بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 161 ـ 170
(161)
    الافتراض السابع :
الشيعة والمغول
    لمّا اُقصي آل بويه عن الحكم في العراق وإيران ، لم تقم للشيعة دولة قويّة ذات حول وطول بعدهم ، وعاد الضغط على أتباع أهل البيت إلى أن استولى « هولاكو » على ايران وقضى على الخلافة العباسيّة عام ( 665 ) فأعطى الحرية للمذاهب ومنها مذهب أهل البيت وعلى ذلك نهج أولاده ، ثمّ أسلم من ملوك المغول أربعة ثالثهم محمّد خدابنده ، ورابعهم سعيد بن محمد خدابنده. فأمّا الأوّل منهما فقد كان حنيفاً ولمّا وفد عليه نظام الدين عبد الملك الشافعي جعله قاضي القضاة في المملكة وكان يناظر الحنيفة في محضر السلطان فيفحمهم ، ولمّا ظهرت له الغلبة حسن للسطان المذهب الشافعي فعدل إليه ، ولمّا كثرت المناظرات بين نظام الدين وعلماء الحنيفة ، وكان ينسب كل منهم إلى مذهب الآخر ما لا تستحسنه العقول ، ظهر عليه الملل والضجر ، وقد ورد إليه في هذه الآونة السيد تاج الاوي مع جماعة من الشيعة وقعت بينه وبين نظام الدين محاضرات بمحضره ، ثم بعد آونة حضر عنده العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بمناسبة خاصّة يذكرها التاريخ ، فأمر قاضي القضاة بمناظرته ، وأعدّ لهم مجلساً حافلاً للعلماء وأهل الفضل ، فوقعت المناظرة بينهم في المسائل العقائدية والفقهية ، فظهرت غلبة العالم الشيعي ، فأظهر السلطان


(162)
التشيّع من احينه ، وصارت تلك المناظرة سبباً لأنتشار التشيّع (1) وقد استنشقت الشيعة في عصر المغوليين على وجه الاطلاق عطر الحرية ونسيمها ، فازدحمت المراكز العلمية بعلمائهم ومفكّريهم ، كنصير الدين الطوسي والمحقّق الحلّي. وازدهرت بيوتات الشيعة كبيت آل طاووس وآل سعيد وغيرهما. وقد كان للشيعة كيان ونشاط في عصرهم أعادوا مجدهم في عصر البويهيين.
1 ـ لاحظ منتخب التواريخ لمعين الدين النطزي المؤلف عام 816 ـ 817 طبع عام 1336.
(163)
    الإفتراض الثامن :
الشيعة والصفوية
    والكلام في هذه الأسرة هو الكلام في البويهيين والمغوليين.
    إنّ الصفويين اُسرة الشيخ صفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفّى عام ( 735 ) ولمّا انقرضت دولة المغول ، انقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة شيعية وغير شيعية إلى أن قام أحد أحفاد صفي الدين ، الشاه إسماعيل عام ( 905 ) واستلم مقاليد الحكم وسيطر على بلاد فارس والطرق ، واستمرّ في الحكم إلى عام ( 930 ) ، ثمّ ورثه أولاده إلى أن اُقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على ايران عام ( 1135 ) فكان الصفويون خير الملوك لقلّة شرورهم وكثرة بركاتهم ، وقد راج العلم والأدب والفنون المعمارية أثناء حكمهم ، ولهم آثار خالدة إلى الآن في ايران والعراق ، ومن وقف على أحوالهم ووقف على تاريخ الشيعة يقف على أنّ عصرهم كان عصر ازدهار التشيّع لا تكوّنه.
    هذه هي الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة ومبدأ تكوّنهم ، وكلّها كانت اُموراً افتراضية بنوها على أساس خاطئ وهو أنّ الشيعة ظاهرة طارئة على المجمتع الاسلامي بعد عهد النبي ، سامحهم الله وغفر الله لنا ولهم.


(164)
    زلّة لاتستقال :
    إنّ الدكتور عبد اللّه فياض زعم أنّ التشيع بمعنى موالاة علي نضج في مراحل ثلاث :
    1 ـ التشيّع الروحي ، يقول : إنّ التشيّع لعلي بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي وتمّت قبل تولّيه الخلافة ، ثم ساق الأدلّة على ذلك وجاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة وأحاديث الغدير وما قال النبي في حق علي من التسليم على علي بإمرة المؤمنين.
    2 ـ التشيّع السياسي ، ويريد من التشيّع السياسي ، كون علي أحق بالإمامة لا لأجل بل لأجل مناقبة وفضائله ، ويقول : إنّ التشيّع السياسي ظهرت بوادره ـ دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية ( يريد النص ) ـ في سقيفة بني ساعدة ، حين أسنَدَ حقَ علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير ، والعباس ، وغيرهما ، وبلغ التشيّع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان.
    3 ـ ظهوره بصورة فرقة ، فإنّما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة ( 61 ) ولم يظهر التشيّع قبل ذلك بصورة فرقه دينية تعرف بالشيعة. ثمّ استشهد بكلام المقدسي حيث قال : إنّ أصل مذاهب المسلمين كلّها منشعبة من أربع : الشيعة ، والخوارج ، والمرجئة ، والمعتزلة. وأصل افتراقهم قتل عثمان ، ثمّ تشعّبوا (1) وأيّد نظريته بما ذكره المستشرق « فلهوزن » قال : تمكّن الشيعة أوّلاً في العراق ولم يكونوا في الأصل فرقة دينية ، بل تعبيراً عن الرأي السياسي في هذا الاقليم كلّه ، فكان جميع سكان العراق خصوصاً أهل الكوفة شيعة علي على تفاوت بينهم (2).
1 ـ أحسن التقاسيم 38 طبع ليدن 1906.
2 ـ تاريخ الإمامية 38 ـ 47.

(165)
    يلاحظ عليه ، أوّلاً : انّ التفكيك بين المرحلتين الأوليتين وانّ الاُولى منهما كانت في عصر النبي وظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبي قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال : كان روّاد التشيّع الروحي يلتزمون بآراء علي الفقهية إلى جانب الالتزام باسناده سياسياً (1).
    و ثانياً : إنّ ما ذكره من النصوص في مجال التشيّع الروحي كما يدّل على أنّ عليّاً القائد الروحي ، يدل بوضوح على أنّه القائد السياسي ، وقد نقل الكاتب جل النصوص ، فمعنى التفكيك بينهما هو أنّ الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها وتركوا بعضها ، ولو صحّ اسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح اسناده إلى سلمان ، وأبي ذر ، وعمّار ، الذين لا يتركون الحق وإن بلغ الأمر ما بلغ.
    و بما أنّ النبي كان هو القائد المحنَّك للمسلمين لم تكن هناك حاجة لظهور التشيّع السياسي في حياته ، بل كان المجال واسعاً لظهور التشيّع الروحي ورجوع الناس إلى علي في القضايا والأحكام الفقهية ، وهذا لا يعني عدم كونه قائداً سياسياً وانّ وصايا النبي لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.
    و ثالثاً : إنّ التشيّع السياسي ظهر في أيّام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية ، فانّ الطبري وغيره وإن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير والعباس إلى علي ، ولكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.
    روى الصدوق عن زيد بن وهب انّه قال : كان الذين أنكروا على أبي بكر في تقدّمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، فمن المهاجرين خالد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، واُبيّ بن كعب
1 ـ تاريخ الإمامية 45.
(166)
و عمّار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، ومن الأنصار زيد بن ثابت ، وذو الشهادتين ، وابن حنيف وأبو أيّوب الأنصاري ، وأبو الهيثم بن التيهان. وبعدما صعد أبابكر على المنبر قال خالد ابن سعيد : يا أبابكر اتّق الله ... ثم استدلّ على تقدم علي بما ذكره النبي فقال : معاشر المهاجرين والأنصار ، اُوصيكم بوصية فاحفظوها ، وانّي مؤدّ اليكم أمراً فاقبلوه على أنّ عليّاً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم ـ إلى آخر ما ذكره ـ ثمّ قام أبوذر وقال : يا معاشر المهاجرين والأنصار ... طرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما أوعز إليكم ، ثمّ ذكر مناشدة كل منهم مستندين في حجاجهم على أبي بكر بالأحاديث التي سمعوها من النبي الأكرم (1) وهذا يعرب أنّ التشيّع السياسي ـ الذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال ـ بعد الرحلة ، كان مستفاداً من نصوص النبي ـ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ـ.
    رابعاّ : ماذا يريد من الفرقة وانّ الشيعة تكوّنت بصورة فرقة بعد مقتل الامام الحسين فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتنى على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاُخرى ، فهذا لم يكن منه أثراً إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة ، ولم يكن يومذاك أيّة مسألة كلامية مطروحة حتى تأخذ شيعة علي بجانب والآخرون بجانب آخر ، بل كان المسلون متسالمين في العقائد والأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول ، ولم يكن يومذاك أيّ اختلاف إلا مسألة القيادة فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.
    و إن أراد من الفرقة الجماعة المتبنّية ولاية علي روحيّاً وسياسياً وانّه أحق بالقيادة على جميع الموازين ، فكانت موجودة في يوم السقيفة وبعدها.
1 ـ الخصال 461 طبع مكتبة الصدوق لاحظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لاثبات الخلافة للامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
(167)
    نعم إنّ احتكاك المسلمين مع ألأجانب واستيراد آرائهم وعقائدهم في المسائل الكلاميةو الدينية أوجد فروعاً كلامية ، وبما أنّ الشيعة حسب حديث الثقلين رجعوا إلى أئمّة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعّبة الأفنان ، ضاربة جذورها في الكتاب والسنّة والعقل.
    الآن حصحص الحق وأسفر الصبح لذي عينين فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام ، وإنّما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي بعد رحلة النبي بتنصيصه. وتبنّاه منذ بعثة النبي الأكرم لفائف من الصحابة والتابعين وامتدّ حسب الأجيال والقرون وظهر بفضل التمسّك بالثقلين علماء مجاهدون ، وشعراء مجاهرون ، وعباقرة في الحديث ، والفقه والتفسير والفلسفة والكلام واللغة والأدب ، وشاركوا جميع السملين في بناء الحضارة الاسلامية بجوانبها المختلفة ، يتّفقون مع جميع الفرق في أكثر الاُصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. وسيوافيك تفصيل عقائدهم في الفصل العاشر باذن اللّه.
    و بذلك يظهر وهن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أنّ التشيّع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبي وباعتباره حزباً سياسياً قد حدث بعد قتل عليّ (1).
    هذه الفروض الوهمية تبتنى على أساس باطل وهو أنّ التشيّع بجميع أو بعض أبعاده أمر طارىء على الاسلام والاُمّة ، فراحوا يتبنّون الفروض الذهنيّة.
1 ـ لاحظ الصلة بين التصوّف والتشيّع 18.

(168)

(169)
    الفصل السابع
صيغة الحكومة عند أهل السنّة


(170)
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس