بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 281 ـ 290
(281)
الكتاب والسنّة ، وكلمات العترة الطاهرة والعقل فيما له مجال القضاء ، وليست الشيعة متطفّلة في منهجها الكلامي على أيّة من الطائفتين. وأنت إذا وقفت على الكتب الكلامية المؤلّفة في العصور المتقدّمة من عصر الفضل بن شاذان ( ت 260 ) إلى عصر شيخنا الطوسي ( 385 ـ 460 ) ومن بعده بقليل ، تجد منهجاً كلامياً مبرهناً متّزنا واضحاً لا تعقيد فيه ولا غموض ، وعلى تلك الاُصول وذلك المنهج درج علماؤهم المتأخّرون في الأجيال التالية ، فألّف الشيخ الحلبي ( 374 ـ 447 ) « تقريب المعارف » والشيخ سديد الدين الحمصي ( ت 600 ) كتابه « المنقذ من التقليد » وتوالي بعدهم التأليف على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي ( 597 ـ 672 ) ومعاصره ابن ميثم البحراني ( 589 ) وتلميذه العلّامة الحلّي ( 648 ـ 726 ) وهكذا ... كل ذلك يكشف عن أنّ الأئمّة طرحوا أصول العقائد ، وغذّوا أصحابهم وتلاميذهم بمعارف سامية ، اُعتبر الحجر الأساس للمنهج الكلامي الشيعي ، وتكامل المنهج من خلال الجدل الكلامي والنقاش العلمي في الظروف المتأخّرة فوصل إلى الذروة والقمّة فالناظر في الكتب الكلامية للسيّد الشريف المرتضى ك « الشافي » (1) و« الذخيرة » (2) يجد منبعاً غنيّاً بالبحوث الكلامية كما أنّ الناظر في كتب العلّامة الحلّي المختلفة ك « كشف المراد » (3) و« نهاية المرام » (4) وغيرهما يقف على أفكار سامية أنضجها البحث والنقاش عبر القرون ، فبلغت غايتها القصوى.
    و قد توالى التأليف في عقائد الشيعة واُصولهم من العصور الاُولى إلى يومنا هذا ، ولا يحصيها إلا محصي قطرات المطر وذرّات الرمال.
1 ـ المطبوع في بيروت في أربعة أجزاء.
2 ـ المطبوع في ايران في جزأين.
3 ـ الكتاب الدراسي في الجامعات الشيعية.
4 ـ مخطوط نحتفط منها بنسخة وهي في يد التحقيق.

(282)
    هذا وانّ الشيعة وإن خالفوا في هذه الاُصول طائفة من طوائف الاسلامية ووافقوا طوائف اُخرى ، ولكن هناك اُصول اتّفق الجميع فيها دون استثناء ، وهو ظاهر لمن قرأ ما أثبتناه من الرسائل والكتيبات.
    أفما آن للمسليمن أن يتّحدوا في ظلال هذه الاُصول المؤلّفة لقلوبهم ، ويتظلّلوا بظلالها ، ويتمسّكوا بالعروة الوثقى ، ويكون شعارهم : انّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، وأن لا يصغوا إلى النعرات المفرّقة ، المفترية على الشيعة وأئمّتهم ، وليكن شعارنا في التأليف : التحقيق والتأكّد من عقائد الآخرين ، ثمّ التدوين.

    الفوارق بين الشيعة وسائر الفرق:
    إذا تعرّفت على الفوارق الموجودة بين الشيعة وبعض طوائف المسلمين ، فهلّم معي إلى الفوارق الجوهرية بينهم وبين سائر الطوائف التي صيّرتهم إلى فرقتين متمايزتين ، وأكثرهم يرجع إلى مسألة القيادة والخلافة بعد الرسول الأكرم ، فنأخذ بالبحث عنها على وجه الإجمال :


(283)
    المسألة الأُولى :
وجوب تنصيب الإمام على اللّه سبحانه
    اتّفقت الاُمّة الاسلامية على وجوب نصب الامام ، سوى العجاردة من الخوارج ، ومعهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة ( 237 ) (1) فذهب المسلمون إلى وجوب نصب الإمام ، إمّا على اللّه سبحانه كما عليه الشيعة ، وإمّا على الاُمّة كما عليه غيرهم ، فوجوب نصب الامام لا خلاف فيه بين المسلمين ، وإنّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك.
    و ليس المراد من وجوبه على اللّه سبحانه ، هو إصدار الحكم من العباد على اللّه سبحانه ، حتى يقال ( إنِ الحُكْمُ إلا لِلّهِ ) (2) بل المراد كما ذكرنا غير مرّة ، أنّ العقل
1 ـ ادّعت العجاردة بأنّ الواجب على الاُمّة التعاون والتعاضد لإحياء الحق وإماته الباطل ، ومع قيام الاُمّة بهذا الواجب لا يبقى للإمام فائدة تستدعي تسلّطه على العباد ، أمّا إذا اختلفت الاُمّة ولم تتعاون على نشر العدل واحقاق الحق فيجب عليها تعيين من يقوم بهذه المهمات ، وعلى ذلك فالإمامة لا تجب بالشرع ولا بالعقل ، وإنّما تجب للمصلحة أحياناً ، وقد تعرّفت على عقيدة الخوارج في الموضوع في الجزء الخامس من هذه الموسوعة.
2 ـ يوسف / 40.

(284)
حسب التعرّف على صفاته سبحانه ، من كونه حكيماً غير عابث ، يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه ، وإلا فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على اللّه سبحانه.
    ثمّ إنّ اختلافهم في كون النصب فرضاً على اللّه أو على الاُمّة ، ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والامامة عن رسول اللّه. فمن ينطر إلى الامام كرئيس دولة ليس له وظيفة إلا تأمين الطرق والسبل ، وتوفير الأرزاق ، واجراء الحدود ، والجهاد في سبيل أللّه ، إلى غير ذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول بأشكالها المختلفة ، فقد قال بوجوب نصبه على الاُمّة ، إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلا الكفاءة والمقدرة على تدبير الاُمور وهذا ما يمكن أن تقوم به الاُمّة الإسلامية ، وأمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة ( لا لنفس الرسالة فانّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى ) فمن المعلوم إنّ تقلّد هذا المقام يتوقّف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلا إذا حظي بعناية إلهية خاصة فيخلف النبي في عمله بالاُصول والفروع ، وفي سد جميع الفراغات الحاصلة بموته ، ومن المعلوم أنّه لا تتعرّف عليه الاُمّة إلا عن طريق الرسول ، ولا يتوفّر وجوده إلا بتربية غيبيّة.
    فقد ظهر من ذلك أنّ كون القيادة الاسلامية بعد النبي بيد اللّه أو بيد الاُمّة ، أو انّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم ، ينجم عن الاختلاف في ماهية الخلافة.
    فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الاُمّة بأحد الطرق ، قال في حقه : « لا ينخلع الامام بنفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الابشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب


(285)
وعظه و تخويفه ، وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه » (1).
    فمن قال : بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة والوزراء ، تنتخبه الاُمّة الاسلامية ، قال في حقه : « ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة اُمورنا وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة اللّه فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين ، برّهم وفاجرهم ، إلى قيام الساعة ، ولا يبطلهما شيء ولا ينقضهما » (2).
    وقد درج على هذه الفكرة متكلّموا السنّة ومحدّثوهم ، حتى قال التفتازاني : « ولا ينعزل الامام بالفسق ، أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى ، والجور ( الظلم على عباد اللّه ) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والاُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم ، ونقل عن كتب الشافعية : انّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الامام ، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره اثارة الفتنة ، لما له من الشوكة ، بخلاف القاضي » (3).
    ومن فسّر الامامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي ، فلا مناص له عن القول : بوجوب نصبه على اللّه سبحانه.
1 ـ التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني ( ت 403 ) : 181.
2 ـ العقيدة الطحاوية 379 ـ 387.
3 ـ شرح العقائد النسفية : وهي لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي ( ت 573 ) والشرح لسعد الدين التفتازاني ( ت 791 ) : 185 ـ 186 ، ولاحظ في هذا المجال مقالات الاسلاميين للأشعري : 323 ، واُصول الدين لمحمّد بن عبد الكريم البزدوي إمام الماتريدية : 190.

(286)
    وقد استدلّت الامامية على وجوب نصب الامام على اللّه سبحانه : بأنّ وجود الامام الذي اختاره اللّه سبحانه ، مقرّب من الطاعات ، ومبعد عن المعاصي ، وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرب هنا ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الاُمّة في مجالي العقيدة والشريعة ، كما تتكر جدالاً ونزاعاً عنيفاً بين الاُمّة في تعيين الامام. فالواجب على اللّه سبحانه من باب اللطف هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هو صنو النبي الأكرم في عمله بالعقيدة والشريعة ، وفي العدالة والعصمة ، والتدبير والحنكة ، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسول ، ولمّ شعث الاُمّة ، وجمعهم على خط واحد.
    والعجب انّ المعتزلة ممّن تقول : بوجوب اللطف والأصلح على اللّه سبحانه ، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام ، مع العلم بأنّ المورد من جزئياته ، والذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزمهم أن يقولوا بعدم صحة خلافة الخلفاء المتقدمين على عليّ ، لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من اللّه سبحانه.
    ثمّ إنّك تعرّفت على أنّ الرسول الأكرم بوحي من اللّه سبحانه ، قام بتطبيق القاعدة ، ونصب إماماً للاُمّة ، ليقود أمرهم ويسد جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى ، وبذلك حسم مادة النزاع ، وقطع الطريق على المشاغبين ، ولكنّه ـ وللأسف ـ تناست الاُمّة وصية الرسول وأمره ، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب ، وقامت بينهم المعارك والحروب التي اُريقت فيها الدماء ، واستبيحت الأعراض ، وتبدّلت المفاهيم ، واختلفت القيم ، ومازال ولم تزل معاناة الاُمّة من هذا الانشقاق ، وأصبح التقريب فضلاً عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكرين ، نسأل اللّه سبحانه أن يسد تلك الفجوة العميقة بايقاظ شعور علماء الاُمّة ومصلحيهم في المستقبل.


(287)
    المسألة الثانية :
عصمة الإمام
    تفرّدت الامامية من بين الفرق الاسلامية بوجوب عصمة الامام من الذنب والخطأ ، مع اتّفاق غيرهم على عدمه.
    قال الشيخ المفيد : إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء ، ولا تجوز عليهم صغيرة إلا ما قدم ذكر جوازه على الأنبياء ، ولا ينسون شيئاً من الأحكام ، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي ، ولا كون المعصوم مضطراً إلى فعل الطاعات ، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب ، هذه هي عقيدة الامامية في الامامة ، وقد استدلّوا عليه بوجوه من العقل والسمع. أمّا العقل فقالوا : إنّ الامام منفذ لما جاء به الرسول ، وحافظ للشرع ، وقائم بمهام الرسول كلّها ، فلو جاز عليه الخطأ والكذب ، لا يحصل الغرض من إمامته.


(288)
    حقيقة العصمة :
    العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ ، حيث لا يترك واجباً ، ولا يفعل محرَّماً مع قدرته على الترك والفعل ، وإلا لم يستحق مدحاً ولا ثواباً ، وإن شئت قلت : إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلًّب عليه الشهوات والأهواء ، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبةً لا يخطأ معها أبدا.
    وليست العصمة شيئاً ابتدعتها الشيعة ، وإنّما دلَّهم عليها في حق العترة الطاهرة ، كتاب اللّه وسنّة رسوله. قال سبحانه : ( إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْشَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) وليس المراد من الرجس إلا الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق. وقال الرسول : « علي مع الحق والحق مع عليٍّ يدور معه كيفما دار » (2) ومن دار معه الحق كيفما دار ، محال أن يعصي أو أن يخطأ ، وقول الرسول في حق العترة : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا » (3) فاذا كانت العترة عدل القرآن تصبح معصومة كالكتاب ، لا يخالف أحدهما الآخر ، وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.
    و ليس للقول بالعصمة في حق العترة منشأ سوى الكتاب والسنّة ، وسيوافيك بعض دلائلهم.
    نعم شذَّ من قال انّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا
1 ـ الأحزاب / 33.
2 ـ حديث مستفيض ، رواه الخطيب في تاريخه 14 / 321 والهيثمي في مجمعه 7 / 236 وغيرهما.
3 ـ حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه ، والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده 2 / 114 وغيرهم.

(289)
على تقديس الحاكم ، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية ، ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي ، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه علي من الخطأ حتى يتّضح للملأ عدوان بني أمية في اغتصاب الخلافة. هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب التي تسرَّبت إلى الشيعة (1).
    هب انّ عصمة الامام تسرّبت إلى الشيعة من الطريق الذي أشار إليه الكاتب فمن أين تسرّبت عصمة النبي التي يقول بها أهل السنّة جميعاً في التبليغ وبيان الشريعة ، فهل هذه الفكرة تسربّت إلى أهل السنّة من اليهود.
    لا واللّه إنّها عقيدة اسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس ، فما ذكره الكاتب تخرُّص على الغيب ، بل فرية واضحة.
    إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الامام وعدمه ، ينشأ من الاختلاف في تفسير الامامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها فمن تلقّى الامامة ـ بعد الرسول ـ بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل ، وتعمير البلاد واجراء الحدود ، فشأنه شأن سائر الحكّام العرفيين. وأمّا من رأى الامامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة وأنّ الامام ليس بنبيّ ولا يوحى إليه ، لكنّه مكلّف بملء الفراغات الحاصلة برحلة النبي ، فلا محيص له عن الالتزام بها ، لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك ، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الامام بالعصمة ويتخيِّلون أنّ ذلك يلازم النبوّة وما هذا إلا أنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين ولكل معطياته والتفصيل موكول إلى محلّه.
1 ـ الدكتور نبيه حجاب : مظاهر الشعوبية في الأدب العربي 492 ، كما في هوية التشيع 166.
(290)
    الدليل على لزوم عصمة الامام بعد النبيّ :
    استدل على لزوم العصمة في الامام بوجوه نأتي بها.
    الأول : انّ الامامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوة والرسالة ، وكان الامام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبي الأكرم ، فلا مناص من لزوم عصمته ، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية التي لأجلها نصبه اللّه سبحانه إماماً للاُمّة ، فانّ الغاية هي هداية الاُمّة إلى الطريق المهيع ، ولا يحصل ذلك إلا بالوثوق بقوله ، والاطمئنان بصحة كلامه ، فاذا جاز على الامام الخطأ والنسيان ، والمعصية والخلاف ، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله ، وضعفت ثقة الناس به ، فتنتفي الغاية من نصبه ، وهذا نفس الدليل الذي استدلّ به المتكلمون على عصمة الأنبياء ، والامام وإن لم يكن رسولاً ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما.
    نعم لو كانت وظيفة الامام مقتصرة بتأمين السبل وعزو العدو والانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك ، لكفى فيه كونه رجلاً عادلاً قائماً بالوظائف الدينية ، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك كما هو الحال في مورد النبيّ ، فكون الامام عادلاً قائماً بالوظائف الدينية ، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الامام.
    فقد كان النبي الأكرم يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره.
    كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الاسلام.
    و كان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير.
    و كان يربّي المسلمين ويهذّبهم ويدفعهم نحو التكامل.
    فالفراغات الحاصلة برحلة النبي الأكرم لا تسدّ إلا بوجود انسان مثالي يقوم
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس