بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 191 ـ 200
(191)
حتى يسّد به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الاُمور. منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حيث قال لعمّه العباس : عُدل بالأمر عنّي يا عم قال : وما عيبك ، قال : قرن بي عثمان ، وقال عمر : كونوا مع الأكثر فان رضى رجلان رجلاً ، ورجلان ورجلاً ، فكونوا مع عبد الرحمان بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه ( عبد الرحمان بن عوف ) وعبد الرحمان صهر عثمان لا يختلفان (1).
    و قال ابن عباس : الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان (2).
    و قد نال الخليفة بغيته من خلال الاُمور التالية :
    1 ـ إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة وقد احتكر ذلك الحق لنفسه وسلبه عن الاُمة ـ ولو كان الانتخاب بيد الاُمة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده. فأدخل في الشورى رجالاً يسيرون على الخط الذي رسمه الخليفة في نفسه.
    و برّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مات وهو راض عنهم وهو تبرير تافه ، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وأبي أيوب مضيّفه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وغيرهم بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحققون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد.
    2 ـ انتخب رجالاً لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن
1 ـ شرح النهج 1 / 191.
2 ـ شرح النهج 1 / 189.

(192)
الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي ( عليه السلام ) واضمار العداء له. فعند ذلك أصبح اقصاء عليّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً وذلك لأنّ طلحة بن عبيد اللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحارفه عنه. فلأجل ذلك وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي.
    إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبد الرحمان بن عوف وكلاهما من بني زهرة فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته.
    وعبد الرحمان بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي اُخت عثمان من اُمّه.
    على هذا كانت تشهد القرائن على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان ، فطبع الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الذي سيأخذ بمقاليد الحكم. إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه.
    3 ـ انّه لما كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة التي فيها عبد الرحمان بن عوف فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبد الرحمان بن عوف ( وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها ) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع.
    وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب بل افسده على علي بعد رحيل عثمان حيث إنّ ادخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بانّهم مؤهّلين لها وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الامام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثأر لعثمان.


(193)
    إنّ الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى ، فقال في بعض خطبه : « فيا للّه والشورى ، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل حتى صرت اُقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفّوا. وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن » (1).
    و هذا كلام علي في أواخر أيامه. فقد اعترض هو أيضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه فروى الطبري أنّ عبد الرحمان قال : أيّها الناس أشيروا عليّ في هذين الرجلين ؟ فقال عمّار بن ياسر : إنّ أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً. فقال المقداد : صدق عمّار ، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا ، فقال عبد اللّه بن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ، وقال عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي : صدق ، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا ، فشتم عمّار بن أبي سرح وقال له : متى كنت تنصح الاسلام ؟!
    فتكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة وقام عمّار وقال : أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم. فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد : يا عبد الرحمان أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمان على علي ( عليه السلام ) العمل بسيرة الشيخين.
    فقال : بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال : نعم ، فقال علي ( عليه السلام ) : ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما
1 ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب / الخطبة 3.
(194)
تصفون واللّه ما ولّيته الأمر إلا ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن (1).
    و بهذا تبين أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق وكانت اسماً بلا مسمى.

    إجابه عن سؤال :
    إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الاسلام ، فماذا يعني الامام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول : إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً (2).
    نقول : إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة ، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّ هو نظام الشورى ، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد ، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام ، وما صدَّر به الامام رسالته ، أعني قوله : « انّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان » تدل بوضوح على أنّ الامام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم ـ أعني معاوية ـ ، على قاعدة « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » ، فإنّه خرج عن طاعة الامام مع اعتناقه إمامة من تقدّم ، فالامام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي عليّ والطاعة لهم ، ولو لم يكن في مقام الجدل وافحام الخصم ، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر الرسالة وجه ، مع أنّ للامام كلمات في تخطئة الشورى التي تمّت بها ، أو بادّعائها خلافة الخلفاء ، ومن تصفّح نهج البلاغة يقف عليها.
1 ـ شرح النهج : لابن أبي الحديد 1 / 193 ـ 194.
2 ـ الامامة والسياسة 23 ، ونهج البلاغة قسم الرسائل ، برقم 45.

(195)
    و العجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة ، إلى نظام الشورى بل استند كل من اللفيفين باُمور لا تمت إلى هذا الأصل ، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبيّ وعشيرته ، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول ، وضّحوا بأنفسهم ونفايسهم لحراسته وحفظه ، فانظر ماذا ترى قاتل اللّه الأنانية ، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.


(196)

(197)
    الفصل الثامن
نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع


(198)

(199)
    دلّت نصوص الخلافة الماضية ، بوضوح على أنّ الامام علياً كان هو الخليفة الشرعي والقائم بالأمر بعد الرسول وانّه كان من واجب المسلمين الرجوع إليه فيما يمت إلى حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية ، غير أنّ رجالاً بعد النبيّ تناسوا النصّ بعد تلبية النبيّ نداء ربّه ، وانثالوا على أبي بكر ، وبعده على عمر وعثمان ، إلى أن عاد الحق إلى نصابه ، ودار الأمر على مداره. وهناك سؤال يطرحه كل من يؤمن بتواتر النصوص ووضوح دلالتها ، لما يشاهد المعارضة بينها وبين الأمر الواقع في السقيفة وما بعدها ، وانثيال كثير من المهاجرين والأنصار إلى غير علي ، فيقع في الحيرة والتعجّب ، فيقول : لو كانت النصوص النبويّة على هذا المستوى ، فلماذا أعرض عنها المسلمون ؟ ولماذا لم يطلب الامام حقّه الشرعي ؟ ولماذا رضي بالأمر الواقع ، ولم ينبس فيه ببنت شفة ؟ وهذا هو الذي نجيب عنه في المقام ، فنقول :
    إنّ المهم هو بيان السرّ الذي دفع الامام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقدرة والعنف ، وأمّا إعراض المهاجرين والأنصار ، أو في الحقيقة ـ إعراض الرؤوس منهم عن النص ، وانثيال غيرهم إليهم ، فليس هذا أمراً عجبا ، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص ، واجتهدوا تجاهها كما تقدّم البحث عن موارده ـ. وإليك تشريح ما هم المهم :


(200)
    إن الامام لم يسكت طول حياته عن بيان حقّه وارشاد الناس إليه ، بل أظهر عدم رضاه بالأمر الواقع وانّه تعبير آخر عن غصب حقّه ، يقف عليه كل من قرأ ماساة السقيفة في كتب التاريخ ، فلا يفوتنّك قراءة طبقات ابن سعد ، وتاريخ الطبري ، والسيرة النبوّية لابن هشام ، ولا العقد الفريد ، ولا الامامة والسياسة لابن قتيبة ، فكلّها مفعمة بشكوى الامام وعدم قبوله بالأمر الواقع ، غير انّ التكليف حسب القدرة ، ـ وبعدها ـ في ظلّ المصالح العامّة ، فلم يكن للامام قدرة على المطالبة بحقّه ، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في ادلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة ، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة التاريخ.
    1 ـ هذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة ، وما فيه من مآسي ، يقول : إنّ علياً كرّم اللّه وجهه اُتي به إلى أبي بكر وهو يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه » فقيل له : بايع ، فقال : « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ ، وتأخذوه من أهل البيت غصبا ! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة ، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار. نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً ، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوءوا بالظظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : « احلب حلباً لك شطره ، وشُدَّ له اليوم ، يردده عليك غداً ـ ثمّ قال : ـ واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا اُبايعه » فقال له أبوبكر : فإن لم تبايع فلا اُكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعلي كرم اللّه وجهه : يا ابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور ولا أرى أبابكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالاً واستطلاعا ، فسلِّم لأبي بكر فإنّك إن تعش ويطل لك بقاء ،
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس