (3) وكان للمعتزلة في عصره قوّة و قدرة و نشاط و سيطرة.
    قال اليعقوبي: « وامتحن الواثق النّاس في خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان و أن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً » (4).
    1 ـ ابن حنبل ـ حياته وعصره ـ أبو زهرة ، ص 65.
    2 ـ البداية والنهاية ، ج 10 ، ص 230 الى 343.
    3 ـ البداية والنهاية: ج 10 ، ص 297.
    4 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 482.


(452)
    يقول الحافظ ابن كثير:
     « وأمر الواثق بامتحان الأسارى الّذين فودوا من أسر الفرنج ، بالقول بخلق القرآن و أنّ الله لا يرى في الآخرة ، فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأنّ الله لا يرى في الآخرة فودى و إلاّ ترك في أيدي الكفّار. وهذه بدعة صلعاء ، شنعاء ، عمياء ، صمّاء لا مستند لها من كتاب ولا سنّة ولا عقل صحيح » (1).
    ولكن تحيّز ابن كثير للحنابلة و أصحاب القول بعدم خلق القرآن واضح في كتابه. فالاعتماد على ما ينقل من المحنة في حقِّ الحنابلة إن لم تؤيّده سائر الآثار مشكل ، وبما أنّ في الكتاب ، مغالاة في الفضائل ، و محاولة لجعله اسطورة في التّأريخ بنقول مختلفة ، نكتفي بما يذكره الطبري في المقام.
    يقول: « إنّ مالك بن هيثم الخزاعي كان أحد نقباء بني العبّاس ، وكان حفيده أحمد بن نصر بن مالك ، يغشاه أصحاب الحديث كيحيى بن معين و ابن الدورقي و ابن خيثمة ، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق ، مع منزلة أبيه من السّلطان في دولة بني العبّاس ، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك مع غلظة الواثق على من يقول ذلك. فحرّك أصحاب الحديث و كلّ من ينكر القول بخلق القرآن أحمد بن نصر و حملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن ، والغاية من هذه الحركة ، الثورة في بغداد على الخليفة الواثق ، وخلعه من الخلافة ، غير أنّ هذه المحاولة فشلت فأخذوا و حملوا إلى سامراء ، الّتي كانت مقرّاً للواثق ، فحضر القوم واجتمعوا عنده ، فلمّا اُتي بأحمد بن نصر قال له: ياأحمد ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله ، قال أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله ، قال:فما تقول في ربِّك أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال: ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ، فنحن على الخبر.
    فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فقال عبدالرحمان بن إسحاق: يا أمير
    1 ـ البداية والنهاية: ج 10 ، ص 307.

(453)
    المؤمنين هو حلال الدم. وقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين ، كافر يستتاب لعلّ به عاهة ، أو تغيّر عقليّ ، فقال الواثق ، إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي ، فإنّي أحتسب خطاي إليه ، ودعا بالصمصامة ، سيف عمرو بن معديكرب ، فمشى إليه وهو في وسط الدّار ، ودعا بنطع فصير في وسطه حبل فشدّ رأسه ، ومدّ الحبل ، فضربه الواثق ضربة ، فوقعت على حبل العاتق ، ثمّ ضربه أُخرى على رأسه ، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه ، فضرب عنقه و حزّ رأسه » (1).
    هذه خلاصة القصّة. ومن المعلوم أنّ هذه القسوة من الخليفة كانت مبرّرة عنده ، لا لأجل قوله بخلق القرآن و رؤية الله ، بل لما قام به من الثّورة عليه.
    ويقول أيضاً: « أمر الواثق بامتحان أهل الثّغور في القرآن ، فقالوا بخلقه جميعاً إلاّ أربعة نفر ، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه » (2).
    وقام الواثق بنفس العمل الّذي قام به أبوه في امتحان أسرى المسلمين ، فمن قال إنّ القرآن مخلوق فودي به ، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الرّوم و أمر لطالب بخمسة آلاف درهم ، وأمر أن يعطوا جميع من قال إنّ القرآن مخلوق ممن فودي به ديناراً لكلِّ إنسان من مال حمل معهم (3).
    وكانت المحنة مستمرّة ، والضيق على أصحاب القول بعدم خلق القرآن متواصلاً إلى أن وافاه الأجل ومات الواثق عام 232.
    وقد اتّفقت كلمة أهل السّير على أنّ الخلفاء كانوا يلعبون بحبال عدّة من المعتزلة الّذين كسبوا منزلة عظيمة لدى الخلفاء ، وهم ثمامة بن أشرس و أحمد بن أبي دؤاد الزيّات و غيرهم. وبموت الخليفة و تسنّم ابنه المتوكّل على الخلافة ، غاب نجم المعتزلة و انحدروا من الأوج إلى الحضيض و من العزِّ إلى الذّلّة ، وإليك هذا القسم من التّاريخ.
    1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، حوادث سنة 231 ، ص 328 ، 329.
    2 ـ المصدر السابق: ص 331.
    3 ـ المصدر السابق: ص 332.


(454)
قصّة المحنة و خلافة المتوكّل
    قضى الواثق نحبه و قام مقامه المتوكّل و أمر الناس بترك النظر و البحث والجدال و ترك ما كانوا عليه في أيّام الخلفاء الثلاث: المأمون و المعتصم والواثق ، وأمر شيخ المحدِّثين بالتحديث و إظهار السنّة (1).
    قال اليعقوبي: « نهى المتوكِّل النّاس عن الكلام في القرآن و أطلق من كان في السّجون من أهل البلدان ، ومن أخذ في خلافة الواثق ، فخلاّهم جميعاً و كساهم ، وكتب إلى الآفاق كتباً ينهي عن المناظرة و الجدل » (2).
    هذه هي الضّربة الأُولى الّتي وجّهها المتوكِّل إلى المعتزلة ، وأقفل باب البحث والمناظرة الّذي كان لصالح المعتزلة على ضدِّ أهل الحديث ، حيث كان المعتزلة يتفوّقون على خصمائهم في مجال النِّقاش. ومع ذلك كلّه لم يكن ذلك ضربة قاضية لنظام الاعتزال ، ولأجل ذلك لم يعزل أحمد بن دؤاد عن قضاء القضاة ولا عن مظالم العسكر ، بل أبقاه على منصبه إلى أن عجز عن القيام بالعمل لإصابته بالفالج عام 233 و اختار بعده ولده محمّد بن أحمد.
    يقول الخطيب: « فلمّا فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة 233... ولّى المتوكِّل ابنه محمّد بن أحمد أبا الوليد القضاء و مظالم العسكر مكان أبيه » (3).
    ومن المعلوم أن أحمد بن أبي دؤاد هو العامل المؤثِّر في دعوة الخلفاء على ضدِّ أهل الحديث القائلين بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق.
    ويظهر من ابن الجوزي في كتاب مناقب الإمام أحمد أنّ المتوكِّل وجّه إلى المعتزلة ضربة ثانية مؤثِّرة في إبعادهم عن ساحة المساجد والمدارس وإشخاص أهل الحديث
    1 ـ مروج الذهب: ج 4 ، ص 1.
    2 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 484 ـ 485.
    3 ـ تاريخ بغداد: ج 1 ، ص 298.


(455)
    ودعوتهم إليها. يقول: « في سنة 234 أشخص المتوكِّل الفقهاء و المحدِّثين ، وأمرهم أن يجلسوا للنّاس و أن يحدِّثوا بالأحاديث فيها الردّ على المعتزلة والجهميّة ، وأن يحدِّثوا في الرّؤية ، فجلس عثمان بن أبي شيبة فى مدينة المنصور ، ووضع له منبر و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس ، وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً » (1).
    والتّاريخ يعرب عن شدّة تفاقم أمر المعتزلة سنة بعد سنة وانجذاب المتوكِّل إلى أهل الحديث ، وتخطئة عمل أبيه الواثق ، حيث إنّ أباه قتل بسيفه أحمد بن نصر لأجل قوله بعدم خلق القرآن وصلبه و كانت جثّته باقية على الصّليب إلى عام 237 ، ولكنّ المتوكِّل أمر بإنزال جثّته وهو نوع تخطئة لعمل أبيه أوّلاً ، وإمضاء لمنهج أهل الحديث ثانياً.
    يقول الطبري: « وقد كان المتوكِّل لمّا أفضت إليه الخلافة ، نهى عن الجدال في القرآن وغيره ، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق ، وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته ، فاجتمع الغوغاء و الرّعاع إلى موضع تلك الخشبة و كثروا و تكلّموا ، فبلغ ذلك المتوكّل ، فوجّه إليهم نصربن اللّيث ، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم و حبسهم ، وترك إنزال جثّة أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامّة في أمره ، وبقي الّذين أُخِذوا بسببه في الحبس حيناً... فلمّا دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الّذي ذكرت ، حمله ابن أخيه موسى إلى ( بغداد ) وغسل ودفن و ضمّ رأسه إلى بدنه » (2).
    ومع ذلك لم يكتف في قطع جذور المعتزلة عن بلاطه و صار بصدد الانتقام من آل ابن أبي دؤاد. يقول الطبري: « وفي سنة 237 غضب المتوكِّل على ابن أبي دؤاد و أمر بالتّوكيل على ضياع أحمد بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر ، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل ابنه أبا الوليد محمّد بن أحمد بن أبي دؤاد في ديوان الخراج
    1 ـ مناقب الامام أحمد: ص 375 ـ 385.
    2 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، حوادث سنة 237 ، ص 368 ـ 369.


(456)
    وحبس إخوته عند عبيد الله بن السريّ خليفة صاحب الشرطة » (1).
    والظّاهر من الخطيب في تاريخه أنّ عزل محمّد بن أحمد كان يوم الأربعاء بعشر بقين من صفر سنة 240 وصُدرت أمواله ، ومات أبو الوليد محمّد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة 240 ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً (2).
    ثمّ إنّ إبعاد المعتزلة عن ساحة القدرة فسح للشعب إظهار حقده و إبداء كامل غيظه في مناسبات شتّى. منها ما عرفت عند إنزال جثّة أحمد بن نصر ، ومنها ما فعلوه في تشييع جنازة أحمد بن حنبل ، فقد شيّعه جماعة كثيرة و إن غالى ابن الجوزي ـ كما هو شأنهـ في حقِّ إمامه وقال: « وعن بعض الشهود أنّه مكث طول الأسبوع رجاء أن يصل إلى القبر فلم يتمكّن إلاّ بشقِّ النّفس لكثرة ازدحام النّاس عليه » (3). وأخذ الشعراء يهجون المعتزلة. يقول شاعرهم:
أفلت سعود نجومك ابن دؤاد فرحت بمصرعك البريّة كلّها كم من كريمة معشر أرملتَها كم مجلس لله قد عطّلتَه كم من مساجد قد منعتَ قضاتها كم من مصابيح لها أطفأتها و بدتْ نحوسك في جميع إياد من كان منها موقتاً بمعاد و محدِّث أوثقتَ بالأقياد كيلا يحدّث فيه بالاسناد من أن يعدّل شاهد برشاد كيما تزلّ عن الطّريق الهادي (4)
    وأخذ أهل الحديث يجلسون في المساجد و يروون الأحاديث ضدّ الاعتزال ويكفّرون المعتزلة. سأل أحدهم أحمد بن حنبل عمّن يقول إنّ القرآن مخلوق ، فقال: كافر. قال: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم (5).
    1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، حوادث سنة 237 ، ص 367 ـ 368.
    2 ـ تاريخ بغداد: ج 1 ، ص 298 ، ولاحظ الكامل لابن الاثير ج 5 ، حوادث سنة 240 ، ص 294.
    3 ـ مناقب الامام أحمد: ص 418.
    4 ـ تاريخ بغداد: ج 4 ، ص 155.
    5 ـ تاريخ بغداد: ج 3 ، ص 285.


(457)
    عند ذلك شعرت المعتزلة بأنّ الظّروف قاسية و أنّ السّلطة والأكثريّة الساحقة من أهل السنّة يريدون أن يقضوا عليهم و يشفوا غيظ صدورهم منهم ، ومع ذلك كلّه كانت عندهم طاقة يردّون بها عن أنفسهم الّتي رشقوا بها و يتمسّكون بكلِّ طحلب وحشيش.فقام الجاحظ أحد أُدباء المعتزلة فألّف كتاباً باسم « فضيلة المعتزلة » فأثنى عليهم و عدّ فضائلهم وكان الكتاب من حيث الصياغة والتعبير بمكان توجّهت إليه أبصار الخاصة والعامّة ، و بالتّالي ظهر عليه ردّ أو ردود ، أشهرها ما كتبه أحمد بن يحيى الراوندي ( م 345هـ ) الّذي كان من المعتزلة ، ثمّ رجع عنهم فألّف كتابه « فضيحة المعتزلة » ولم يبرح زمان حتّى جاء أبو الحسين عبدالرحمن بن محمّد بن عثمان الخيّاط فألّف « الانتصار » انتصر فيه للجاحظ على ابن الرّاوندي والموجود من هذه الكتب الثّلاثة هو الأخير.
    ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم هو تشتّت مذاهبهم و فرقهم ، فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستين ، مدرسة معتزلة بغداد و مدرسة معتزلة البصرة ، ولم تكن حتّى في نفس كلِّ واحدة منهما وحدة في التّفكير ، فصاروا فرقاً ينوف على العشرين و عند ذلك بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال ، وإن كان ينجم بينهم رجال مفكّرون كأبي عليّ الجبائي ( م 303هـ ) و ولده أبي هاشم ( م 321هـ ).
    وجاءت الضّربة الأخيرة من جانب أبي الحسن الأشعريّ الّذي كان ربيب أبي عليّ الجبّائي و تلميذه ، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحديث ، فقد رقى في البصرة يوم الجمعة كرسيّاً و نادى بأعلى صوته: « من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن ، وأنّ الله لا تراه الأبصار ، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها و أنا تائب مقلع ، معتقد للردّ على المعتزلة ، مخرج لفضائحهم ومعايبهم » (1).
    فقد كان لرجوع من كان من أكابر تلاميذ أبي عليّ الجبّائي أثر بارز في النّفوس
    1 ـ فهرس ابن النديم ، الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 231 ، ووفيات الاعيان ، ج 3 ، ص 275.

(458)
    وبذلك أخذ الدهر يقلب عليهم ظهر المجنّ ، تقلّب لجّة البحر بالسفن المشحونة والفلك المصنوعة ، بين بالغ إلى ساحل النّجاة و هالك في أمواج الدّهر. هذا هو القادر بالله أحد خلفاء العبّاسيين قام في سنة ( 408 هـ ) بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول الحافظ ابن كثير: « وفي سنة ( 408 هـ ) ، استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرّجوع و تبرّأوا من الاعتزال و الرفض والمقالات المخالفة للإسلام ، وأخذت خطوطهم بذلك و أنّهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم ، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان و غيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة و صلبهم و حبسهم و نفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع و نفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنّة في الإسلام » (1).
    قال الخطيب: « وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث و أورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز و إكفار المعتزلة و القائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي و يحضر النّاس سماعه » (2).
    أقول: وهذا الكتاب هو المعروف « بالبيان القادري » وصار هذا الكتاب محوراً لتمييز الحقِّ عن الباطل و الصّحيح عن الزّائف.
    وقال ابن الجزري في حوادث سنة ( 420 هـ ) : « ولمّا ملك محمود بن سبكتكين الريّ.. نفى المعتزلة إلى خراسان و أحرق كتب الفلسفة و مذاهب الاعتزال والنّجوم و أخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل » (3).
    1 ـ البداية والنهاية: ج12 ص6.
    2 ـ تاريخ بغداد: ج 4 ، ص 37 و 38.
    3 ـ الكامل: ج 7 ، حوادث سنة 420.


(459)
    وقال ابن كثير في حوادث سنة ( 456هـ ) ناقلاً عن ابن الجوزي: « وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي عليّ بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبّوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع و تدريسه للنّاس بهذا المذهب و أهانوه و جرّوه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور و جلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة » (1).
    وقال في حوادث سنة ( 477 هـ ) : « إنّ أبا عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرّساً لهم فأنكر أهل السنّة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفّي في ذي الحجّة منها ».
    ويقول أيضاً في حوادث ( 461 هـ ) : « وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء عليّ بن عقيل وهو من كبرائهم بتردّده إلى أبي عليّ بن الوليد المتكلّم المعتزلي واتّهموه بالاعتزال » (2).
    ويقول في حوادث سنة ( 465 هـ ) : « وفي يوم الخميس حادي عشر المحرّم حضر إلى الديوان أبو الوفاء عليّ بن محمّد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمّن توبته من الاعتزال » (3).
    وبذلك حقّق التّاريخ السنّة المعروفة « كما تدين تدان » وأخذت الطّائفتان ، الحنابلة والمعتزلة يتصارعان و يقتتلان قتال موت أو حياة ، فصارالانتصار لأصحاب الحديث ، والهلاك والاضطهاد للمعتزلة ، فلم يظهر بعد هذه القرون إلاّ آحاد ينجمون في الفينة بعد الفينة والفترة بعد الفترة لا تجد لهم ذكراً بارزاً في ثنايا التاريخ.
    إنّ تكامل الأُمم و بلوغها الذّروة من العظمة ، ثمّ انحدارها إلى هاوية الضعف والانحلال سنّة إلهيّة قضى بها على جميع الأُمم ، فلم يكن ارتقاء المعتزلة بلا سبب ، كما أنّه لم يكن ضعفهم بلا علّة. فيجب على الباحث المتأمِّل في ثنايا القضايا التّاريخية تحليل هذه الظاهرة تحليلاً علميّاً يوافق الأُصول المسلّمة في تحليل هذه المباحث.
    1 ـ البداية والنهاية: الجزء 12 ، ص 91.
    2 ـ المصدر نفسه: ص 98 و 105.
    3 ـ المصدر نفسه: ص 98 و 105.


(460)
    أقول: إنّ المعتزلة لم يسقطوا سياسيّاً فحسب ، بل سقطوا فكريّاً ، فلا تسمع بعد أبي هاشم الجبائي ( م 321هـ ) في القرن الرابع ، وبعد القاضي عبدالجبّار ( م 415هـ ) في القرن الخامس ، مفكّراً قويّاً في المسائل الكلاميّة ، يوازي المتقدّمين منهم مثل أبي هذيل العلاّف ، والنّظام. بل أكثر ما قام به المتأخّرون بعد القاضي لا يتجاوز عن تبيين المذهب و توضيح صياغته من دون تأسيس قاعدة أو أصل في المجالات الكلاميّة.
    والظّاهر أنّه لم يكن لسقوطهم سبب واحد ، بل يستند انحلالهم إلى أسباب متعدّدة أدّت بهم إلى الهلاك والدمار والانقراض إلاّ في نقاط خاصّة كاليمن و غيرها.
    وها إليك بيان الأُمور الّتي سبّبت سقوطهم:
    1 ـ إنّ مذهب السنّة بمفهومه الحقيقي ، يبتني على عدالة الصحابة أجمعين وإجلالهم ، بل على تعديل السلف من التّابعين وتابعي التّابعين في الأقوال والأفعال ، كيف وهؤلاء عند أهل السنّة عمد المذهب ، الّتي قام عليها صرحه. وجرح واحد من الصّحابة أو ترك قوله ، إخلال في الأساس ، وهو ما لا يقبله المذهب بتاتاً. فلأجل ذلك ترى أنّ أهل السنّة ، يقدِّسون السلف و يكسونهم حلية العدالة الّتي لا تقلُّ عن العصمة في حقِّ النّبي الأكرم والعترة الطاهرة ( عليهم السلام ) عندالشيعة. وما هذا إلاّ لأنّ المذهب مبنيّ على تلك الأُسس من أوّل يوم اجتمعوا فيه لاختيار خليفة للرّسول إلى يومنا هذا.
    فمع أنّ كثيراً من المفكِّرين منهم يتلون كتاب الله الصّريح في التنديد ببعض الصحابة ، و يقرأون الصحاح والمسانيد الصّريحة في ارتداد الكثير منهم بعد رحلة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويقلبون التاريخ ظهر المِجنّ ، فيشاهدون فيه موبقات بعض الصحابة وخداعهم و ضلالهم ، مع ذلك كلِّه لا ينبسون فيهم ببنت شفة و يحكِّمون الأصل على هذه المعارف الصحيحة. وهذه قاصمة للمذهب السنّي بالمعنى الحقيقي. هذا من جانب.
    ومن جانب آخر ، إنّ المعتزلة كانوا منتمين لأهل السنّة ، وفي الوقت نفسه كانوا
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثالث ::: فهرس