بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 171 ـ 180
(171)
    قد تعرّفت على صيغة الحكومة عند الشيعة ، وحان البحث عن صيغتها لدى أهل السنّة ، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه ، في أمرين :
    الأوّل : فيما يتعلّق بجوهرها وصلبها وأساسها ، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية ، واستمرار لوظائف النبوّة كلّها ، سوى تلقّي الوحي الإلهي ، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبيّ لأنّ النبوّة اُوصدت وختمت بالرسول ... فلا نبيّ ولا رسول بعده ، ولكن الوظائف كلّها مستمرّة فلأجل ذلك يجب أن يكون الامام قائماً بوظائفه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) المعنوية والمادية والعلمية والاجتماعية ، ويسد الفراغات الحاصلة بوفاته ، وقد عرفت قسماً منها ، وكان الامام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، لكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلا لعلي بعد حرمانه من حقّه سنين متمادية ، فلمّا استتبّت له الاُمور قام بنفس وظائف النبيّ ، من غير فرق بين الأجتماعية منها والعلمية ، وسد الفراغات الهائلة.
    و لكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم اُمور الاُمّة من تدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وردع الظالم ، والأخذ للمظلوم ، وقسمة الفيء بين


(172)
المسلمين ، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم (1).
    و لأجل اختصاص وظائف الامام بهذه الاُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة ، ولا الاحاطة بالشرع اُصوله وفروعه ، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الاُمور ، وقطع كيد الأعداء ، وتسهيل الحياة للاُمّة فعلى ذلك ، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات الحاضرة ، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الفردية ، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه (2).
    و هذا الاختلاف بين الفريقين يرجع إلى تفسير جوهر الامامة وحقيقتها ويتفرّع على ذلك خلاف آخر وهذا هو الذي نذكره في الأمر التالي.
    الثاني : انّ الامام عند الشيعة يعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول ، وأمّا الامام عند أهل السنّة فقد فوّض أمر النتخابه إلى الاُمّة على وجه الاجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل ، والذي يظهر من مجموع كلامهم ، انّ الامامة تنعقد عن طريق الشورى ، واختيار أهل الحل والعقد أوّلاً ، وبتعيين الامام السابق ثانياً ، وبالغلبة ثالثاً (3).
    قال الماوردي : الامامة تنعقد بوجهين :
    أحدهما : باختيار أهل الحل والعقد.
    والثاني : بعهد الامام من قبل (4).
1 ـ قد لخّص الماوردي مسؤوليات الامام في عشرة ، لاحظ الأحكام السلطانية 15 ـ 16.
2 ـ التمهيد للباقلاني ( ت 403 هـ ) 181.
3 ـ الماوردي : الأحكام السلطانية 6 والتفتازاني : شرح مقاضد الظالبيين في علم اُصول عقائد الدين 272 طبع مصر.
4 ـ الأحكام السلطانية 4.

(173)
    و قال العضدي : إنّها تثبت بالنص من الرسول ، وفي الامام السابق بالاجماع ، وتثبت ببيعة أهل العقد والحل (1).
    ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الامامة على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة : لا تنعقد الامامة إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عامّا.
    و قالت طائفة : أقل ما تنعقد به منهم خمسة ، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة الجرّاح ، واسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
    و قال آخرون : تنعقد بثلاثة ، يتولّاها أحدهم برضا الاثنين ، ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
    و قالت طائفة اُخرى : تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعلي : امدد يدك اُبايعك ، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ (2).
    إنّ هذا الاختلاف الهائل فيما تنعقد به الامامة ، ناجم عن القول بأنّ أمر الخلافة مفوّض إلى الاُمّة مع عدم النص على أصل التفويض ولا على خصوصياته. وهذا من عجيب الأمر ، حيث إنّ النبيّ يفوّض ذلك الأمر الحيوي إلى الاُمّة ، ولا يتكلّم بأصل التفويض ولا خصوصياته ، فيترك الاُمّة في حيرة.
    و قد وقف على ذلك ، الكاتب المصري الخضري ، قال : لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه ، اللّهمّ تلك الأوامر العامة التي تتناول
1 ـ شرح المواقف 3 / 265.
2 ـ الأحكام السطانية 4.

(174)
الخلافة وغيرها ، مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : ( وَأمْرُهُمْ شورى بَينَهُمْ ) (1) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة ، إلا بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنَّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتى يحلّوه بأنفسهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده واُوضحت سبله ، كما اُوضحت سبل الصلاة والصيام (2).
    إنّ ما ذكره الخضري لا يسمن ولا يغني من جوع لأنّ الحكومة بعد النبي الأكرم كانت من عظائم الاُمور فلا يخطر ببال أحد أن يكتفي الرسول بجميع تفاصيلها وخصوصياتها التي لم تمارسها الاُمّة ولا ذاقتها طوال حياته بآية الشورى وهذا أشبه بالاكتفاء في اقامة الصلاة بالمجاملات الواردة في نص الكتاب.
    « كيف يخطر ببال أحد أن يهمل الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) القيادة السياسية للدولة الاسلامية التي أسّسها ، وثبّت عناصرها ومرتكزاتها ، فلم يضع قاعدة معيّنة للخلافة كما زعموا ، مع العلم بأنّ القيادة بالنسبة للدولة كالرأس من الجسد ، وكالقلب من سائر الأعضاء والجوارج , أيهمل القيادة والرئاسة للدولة ، ولا يتكلّم عنها بنفي أو اثبات ؟ أيهملها ويتركها نهباً لأصحاب المطامع ، والمطامح , والأهواء ، ولشهوات أصحاب القوّة والفساد في الأرض ؟ فتعود بذلك بعد موته ، الجاهلية ، وعبادة الطواغيت ، بعد أن عان وأصحابه ما عانوا من متاعب ، ومشقّات ، وما قدّموه من تضحيات غالية وعزيزة للخلاص من أوبائها وتحرير العباد من فحشائها ؟ أيتركها لتكون سبباً لإراقة الدماء وازهاق الأرواح ؟ وهو المرسل رحمة لا نقمة للعالمين ، ونوراً وهدىً للحائرين والضالّين.
1 ـ الشورى / 38.
2 ـ محاضرات في تاريخ الاُمم الاسلامية 2 / 161.

(175)
    حاشاه حاشاه لقد وضع لاُمّته وبوحيٍ من ربّه العليم الخبير كل قواعد واُسس الحياة الانسانية بمجالاتها الواسعة ، ولم يهمل حتى آداب الأكل والشرب ولبس النعال وحتى آداب التبوّل والتبرّز ، ووضّح لاُمّته معالم الحياة الرفيعة الراقية وفي مقدّمتها الحياة السياسية ، ورأسها المفكر وقلبها البابض ، هو القيادة المعروفة في لغة القرآن والسنّة باسم ـ الامامة والخلافة ـ والملك والسلطان ـ وبذلك نزلت البشرى من عالم الغيب والشهادة باكمال الدين ، واتمام النعمة ، والرضى بالاسلام قال تعالى : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) ـ المائدة / 3 (1).
    لو كانت صيغة الحكومة قائمة على أساس الشورى ، وكانت هي طريقاً لتعيين الحاكم ، كان من الضروري أن يقوم النبي بتوعية الاُمّة ، وايقافها بصورة واسعة على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة ، حتى لا تتحيّر الاُمّة ولا تختلف في أمرها ، ولكنّا رغم هذه الأهمية القصوى ، لا نجد لهذه التوعية الضرورية أي أثر في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم. أجل إنّ مقتضى كون الدين الاسلامي ديناً خاتماً هو التعرّض لصلب الموضوع مُوكِلاً شكله إلى نظر الاُمّة ، حتى يتماشى مع جميع العصور. ولا نعني من هذا أنّه يجب على الشارع اعطاء كل التفاصيل الخصوصيات الراجعة إلى الشورى ، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى جوهر الشورى وصميمها ، فلا يصح للشارع أن يترك بيانها ، إذاً هناك أسئلة تطرح نفسها في المقام لا يمكن الوقوف على أجوبتها ، إلا عن طريق الشرع ، وهي :
    1 ـ من هم المشاركون في الشورى ، فهل العلماء وحدهم أو السياسيون وحدهم أو الضبّاط والعساكر وحدهم ، أو المختلط منهم ؟
1 ـ الزيدية نظرية وتطبيق تأليف علي بن عبدالكريم 102 ـ 103 طبع عمان 1405.
(176)
    2 ـ من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟
    3 ـ لو اختلف أهل الشورى في شخص أو أمر ، ما هو الملاك لتقديم رأي على آخر ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة التي ترتبط بنظام الشورى المجمل ، ولا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلا رجماً بالغيب.
    ثمّ إنّ القوم ربّما يعبّرون عن صيغة الحكومة باتّفاق أهل الحل والعقد ، وهذه الكلمة أشد غموضاً من السابقة إذا لا يعرف الانسان من هم أهل الحل والعقد ، وماذا يُحلِّون وماذا يعقِدون ؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبهم من حوادث ؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الانسان صار من أهل الحل والعقد ؟ ما هي تلك الدرجة ؟ وبأي ميزان توزن ؟ ولأجل هذه الابهامات حول نظام الشورى أوّلاً ، وأهل الحل والعقد ثانياً ، تنبّه بعض دكاترة العصر إلى وهن هذه النظرية.
    قال الدكتور طه حسين : لو كان للمسلمين هذا النظام المكتوب أي نظام الشورى ، لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك ، وما يدعون ، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف.
    و قال الخطيب : إنّ كلمة أهل العقد والحل لأغمض غموضاً من كلمة الأفراد المسؤولين (1).
    كل ذلك يعرب عن أنّ مسألة نظام الشورى انّما اخترعها المتقمّصون للخلافة في أيام الأمويين.
1 ـ الخلافة والامامة للخطيب عبد الكريم 271.
(177)
    آيتان حول الشورى :
    إنّ القائلين بكون الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) هو الشورى ، استدلّوا بأمرين :
    1 ـ الآيتان الواردتان حول الشورى.
    2 ـ انّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى.
    و نحن نبحث عن كلا الموضوعين بوجه موجز ، ونحيل التفصيل إلى الموسوعات الكلامية ، وإليك الآية الاُولى وتحليلها :
    1 ـ ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِر لَهُمْ وشاوِرهُمْ فِى الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) (1).
    إنّ الاستدلال بها سببه الغفلة عن موردها ومضمونها فإنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي فرضه سبحانه حاكماً على الاُمّة ، فيأمره أن يشاور أفراد الاُمّة فلا صلة للآية بالمدعى. فإنّ أقصى ما تفيده الآية هو أن لا يكون الحكاكم الاسلامي الذي تمّت سلطته ، مستبدّاً في أعماله ، وأمّا أنّ الامام ، يتعيّن عن طريق الشورى فالآية لا تدل عليه ، والذي يؤكّد ما قلناه انّه يأمر النبيّ بعد المشاورة. بالتوكّل عند العزم. وأنّ له الرأي النهائي والأخير.
    والحاصل : انّ الآية خطاب للحاكم الاسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلاً وأخذ التصميم النهائي ثانياً , وأمّا أنّ الحاكم الاسلامي يتعيّن من جانب الشورى ، فالآية أجنبية عنه فانّ الخطاب في الآية للحاكم لا لغيره.
    وأمّا الآية الثانية : أعني قوله سبحانه في صفات المؤمنين : ( وأمْرُهُمْ
1 ـ آل عمران / 159.
(178)
شُورى بَيْنَهُمْ ) (1) فهي تحثّ المؤمنين إلى المشورة في جميع الاُمور المرتبطة بهم وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية ، من الاُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية. والتمسّك بها في مثل هذه المقام المردّد بين كونه من اُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه تمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية.
    و بعبارة اُخرى : انّ الامامة لو كانت أمراً إلهيّاً. متوقّفاً على ولاية مفاضة من اللّه سبحانه وإلى الولي يكون من الاُمور المربوطة باللّه ورسوله ، وأمّا لو كانت امرة عرفية وولاية شعبية تكون من الاُمور المتعلّقة بالمؤمنين وفي مثله حيث الأمر مردّد لا يمكن التمسّك بالعموم واثبات انّ الولاية من شؤون المؤمنين.
    أضف إلى ذلك انّه لو كان أساس الحكم في الاسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة. على ما عرفت تفصيلا.
    ولأجل عدم وجود أيّ ايضاح من قبل النبيّ حول النظام المذكور ، التجأ الكاتب المصري إلى رفض أن يكون ذلك أساساً للحكم وانّما كانت تجربة من المسلمين بعد رحلة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).
    يقول : « ينظر بعضهم إليه على انّه ( أي تعيين الامام بالشورى ) نواة صالحة لأوّل تجربة ، وانّ الأيام كفيلة بأن تنميها وتستكمل ما يبدو فيها من نقص فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث ، إذ لم يكن من المستطاع ـ حينذاك الوقوف على رأي الاُمّة كلّها ، فرداً فرداً ـ فيمن يخلف النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وينظر بعض آخر إلى هذا الاسلوب بأنّه اُسلوب بدائي عالج أهم مشكلة في الحياة وقد كان لهذا الاسلوب أثر في تعطيل القوى المفكرّة
1 ـ الشورى / 38.
(179)
للبحث عن اسلوب آخر من أساليب الحكم التي جريتها الاُمم » (1).
    ومعنى ذلك انّ الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات قد أهملت هذا الجانب المصيري في حياة الاُمّة ، وانّه اهتمّ بكل صغير وكبير سوى هذا الأمر الخطير الذي به يناط بقاء الاسلام واستمراره. علماً انّ الظروف كانت مساعدة لوصول ذلك ولا مانع يعترض الطريق.

    خلافة الخلفاء ومسألة الشورى :
    هذا كلّه حول الدليل الأول وأمّا الدليل الثاني. وهو انّ خلافة الخلفاء تمّت عن هذا الطريق فهو أوهن وأضعف من الأوّل فمن قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك أي مشورة ولا استشارة وانّما تمّت خلافة الأول في جوّ إرهابي وفي محفل ساد فيه ، السب والشتم والضرب. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة التي لا تليق بمجلس كهذا.
    كما انّ خلافة الثاني تمّت بتنصيص من الخليفة الأول وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالاً للاُمّة.
    و أمّا خلافة الثالث فهي وإن كانت مصبوغة بصبغة الشورى ولكن الخليفة هو الذي عيّن أعضاء الشورى واستبدّ بالأمر وعيّن المرشحين للخلافة بل كان ما قام به يؤدي إلى تعيّن الخليفة. ومثل ذلك لا ينطق عليه شروط الشورى وانّما كان استبداداً في لباس الحرية.
    وإن كنت في شك ممّا تلوناه عليك فلندرس تاريخ انتخاب الخلفاء عن كثب.
1 ـ الخلافة والامامة : عبد الكريم الخطيب 272.
(180)
    1 ـ السقيفة وخلافة أبي بكر :
    توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي ، وانّ رسول اللّه ما مات ، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فواللّه ليرجعنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عمّا رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مات فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس : إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يأسن كما يأسن البشر. وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين ؟ هو أكرم على اللّه من ذلك فان كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه.
    وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُنح فسمع مقالة عمر فدخل البيت فكشف عن وجه النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فقبّله وقال : بأبي أنت واُمّي طبت حيّاً وميّتاً والذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً (1). ثم خرج فقال : على رِسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال : ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال : ( إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقال : ( وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَاِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِى اللّهُ الشّاكرِينَ ) فتشنّج الناس. فقال عمر : واللّه ما هو إلاّ أن
1 ـ أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا ، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت ، ويقبّله ويتبرّك به ، ويقول بأبيه واُمّه له.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس