بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 91 ـ 100
(91)
لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المَسْجِدِ الحَرَامِ ) (1).
    إنّ صفة التمتّع بالعمرة إلى الحج عبارة عن الاحرام في أشهر الحج من احدى المواقيت ، ثم الدخول إلى مكّة للطواف بالبيت والصلاة بعده ، والسعي بين الصفا والمروة ثم التقصير وعندئذ يحلّ له كل ما كان محرماً عليه ، فيقيم على هذه الحالة حتّى ينشأ في تلك السنة احراماً آخر للحج ويخرج إلى عرفات ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ، إلى آخر الأعمال ، هذا هو التمتّع بالعمرة إلى الحج ، وانّما اُضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتع وقال سبحانه : ( فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إلى الحجّ ) لما فيه من المتعة واللذّة باباحة محرمات الاحرام في المدّة المتخلّلة بين الاحرامين من غير فرق بين محرَّم وآخرَ حتّى مسِّ النساء.
    هذا هو الذي شرّعه القرآن وخالفه بعض أصحاب السلطة ، روى مالك عن سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه عزّوجلّ ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحاك : فإنّ عمر قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وصنعناها معه (2).
    روى أحمد بن حنبل عن أبي موسى : انّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أميرالمؤمنين في النسك بعدك ، حتّى لقيه بعد فسأله ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : قد علمت أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا بهن معرسين في الاراك ثمّ يروحون بالحج
1 ـ البقرة / 196.
2 ـ موطأ مالك 235 باب ما جاء في التمتّع برقم 767.


(92)
تقطر رؤوسهم (1).
    وروى أيضاً عن طريق آخر عنه : انّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : هي سنّة رسول اللّه ـ يعني المتعة ـ ولكن أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك ، ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً (2).
    وقد استفاض القول عن الخليفة انّه قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما (3).
    قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء في أنّ التمتّع جائز وأنّ الإفراد جائز ، وأنّ القِران جائز لأنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) رضي كلاّ ولم ينكره في حجّته على أحد من أصحابه ، بل أجازه لهم ورضيه منهم ... احتجّ من فضّل التمتّع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ـ يعني متعة الحج ـ وأمرنا بها رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول اللّه حتّى مات ، قال رجل برأيه بعد ما شاء (4).

    4 ـ اسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بعد وفاة الرسول :
    ورد النص في الذكر الحكيم على أنّ لذي القربى سهم من الخمس قال سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُم مِن شَىْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَللرَّسُولِ وَلِذِى
1 ـ مسند أحمد 1 / 49 ـ 50.
2 ـ مسند أحمد 1 / 49 ـ 50.
3 ـ تفسير الامام الرازي 5 / 167 وفسّر الآية بالتمتّع بمحظورات الاحرام ، وشرح التجريد للمحقّق القوشجي ( وهو من أئمة الأشاعرة ) : وقد عدّه من اجتهاد الخليفة. نعم هو من اجتهاده مقابل النص.
4 ـ الجامع لأحكام القرآن 2 / 388.


(93)
القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُم آمَنْتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ) (1). وقد أجمع أهل القبلة على أنّ الرسول كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أقاربه بسهم آخر. وأنّه لم يعهد تغيير ذلك حتّى دعاه اللّه إليه. غير أنّ أصحاب السلطة بعد الرسول أسقطوا سهم بني هاشم من الخمس ، وجعلوهم كغيرهم من يتامى النساء و مساكينهم وأبناء السبيل منهم ، وقد عرفت في المخالفة الثالثة أنّ فاطمة ـ عليها السلام ـ طلبت من أبي بكر ما بقى من خمس خيبر.
    ويشهد بذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس أنّه كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذي القربى ، وعن اليتيم متى ينقضي يتمه ، وعن المرأة والعبد يشهدان الغنيمة ، وعن قتل أطفال المشركين ، فكتب إليه ابن عباس : انّك كتبت اليّ تسأل عن سهم ذي القربى لمن هو ؟ وانّا كنّا نراها لقرابة رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فأبى ذلك علينا قومنا. وعن اليتيم متى ينقضي يتمه ؟ قال : إذا احتلم ... (2).
    هذا وقد نقل القرطبي أقوالاً في كيفيّة تقسيم الخمس ، وهي بين من يأخذ بنص الآية ويجعل سهماً لذي القربى ومن يجتهد أمام النص. ونقلها صاحب المنار في تفسيره (3).

    5 ـ قطع سهم المؤلّفة قلوبهم :
    قال سبحانه : ( إِنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرآءِ وَالمَسَاكِينِ والعَامِلينَ عَلَيْهَا
1 ـ الأنفال / 41.
2 ـ مسند أحمد 1 / 248.
3 ـ تفسير القرطبي 8 / 10 ، المنار 10 / 17 ـ 18.


(94)
والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالغَارِمينَ وَفِى سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلَيمٌ حَكِيمٌ ) (1) ، الآية صريحة في أنّ لكلّ واحد من الأصناف المذكورة سهم ودلّت كتب السيرة والفقه على أنّ الرسول يعطي سهم المؤلّفة قلوبهم ، فيؤلّف بذلك قلوبهم ، وهذه سيرته المستمرّة معهم ، لكن لمّا ولّي ابوبكر جاء المؤلّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم جرياً على عادتهم مع رسول اللّه فكتب أبوبكر لهم بذلك ، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطّه عليه فمزّقه وقال : لا حاجة لنا بكم ، فقد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم ، فإن أسلمتم وإلاّ فالسيف بيننا وبينكم ، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا له : أنت الخليفة أم هو ؟ فقال : بل هو إن شاء اللّه تعالى ، وأمضى ما فعله عمر (2).
    فاستمرّ الأمر على ذلك بعدهم ، وأقصى ما عند المحقّقين من تبرير عمل الخليفة ما ذكره الدواليبي في كتابه اُصول الفقه وقال : ولعلّ اجتهاد عمر ـ رضي اللّه عنه ـ في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلّفة قلوبهم كان في مقدّمة الأحكام الّتي قال بها عمر تبعاً لتغيير المصلحة بتغير الأزمان رغم أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غير منسوخ (3).
    وما ذكره الاُستاذ يعارض ذيله صدره ، فما معنى أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غيرمنسوخ ، فإذا كان غير منسوخ فما معنى الاجتهاد في مقابل النص ، لأنّ معنى ذلك ابطال القرآن في فترة خاصة ، ولو صحّ لأصحاب السلطة هذا النمط من العمل لما بقي من الإسلام أثر ، فالنص لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا تتقيّد اطلاقاته ولا عموماته بالمصالح المرسلة.
1 ـ التوبة / 60.
2 ـ الجوهرة النيرة 1 / 164 وهي في الفقه الحنفي ونقله في المنار 10 / 576.
3 ـ اُصول الفقه للدواليبي : 239.


(95)
    نعم يجوز على القول بعدم لزوم الاستيعاب في تقسيم الزكاة ، دفعها إلى صنف دون صنف ، لكنّه إنّما يجوز مؤقّتاً لا دائماً ، غير أنّ الخليفة قام بقطع سهم المؤلّفة قلوبهم من رأس ، وهذا هو الذي فهمه أبو حنيفة ، والشافعي (1) بحجّة أنّ اللّه أعزّ الإسلام وهو اجتهاد من عمر بأنّه ليس من المصلحة استمرار هذا الأمر. ولا نريد من الاجتهاد في مقابل النص إلاّ هذا.
    هذه نماذج خمسة من مخالفتهم للنصوص والعمل وفق اجتهادات ذوقية ، غير أنّ أصحاب السلطة قدّموها على النصوص بقوة وحماس ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النصوص كانت أداة طيّعة للتغيير حسب الأهواء والميول الشخصية سواء أكانوا مقصّرين في هذا التأويل أم قاصرين.
    والهدف ايقاف القارىء على أنّ مخالفة النصوص لأصحاب النفوذ لم يكن أمراً عسيراً أو شيئاً نادراً.
    وبذلك تبيّن أنّ إعراضهم عن أدلّة تنصيب الإمام للخلافة ، لم يكن أمراً عجيباً ، وذلك لجريان سيرة الصحابة على تقديم المصالح المزعومة على النصوص وبذلك يقطع العذر على من زعم أنّه لو كان في مسألة الخلافة وامامة الامام أميرالمؤمنين ، نصّ ، لما خالفه الصحابة العدول وتلقّوه بالقبول. فيقال أوما أمرهم النبيّ ، بإحضار القلم والدواة ، فحالوا بينه وبين منيته ، أو ماحثهم على تجهيز جيش اُسامة ولعن المتخلّفين عنه ، ولكنّهم اثّاقلوا إلى الأرض أو ما .. أوما ...
    وهناك كلمة لابن ابي الحديد ، وهو يقارن بين سياستي علي ،وعمر و سياستي علي ومعاوية وإليك نصّه.
    اعلم انّ السائس لا يتمكّن من السياسة البالغة إلاّ إذا كان يعمل برأيه ، وبما يرى
1 ـ المنار 10 / 576.

(96)
فيه صلاح ملكه وتمهيد أمره وتوطيد قاعدته ، سواء أوافق الشريعة أم لم يوافقها ، ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه ، وإلاّ فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله.
    وأميرالمؤمنين ( عليهم السلام ) كان مقيّداً بقيود الشريعة ، مدفوعاً إلى اتّباعها ، ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير ، إذا لم يكن للشرع موافقا ، فلم تكن قاعدته في خلافته ، قاعدة غيره ممّن لم يلتزم بذلك ولسنا بهذا القول ضارّين على عمر بن الخطاب ولا ناسبين إليه ما هو منزّه عنه ، ولكنّه كان مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء وبالاستنباط ، من اُصول ، تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النص ، ويكيد خصمه ، ويأمر اُمراءه بالكيد والحيلة ، ويؤدّب بالدرّة والسوط من يغلب على ظنّه أنّه يستوجب ذلك ، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقّون به التأديب. كل ذلك بقوّة اجتهاده وما يؤدّيه إليه نظره. ولم يكن أميرالمؤمنين ( عليهم السلام ) يرى ذلك ، وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعدّاها إلى الاجتهاد والأقيسة ، ويطبّق اُمور الدنيا على الدين ويسوق الكل مساقاً واحدا ، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة (1).
    وقال الجاحظ : وربّما رايت بعض من يظن بنفسه العقل والتحسين والفهم والتمييز ، وهو من العامة وهو يظن أنّه من الخاصة يزعم أنّ معاوية كان أبعد غوراً ، وأصحّ فكراً ، وأجود رؤية وأبعد غاية ، وأدق مسلكاً ، وليس الأمر كذلك ، وسأومي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه ، والمكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله.
1 ـ شرح نهج البلاغة 10 / 572.

(97)
    كان علي ( عليهم السلام ) لا يستعمل في حربه ، إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة ، كما يستعمل الكتاب والسنّة (1).
    وفي حياة الخليفة عشرات الشواهد على اجتهاده تجاه النص ، وأي اجتهاد تجاهه أظهر وأولى من منع تدوين الحديث وكتابته الذي هو المصدر الثاني الرئيسي للمسلمين بعد الذكر الحكيم ، وقد بلغت السنّة من الكمال مكانة حتّى صار لفظ السنّي شعاراً لجمهور المسلمين.
    ولعلّ في قوله سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بِيْنَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ) (2). إشارة إلى بعض هذه الاُمور ، ومعنى الآية : لا تقولوا حتّى يقول ، ولا تأمروا حتّى يأمر ، ولا تفتوا حتّى يفتي ، ولا تقطعوا أمراً حتّى يقطع ، بالتالي : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة فانّه تقدُّم على اللّه و رسوله.
    فإذا كان هذا حال الخليفة وعمله طيلة حياته ، فلا عجب أن يجتهد أمام نصوص الولاية والخلافة ويسدل عليها الستار ، ولا يلتفت إليها ويندفع إلى تتبع مظان المصالح المزعومة في مجال الخلافة بعد عصر الرسول ، وفي ما ذكرنا من مظان الاجتهاد أمام النص كفاية لطالب الحق.
1 ـ شرح نهج البلاغة 10 / 578 ، نقلا عن أبي عثمان الجاحظ.
2 ـ الحجرات / 1.


(98)

(99)
الفصل الخامس
مبدأ التشيّع و تاريخ تكوّنه

بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس