بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 141 ـ 150
(141)
    الافتراض الثالث :
التشيع فارسي المبدأ أو الصبغة
    وهناك فرضية ثالثة اخترعها المستشرقون لتكوّن مذهب الشيعة في المجتمع الاسلامي ، وهؤلاء كالباحثين السابقين اعتقدوا أنّ التشيّع ظاهرة حدثت بعد النبي الأكرم ، فأخذوا يفتِّشون عن علّتها وسبب حدوثها حتّى انتهوا إلى أنّ التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة ، والترديد بين الأمرين لأجل أنّ لهم في المقام رأيين.
    1 ـ انّ التشيع من مخترعات الفرس ، اخترعوه لأغراض سياسية ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس ، ولكنّهم لمّا أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصة.
    2 ـ انّ التشيع عربي المبدأ ، وإنّ لفيفاً من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام ولمّا أسلموا اعتنقوه وصبغوه صبغه فارسية لم يكن له ذلك من قبل.
    وهذان الرأيان هما اللذان عبّرنا عنهما في العنوان بما عرفت ، وإليك التفصيل.

    أمّا الاُولى : فقد اخترعها المستشرق دوزي وحاصله أنّ للمذهب الشيعي نزعة فارسية لأنّ العرب كانت تدين بالحرية ، والفرس تدين بالملك ، والوراثة ،


(142)
ولا يعرفون معنى الانتخاب ، ولمّا انتقل النبيّ إلى دار البقاء ولم يترك ولدا ، قالوا علي أولى بالخلافة من بعده.
    وحاصله : انّ الإنسجام الفكري بين الفرس والشيعة أعني كون الخلافة أمراً وراثيا ، دليل على أنّ التشيّع وليد الفرس.
    يلاحظ عليه :
    أولاً : انّ التشيّع حسب ما عرفت ظهر في عصر النبي الأكرم وهو الذي سمّى أتباع علي بالشيعة ، وكانوا متواجدين في عصر النبي وبعده ، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس سوى سلمان ، في الإسلام.
    إنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي كانوا كلّهم عرباً ولم يكن بينهم أي فارسي سوى سلمان المحمدي ، وكلّهم يتبنّون فكرة التشيّع.
    وكان لأبي الحسن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) أيام خلافته ثلاثة حروب ، حرب الجمل ، وصفين ، والنهروان. وكان جيشه كلّه عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية ، فقد انضمّ إلى جيشه زرافات من قريش والاُوس والخزرج ، ومن قبائل مذحج ، وهمدان ، وطي ، وكندة ، وتميم ، ومضر ، وكان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمار بن ياسر ، وهاشم المرقال ، مالك الأشتر ، صعصعة بن صوحان وأخوه زيد ، قيس بن سعد بن عبادة ، عبداللّه بن عباس ، محمّد بن أبي بكر ، حجر بن عدي ، عدي بن حاتم ، وأضرابهم ، وبهذا الجند وباُولئك الزعماء فتح أميرالمؤمنين البصرة وحارب القاسطين معاوية وجنوده يوم صفين ، وبهم قضى على المارقين.
    فأين الفرس في ذلك الجيش واُولئك القواد كي نحتمل أنّهم كانوا الحجر الأساس للتشيّع. ثمّ لم يعتنق الفرس التشيّع دون غيرهم ، بل اعتنقه الأتراك والهنود وغيرهم من غير العرب.


(143)
    شهادة المستشرقين على انّ التشيّع عربي المبدأ :
    إنّ لفيفاً من المستشرقين وغيرهم صرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس وإليك نصوصهم :
    1 ـ قال الدكتور أحمد أمين : إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع لقدمه على دخول الفرس في الإسلام وقال : والذي أرى كما يدلّنا التاريخ أنّ التشيّع لعلي بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام ولكن بمعنى ساذج ، ولكن هذا التشيّع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الاُخرى في الإسلام وحيث انّ أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس فلهم أكبر الأثر في التشيّع (1) وسيوافيك الكلام ما في ذيل كلامه من أنّ التشيّع أخذ صبغة جديدة بعد فترة من حدوثه.
    2 ـ قال المستشرق : « فلهوزن » : كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة ولم يقتصر هذا على الأفراد ، بل شمل القبائل ورؤساء العرب (2).
    3 ـ وقال المستشرق جولد تسيهر : « إنّ من الخطأ القول بانّ التشيّع في منشئه ومراحل نموه يمثّل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الاُمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته ، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية ، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية ، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة (3).
    4 ـ يقول المستشرق آدم متز : إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها
1 ـ فجر الإسلام 176.
2 ـ الخوارج والشيعة 241 ـ 148.
3 ـ العقيدة والشريعة 204.


(144)
عدا المدن الكبرى ، مثل مكة وتهامة وصنعاء وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً مثل عمان ، وهجر وصعدة ، أمّا إيران فكانت كلّها سنّة ، ما عدا قم وكان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعض أهلها أنّه نبيّ مرسل (1).
    هذه الكلمات من هؤلاء الذين يفقدون الاخلاص غالباً في قضائهم ، أوضح شاهد على أنّهم لم يجدوا لهذه النظرية أي مصدر صحيح.
    5 ـ يقول الشيخ أبو زهرة : إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب وليس التشيع مخلوقاً لهم ، ويضيف : وأمّا فارس وخراسان وماوراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً ، ثم العباسيين ثانياً وأنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها (2).
    6 ـ قال السيد الأمين : إنّ الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلاّ القليل وجلّ علماء السنّة وأجلاّؤهم من الفرس ، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية (3).
    وثانياً : انّ التاريخ يدلّنا إلى أنّ الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا ، بالصبغة السنّية ، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه ويقول :
    كان ابرويز وجّه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف ، وكانوا خدمه وخاصته ، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده ، وشهدوا القادسية مع رستم ، ولمّا قتل وانهزم
1 ـ آدم متز : الحضارة الإسلامية 102.
2 ـ الامام جعفر الصادق 545.
3 ـ أعيان الشيعة 1 / 33 ط الخامسة.


(145)
المجوس اعتزلوا ، وقالوا : ما نحن كهؤلاء ولا لنا ملجأ ، وأثرنا عندهم غير جميل ، والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم ، فاعتزلوا فقال سعد : ما لهؤلاء ، فأتاهم المغيرة ابن شعبة فسألهم عن أمرهم ، فأخبروه بخبرهم ، وقالوا : ندخل في دينكم ، فرجع إلى سعد فأخبره فأمنهم ، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد ، وشهدوا فتح جلولاء ، ثم تحولوا ، فنزلوا الكوفة مع المسلمين (1).
    لم يكن اسلامهم يوم ذاك ، إلاّ كاسلام سائر الشعوب ، فهل يمكن أن يقال : انّ اسلامهم يوم ذاك كان اسلاماً شيعياً.
    وثالثاً : إنّ الإسلام كان يمشي بين الفرس بالمعنى الذي كان يمشي في سائر الشعوب ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع إلى أن انتقل قسم من الأشعريين الشيعة إلى قم وكاشان ، فبذروا بذرة التشيّع وكان ذلك في أواخر القرن الأول مع أنّ الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني أي من سنة 17 وهذا يعني أنّه قد انقضى عشرات الأعوام ولم يكن عندهم أثر من التشيّع. هذا هو ياقوت الحموي يحدّثنا في معجم البلدان ويقول :
    « قم ، مدينة تذكر مع قاشان ، وهي مدينة مستحدثة اسلامية لا أثر للأعاجم فيها ، وأوّل من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري ، وكان بدو تمصيرها في أيام الحجاج بن يوسف سنة 83 ، وذلك نّ عبدالرحمان بن محمد بن الأشعث بن قيس ، كان أمير سجستان من جهه الحجاج ، ثم خرج عليه وكان في عسكره سبعة عشر نفساً من علماة التابعين من العراقيين ، فلمّا انهزم ابن الاشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في جملته إخوة يقال لهم عبداللّه ، والأحوص ، وعبدالرحمان ، وإسحاق ، ونُعَيم ، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري ، وقعوا إلى ناحية قم ، وكان هناك سبع قرى
1 ـ البلاذري : فتوح البلدان 279.

(146)
اسم احداها « كمندان » فنزل هؤلاء الاخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها واستولّوا عليها ، وانتقلوا إليها واستوطنوها ، واجتمع عليهم بنوعمّهم وصارت السبع قرى ، سبع محال بها ، وسميت باسم احداها ، « كمندان » فأسقطوا بعض حروفها ، فسميت بتعريبهم قماً وكان متقدم هؤلاء الاخوة عبد اللّه بن سعد ، وكان له والد قد ربى بالكوفة ، فانتقل منها إلى قم ، وكان إمامياً فهو الذي نقل التشيّع إلى أهلها ، فلا يوجد بها سنّي قط » (1).
    هذا كله راجع إلى تحليل النظرية من منظار التاريخ ، وأمّا دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت فانّ الفرس وإن كانوا لا يعرفون معنى الإنتخاب والحرية ، ولكن كانت العرب أيضاً مثلهم ، فانّ العربي الذي كان يعيش في البادية عيشة فردية كان يحب الحرية ويمارسها ، وأمّا العربي الذي يعيش عيشة قبلية ، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام اُمورهم وشؤونهم ، فما معنى الحرية بعد هذا ، وإذا مات شيخ القبيلة ، يقوم أبناؤه وأولاده مكانه واحداً بعد الآخر.

    تحليل النظرية الثانية :
    إنّ هذه النظرية وإن كانت تتعرف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام وهذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت ولفيف من المستشرقين كـ « فلهاوزن » ، يقول الثاني إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الايرانيين ، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الايرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه ، بل الروايات التاريخية تقول
1 ـ معجم البلدان 4 / 396 ، مادة قم ، ويقول في مراصد الاطلاع بأنّ أهل قم وكاشان كلهم شيعة إمامية ولاحظ رجال النجاشي ترجمة الرواة الأشعريين فيه.

(147)
بعكس ذلك ، إذ تقول انّ التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الأوساط العربية ، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي ، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الأوساط.
    ولكن لمّا ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القومية العربية ، وكانت حلقة الإرتباط هي الإسلام ولكنّه لم يكن ذلك الإسلام القديم ، بل نوعاً جديداً من الدين (1).
    أقول : إنّ مراده أنّ التشيّع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحب والولاء لعلي لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر وهو كون الخلافة أمراً وراثياً في بيت علي ( عليهم السلام ) هذا هو الذي يصرح به الدكتور أحمد أمين ويقول : إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع ، والمقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمراً وراثياً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.
    يلاحظ عليه : أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثياً لم يكن من خصائص الفرس ، بل وراثية الحكم كان سائداً في جميع المجتمعات ، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثه ، والحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثياً ، والمناصب المعروفة لدى قريش من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة كانت اُموراً وراثية حتّى أنّ النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يغيّرها بل أنّه أمضاها ومن هنا نرى أنّه قد دفع مفاتيح البيت لبني شيبة لمّا كانت السدانة منصباً لهم أيام الجاهلية ، فتخصيص الفرس بالوراثة وغمض العين عن غيرهم أمر عجيب ، فعلى ذلك يجب أن نقول ، انّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسية وغسانية وحميرية وأخيراً عربية ، فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامة عالمية ؟!
1 ـ الخوارج والشيعة 169.

(148)
    إنّ النبوة والوصاية من الاُمور الوراثية في الشرائع السماوية ، لا بمعنى أنّ الوراثة هي الملاك المعيّن بل بمعنى أنّه سبحانه جعل نور النبوة والامامة في بيوتات خاصة ، فكان يتوارث نبي نبيّاً ، ووصي وصيّاً ، يقول سبحانه :
( وَلَقَدْ أَرْسَلنَا نُوحاً وإبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِما النُّبُوَّةَ والكِتابَ ) (1). ( وإِذِ ابْتَلَى إِبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنالُ عَهْدِى الظّالِمينَ ) (2). ( أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبراهيمَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وآتَيناهُم مُلْكاً عَظِيماً ) (3).
    فلماذا لا يكون سبب تشيّع الفرس مفاد هذه الآيات والروايات التي تصرّح بأنّ الوصاية بين الأنبياء كانت أمراً وراثياً ؟ وانّ هذه سنّة اللّه في الاُمم كما هو ظاهر قوله سبحانه ( لا ينال عهدى الظالمين ) فسمّى الامامة عهد اللّه لا عهد الناس.
    ثمّ إنّ من زعم أنّ التشيّع من صنع الفرس مبدأً وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس وذلك لأنّ التسنّن كان هو السائد عليهم إلى أوائل القرن العاشر حتّى غلب عليهم التشيّع في عصر الصفويين ، نعم كانت الري وقم وكاشان معقل التشيّع ومع ذلك يقول أبو زهرة : إنّ أكثر أهل الفارس إلى الأن من الشيعة وأنّ الشيعة ، الأولين كانوا من أهل فارس (4).
    أمّا غلبة التشيّع عليهم في الآونة الأخيرة فلا ينكره أحد ، إنّما الكلام كونهم
1 ـ الحديد / 26.
2 ـ البقرة / 124.
3 ـ النساء / 54.
4 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 41 ط دار الفكر العربي.


(149)
كذلك في بداية دخولهم إلى الإسلام ، وكأنّ الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران ، وها نحن ننقل كلام « أحسن التقاسيم » لتقف على أنّ المذهب السائد في ذلك القرن ، هل كان هو التشيّع أم التسنّن يقول :
    « اقليم خراسان للمعتزلة والشيعة ، والغلبة لأصحاب أبي حنيفة إلاّ في كورة الشاش فانّهم شوافع وفيهم قوم على مذهب عبداللّه السرخسي ، واقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلاّ أنّ أهل الحديث حنابلة والغالب بدبيل ـ لعلّه يريد أردبيل ـ مذهب أبي حنيفة وبالجبال ، أمّا بالري فمذاهبهم مختلفة ، والغلبة فيهم للحنفية ، وبالري حنابلة كثيرة ، وأهل قم شيعة والدينور غلبه مذهب سفيان الثوري ، واقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة ، أكثر أهل الأهواز ورامهرمز والدورق حنابلة ، ونصف أهل الأهواز شيعة ، وفيه من أصحاب أبي حنيفة كثير ، وبالأهواز مالكيون ، اقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث وأصحاب أبي حنيفة ، اقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي ، اقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب الحديث ، وأهل الملتان شيعة يهيعلون في الأذان ـ أي يقولون : حي على خير العمل ـ ويثنون في الاقامة ـ أي يقولون : اللّه أكبر مرتين ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه مرتين أيضاً وهكذا ـ ولا تخلوا القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة (1).
    ذكر ابن بطوطة « كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الامامية يسمّى جمال الدين بن مطهر ـ يعني العلامة الحلي ( 648 ـ 726 ) ـ فلمّا أسلم السلطان المذكور وأسلمت باسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه فزيّن له مذاهب الروافض وفضله على غيره ... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وآذربايجان واصفهان وكرمان
1 ـ أحسن التقاسيم لشمس الدين محمّد بن أحمد المقدسي / 119 ( ألفه عام 375 ).

(150)
وخراسان وبعث الرسل إلى البلاد ، فكان أوّل بلاد وصل إليها الأمر بغداد وشيراز واصفهان ، فأمّا أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الازج يقولون لاسمعاً ولا طاعة ، وجاءوا للجامع وهدّدوا الخطيب بالقتل إن غيّر الخطبة وهكذا فعل أهل شيراز وأهل اصفهان (1).
    وقال القاضي عياض في مقدمة ـ ترتيب المدارك ـ وهو يحكي انتشار مذهب مالك : وأمّا خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولاً بيحيى بن يحيى التميمي ، وعبداللّه بن المبارك ، وقتيبة بن سعيد ، فكان له هناك أئمة على مر الأزمان ، وتفشّى بقزوين وماولاها من بلاد الجبل. وكان آخر من درس منه بنيسابور أبو إسحاق بن القطان وغلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة والشافعي (2).
    قال « بروكلمان » : إنّ شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على « الوند » توجّه نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أنّ ثلثي سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف ، من السنّة (3).
    هذه النصوص تعطينا أنّ السنّة كانت هي المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس ، فكيف يمكن أن يقال : إنّ بلاد فارس كانت هي الموطن الأصلي للتشيّع.
    هذا هو ابن الأثير يؤكّد على أنّ أهل طوس كانوا سنَّة إلى عصر محمود بن سبكتكين ، قال : إنّ محمود بن سبكتكين جدّد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر
1 ـ رحلة ابن بطوطة 219 ـ 220.
2 ـ ترتيب المدارك 1 / 53.
3 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 140.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس