بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 181 ـ 190
(181)
سمعت أبابكر تلاها فدهشت. حتّى وقعت إلى الأرض ، وعرفت أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قد مات (1).

    نقاش مع الخليفة :
    هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ ، يتفطّن للاجابة عنها وهي :
    1 ـ انّ موت النبي الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لم يكن فُجائيّاً بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام فكانت القرائن والشواهد تدل على أنّه قد دنى فراقه للاُمّة وقد صرّح بذلك في غير واحد من أصحابه ، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة الوصية للاُمّة حتّى لا تضلّ الاُمّة من بعده وقد حال الخليفة الثاني بين النبي واُمنيته وقال ما قال (2).
    وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى وقد أصرّ على ذلك حتّى ازبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة. سوى نفسه.
    فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة ( لساناً لا قلباً ) هدفاً سياسيّاً يخبّئ فيه مصالحه أو مصالح الاُمّة ؟
    2 ـ هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في الحاقه بالنادر ؟
1 ـ السيرة النبوية : ابن هشام 655 ، الطبقات الكبرى 2 / 268 ـ 269.
2 ـ البخاري : الصحيح ، كتاب العلم 1 / 22 وح 2 / 14.


(182)
    3 ـ نرى أنّ عم النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) العباس ، واجهه بما واجه به أبوبكر وهو أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين. مع أنّه لم يقتنع بكلامه بل اقتنع بما ذكره أبوبكر.
    4 ـ انّه كان مصرّاً على الغيبة مادام ابو بكر غائباً عن المدينة ، فلمّا نزل من السُنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه ، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها ؟
    5 ـ كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه ( إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون ) وقوله سبحانه : ( وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل ) وغيرهما ؟
    هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون اطروحة الغيبة مناورة سياسية ، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للاُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذا موقفاً واحداً ، تجاه المسائل المصيرية.

    مأساة السقيفة :
    كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين في تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص.


(183)
    فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم احساباً ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة.
    ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعداً كانت سائدة في عصر الجاهلية فالأنصار ترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له ، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا يحتمل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريش أوسط داراً وأحسن نسباً.
    ولم يكن هناك من يذكّر ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية (1)
    فلو كان هناك مشورة اسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات اللّه وأسبقهم إلى الايمان والإسلام. كما هو الوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْاْ عَنِ المُنكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الاُمُورِ ) (2).
    وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث :
    1 ـ ورع يحجزه عن معاصي اللّه.
    2 ـ وحلم يملك به غضبه.
    3 ـ وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم (3).
1 ـ لاحظ : في الوقوف على احتجاج الطائفتين ، السيرة النبوية لابن هشام 2 / 659 والطبقات الكبرى لابن سعد 2 / 269 وتاريخ الطبري 2 / 442 ـ 446.
2 ـ الحج / 41.
3 ـ الكافي للكليني 1 / 407.


(184)
    وقال الامام علي : « أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل » (1).
    وقال ( صلوات اللّه عليه ) أيضاً عندما قال قال كلام « إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي (2).
    وقال الامام السبط الطاهر الحسين بن علي ( عليهما السلام ) فما الامام إلا الحاكم بالكتاب ، الدائن بدين الحق ، القائم بالقسط ، الحابس نفسه على ذات اللّه (3).
    و أين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه : ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون ) (4).
    ما سمعت من الكلمات ، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر منهم من الضرب والسباب ، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة ، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق فيه لأخذ كرة الخلافة بأي طريق حصل وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة.
    هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال : « واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلا
1 ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم 173.
2 ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم 172.
3 ـ روضة الواعظين 206.
4 ـ الأنبياء / 105.

(185)
حطّمت أنفه بالسيف ، أنا جُذيلها المحكّك ( أصل الشجرة ) وعُذيقها المرجَّب ( النخلة المشتملة بالتمر ) أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، يعزي إلىّ الأسد » (1).
    وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول اخراج القيادة من الأنصار وأقرارها لغيرهم.
    وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي : « أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي واُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي » (2).
    وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله : « إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم » (3).
    وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام ، وينزي عليه وينادي عليه بغضب : « اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة » وقد قام عمر على رأسه ويقول : « لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك أو تندر عيونك » (4).
    فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول : « واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ! أو لخفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة » (5).
    وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تكل المشاجرة بقوله : « كثر اللغط
1 ـ شرح ابن أبي الحديد 2 / 16.
2 ـ الغدير 7 / 76.
3 ـ الامامة والسياسة 1 / 11 ، تاريخ الطبري 3 / 210.
4 ـ مسند أحمد 1 / 56 ، تاريخ الطبري 3 / 210 ، وغيرهما.
5 ـ تاريخ الطبري 3 / 210 ، السيرة الحلبية 3 / 387.

(186)
وارتفعت الاصوات حتى تخوّفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يديك يا أبابكر ، فبسط يده ، فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل اللّه سعد بن عبادة » (1).
    إنّ الشورى الاسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية ، لا تنعقد إلا بدراسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية ، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر. ونزاهة في الكلام ، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأية بدليل وبرهان ، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتى يصل من خلالها المسلمون إلى ألامثل فالأمثل في موضوع القيادة ، وأمّا المجلس الذي تسل فيه السيوف على المخالف ، ويداس المقابل بالأقدام ، فهذا أشبه ، بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة ، بل أشبه ...
    هذا حال السقيفة وأما ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج ، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلا وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له.
    ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة ، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه اخلالاً بالبيعة ، بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة ، ليتهدّدوا اللائذين به ، الممتنعين عن مبايعته ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، وأتى عمر إلى بيت فاطمه وهو يقول : واللّه لنحرقنّ عليك أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية : « يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (2).
1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2 / 660.
2 ـ تاريخ الطبري 3 / 210 ، الامامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 13.

(187)
    ثمّ بعد هنّ وهنات اُخرج الأمام من بيته ، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ، وسيق سوقاً عنيفاً ، وقالوا له : بايع ، فيقول : « إن أنا لم أفعل فمه ؟ » فيقال : واللّه الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال علي : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسول اللّه » (1).
    و لم يكن الضغط منحصراً في علي ، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفّة سلّ سيفه وقال : لا أغمده حتى يبايع علي ، فيقول عمر : عليكم الكلب ، فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر فيكسر (2).
    هذه صورة اجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى التي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل ، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين (3) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة ، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه (4).
    وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله : كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت ، وانّها قد كانت كذلك إلا أنّ اللّه قد وقى شرّها ، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ، فانّه لا بيعة له (5).
1 ـ الامامة والسياسة 1 / 13.
2 ـ تاريخ الطبري 3 / 199 ، الامامة والسياسة 1 / 11.
3 ـ سيأتي مصدره.
4 ـ سيأتي مصدره.
5 ـ السيرة النبوية 2 / 658 ، تاريخ الطبري 2 / 446.

(188)
    الخلفاء وتناسي الشورى :
    قد درسنا كيفية انعقاد الامامة لأوّل الخلفاء ، هلمّ معي ندرس خلافة غيره ، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أيّ مشورة ولا أيّ استفتاء شعبي ، ولا أيّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرون.
    روى المؤرّخون : انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان ، فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى عليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا ، نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ... (1).
    والانسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ ، يقف على قيمة ما ذكره الامام ، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر ، فقال : « احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اُشدد له اليوم أمره ، ليردّه عليك غداً ، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا اُبايع » (2) فو اللّه ، لقد تحقّق قول الامام حيث ردّ عليه الأمر من بعد ، كما عرفت.
    وهذا عمر بن الخطّاب ، فبعد ما جرح ودنا أجله قال : سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض ، فأرسل إليهم فجمعهم وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وطلحة ، والزبير بن العوّام ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمان بن عوف ، وكان طلحة غائباً.
    فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين ، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم فتشاوروا ثلاثة أيّام ، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلا فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتى
1 ـ الامام والسياسية لابن قتيبة 18 ، الكامل في التاريخ 2 / 425.
2 ـ الامامة والسياسة 23 ، الكامل 3 / 35.

(189)
تستخلفوا أحدكم.
    ثم قال لصهيب : « صلّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ... وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... فان رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبد اللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس » (1).
    « فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار ، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثماناً ، وانّ الخلافة لا تخلص له وهما موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي ( عليه السلام ) بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.
    ولمّا رأي الزبير أنّ علياً قد ضعف ، وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حميّة النسب فوهب حقه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته. وهي صفية بنت عبد المطلب وأبو طالب خاله.
    وقال سعد بن أبي وقاص : أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمان وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له.
    فلما لم يبق إلا الثلاثة. علي وعثمان وعبد الرحمن ولكن واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري : بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبد الرحمان ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان ، ولأجل ذلك قام بلعبة اُخرى يريد بها
1 ـ تاريخ الطبري 3 / 294.
(190)
حرمان علي.
    فقال عبد الرحمان لعلي وعثمان : أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الأختيار في الأثنين الباقيين ؟ فلم يتكلّم منهما أحد ، فقال عبد الرحمان : اشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما ، فامسكا فبدأ بعلي ( عليه السلام ) وقال له : اُبايعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول ـ صلّى اللّه عليه و آله وسلّم ـ وسيرة الشيخين : أبي بكر وعمر ، فقال : بل على كتاب اللّه وسنّة الرسول واجتهاد رأيي ، فعدل عنه الى عثمان فعرض عليه ذلك ، فقال : نعم فعاد إلى علي ( عليه السلام ) فأعاد قوله ، وفعل ذلك عبد الرحمان ثلاثاً ، فلمّا رأى أنّ علياً غير راحع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالاجابة صفّق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إنّ عليّاً ( عليه السلام ) قال له : واللّه ما فعلتها إلا لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه دقَّ اللّه بينكما عطر « منشم ».
    قيل : ففسد ذلك بين عثمان وعبد الرحمان فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمان (1).

    شورى سداسية أو لعبة سياسية ؟ :
    إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الايصاء به صريحاً. فدقّ الخليفة باب الشورى
1 ـ الطبري : التاريخ 3 ، الجزري : الكامل 3 وشرح بن أبي الحديد 1 / 188 ، و« منشم » اسم امرأة عطَّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا بطيبها وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فكان يقال أشأم من عطر منشم ، لاحظ الصحاح للجوهري.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس