بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 321 ـ 330
(321)
ويخرج اسمه من الأشقياء ، ويدخله في السعداء ، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله.
    فاللّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين ، فيحيي ويميت ، كذلك يمحو مصير العبد ، ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه ( فعله وعمله ) لقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حتّى يُغَيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (1) ، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان وأنّ العبد حرّ مختار ، قادر على تغيير القضاء ، وتبديل القدر ، بحسن فعله أو سوئه ، كما دلّت عليه الآيات والروايات.
    وليس في ذلك أي محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه ، هو أيضا من قدره وقضائه وسننه التي لا تبديل لها ولا تغيير ، فاللّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر ، فلم يقدره ولم يقضه به على وجه القطع والبت ، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل ، بل قضى به على وجه خاص وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه ، ما لم يغيّر العبد حاله ، فإذا غيّر حاله بحسن فعله أو سوئه ، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل ، وكل هذه أيضاً قضاء وقدر منه ، كما لا يخفى.
    وهذا ( البداء في الثبوت ) أولى بالتسمية بالمحو والاثبات ، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الإنسان غير أنّ المحو والاثبات في الكون بيد اللّه سبحانه ، يتصرّف فيه حسب مشيئته ، ولا دخل لارادة الإنسان ولصلاح فعله ولا فساده فيه ، وأمّا التغيير في مصير الإنسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه ، على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح.
1 ـ الرعد / 11.

(322)
    البداء في الذكر الحكيم :
    هذا الأصل ـ الذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود ، من سيادة القدر على كل شيء حتّى إرادته سبحانه ـ يستفاد بوضوح من قوله سبحانه ( يَمحوا اللّه ما يشاءُ ويُثبت وعِنده اُمُّ الكِتاب ) (1) وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها ، نقل كلمات المحققين من المفسرين ، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح ، مما أصفقت عليه الأُمّة.
    1 ـ روى الطبري ( 310 هـ ) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون اللّه سبحانه بتغيير المصير واخراجهم من الشقاء ـ إن كتب عليهم ـ إلى السعادة مثلا ، كان عمر بن الخطاب ( رضي اللّه عنه ) يقول وهو يطوف بالكعبة : اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [ الشقاوة ] فامحني وأثبتني في أهل السعادة فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك اُمّ الكتاب.
    وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود ، وابن عباس وشقيق وأبي وائل (2).
    وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه : ( يمحوا اللّه ما يشاء ) بما يُنزِّلُ على الأنبياء ، ويُثبت ما يشاء مما ينزل على الأنبياء قال : وعنده اُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدِّل (3).
    2 ـ قال الزمخشري ( 528 هـ ) : ( يمحوا اللّه ما يشاء ) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ (4).
1 ـ الرعد / 39.
2و3 ـ الطبري : التفسير ( جامع البيان ) الجزء 13 / 112 ـ 114.
4 ـ الزمخشري : الكشاف : 2 / 169.


(323)
    3 ـ ذكر الطبرسي ( 548 ـ 471 هـ ) لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال : « الرابع أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ومن الأجل ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. ( روى ذلك ) عن عمربن الخطاب ، وابن مسعود وأبي وائل وقتادة : واُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.
    وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : « اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء ... » (1).
    4 ـ قال الرازي ( 608 هـ ) إنّ في هذه الآية قولين :
    القول الأوّل : إنّها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا : إنّ اللّه يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى اللّه تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).
    والقول الثاني : إنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض.
    ثم قال : فإن قال قائل : ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى ، المحو والإثبات ؟
    قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلأنّه لا يمحو إلاّ ما سبق في علمه وقضائه محوه (2).
    5 ـ قال القرطبي ( 671 هـ ) ـ بعد نقل القولين وإنّ المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها ـ : مثل هذا لا يدرك بالرأي والإجتهاد ، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحّ فالقول به يجب أن يوقف عنده ، وإلاّ فتكون الآية عامة في جميع الأشياء وهو الأظهر ـ ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبداللّه
1 ـ الطبري مجمع البيان 6 / 398.
2 ـ الرازي : 10 / 64 ـ 65.


(324)
ابن مسعود ثم قال : روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « مَن سرَّه أن يبسط له في رزقِه ويُنسَأ له في أثره ( أجله ) فليصل رحمه ». (1)
    6 ـ قال ابن كثير ( 774 هـ ) بعد نقل قسم من الروايات : ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ اللّه ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « إنّ الرجل ليُحْرَمُ الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء ، ولا يزيد في العمر إلاّ البر » ثم نقل عن ابن عباس : الكتاب كتابان ، فكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء ، وعنده اُمّ الكتاب (2).
    7 ـ روى السيوطي ( 911 هـ ) عن ابن عباس في تفسير الآية : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة اللّه ، ثم يعود لمعصية اللّه فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية اللّه تعالى وقد سبق له خير حتى يموت و هو في طاعة اللّة سبحانه و تعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة و التابعين (3).
    8 ـ ذكر الآلوسي (1270 هـ) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال : أخرج ابن مردوية وابن عساكر عن عليّ ـ كرم اللّه وجهه ـ أنه سأل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن قوله تعالى : ( يمحوا اللّه ما يشاء ... ) الآية فقال : له عليه الصلاة والسلام. لاقرّنّ عينك بتفسيرها ولا قرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف ، محوِّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء ، ثم قال : دفع الإشكال عن استلزام ذلك ، بتغيّر علم اللّه سبحانه ومن شاء فليرجع (4).
    9 ـ قال صديق حسن خان ( 1307 هـ ) في تفسير الآية : وظاهر النظم
1 ـ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن 5 / 329.
2 ـ ابن كثير : التفسير 2 / 520.
3 ـ السيوطي : الدر المنثور 4 / 660 لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلها تحكي.
4 ـ الآلوسي : روح المعاني 13 / 111.


(325)
القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوةٍ أو سعادةٍ أو رزقٍ أو عمرٍ أو خيرٍ أو شرٍّ ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود و ابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريح وغيرهم ... (1).
    10 ـ قال القاسمي ( 1332 هـ ) : تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى : ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت ) فقالوا : إنّها عامَّة في كل شيء كما ـ يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا ـ يمحو اللّه من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر (2).
    11 ـ قال المراغي في تفسير الآية : وقد أثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض بل هي داخلة فيما سلف ثم نقل الأقوال بإجمال (3).
    وهذه الجمل والكلم الدرية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم باحسان ، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال وأنّه ليس كل تقدير حتمياً لا يغيّر ولا يبدّل وأنّ للّه سبحانه لوحين : لوح المحو والإثبات ولوح « اُمّ الكتاب » والذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأول ، وإنّ القول بسيادة القدر ، على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية ، قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة ، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب ( ذلكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفروا فويلٌ لِلَّذِينَ كَفروا مِنَ النّار ) (4).
1 ـ صديق حسن خان : فتح البيان 5 / 171.
2 ـ القاسمي : محاسن 9 / 372.
3 ـ المراغي : التفسير 5 / 155 ـ 156.
4 ـ سورة « ص » الآية 27.


(326)
    الأثر التربوي للاعتقاد بالبداء :
    الاعتقاد بالمحو والاثبات ، وانّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله ، يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر ، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه ، فتشريع البداء ، مثل تشريع قبول التوبة ، والشفاعة ، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر. كلّها لأجل بعث الرجاء وايقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة ، حتّى لا ييأسوا من روح اللّه ولا يتولّوا بتصوّر أنّهم من الأشقياء وأهل النار تقديراً ، فلا فائدة في السعي والعمل ، فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والاثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء « وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية » وتاب ، وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى ، يخرج من سلك الأشقياء ، ويدخل في صنف السعداء ، وبالعكس وهكذا كل ما قدر في حقّه من الموت والمرض والفقر ، والشقاء يمكن تغييره بالدعاء ، والصدقة وصلة الرحم ، وإكرام الوالدين ، وغير ذلك ، فالكل لأجل بث الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته وأخبار الهداة.
    وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور ( ولو عرفوه لأذعنوا به ).
    وأمّا اليهود ـ خذلهم اللّه ـ فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد اللّه مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والاعطاء ، وبعبارة اُخرى عندهم انّ للانسان مصيراً واحداً لا يمكن تغيره ولا تبديله وانّه ينال ما قدّر له من الخير والشر.
    ولو صح ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الإنسان.


(327)
    وعلى ضوء هذا البيان نتمكن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما ( الباقر أو الصادق ( عليهما السلام ) ) : « ما عبداللّه عزّوجلّ بشيء مثل البداء » (1).
    وما عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه : « ما عظّم اللّه عزّوجلّ بمثل البداء » (2).
    إذ لولا الاقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف اللّه حق المعرفة ، ويتجلّى سبحانه في نظر العبد ( بناء على عقيدة بطلان البداء ) أنّه مكتوف الأيدي ، لا يقدر على تغيير ما قدره ، ولا محو ما أثبته.
    ومن الروايات في هذا المعنى ما روي عن الصادق أنّه قال :
    « لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه » (3).
    وذلك لأنّ الاعتقاد بالبداء مثل الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغي والضلالة ، والانابة إلى الصلاح والهداية.

    البداء في مقام الاثبات :
    إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ المراد من البداء في مقام الاثبات هو ، وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر ، منها : ما لا يقبل التغيير ومنها ما يقبل ذلك.
    أمّا الأوّل : فهو المعبّر عنه بـ « اللوح المحفوظ » تارة وبـ « اُمّ الكتاب » اُخرى قال سبحانه : ( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (4) وقوله تعالى :
1 ـ البحار 4 / 107 باب البداء ، الحديث 19 ـ 20.
2 ـ التوحيد للصدوق باب البداء ، الحديث 2.
3 ـ الكافي 1 / 115 ، والتوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث 7.
4 ـ البروج 21 ـ 22.


(328)
( وَإِنَّهُ فِى اُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلىٌّ حَكِيمٌ ) (1) وقال سبحانه : ( مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَة فِى الاَرْضِ وَلا فِى أَنفُسِكُمْ إلاّ فِى كِتاب مِن قَبْلِ أن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (2) فاللوح المحفوظ واُمّ الكتاب وذلك الكتاب الذي كتب فيه ما يصيب الإنسان من مصائب ممّا لا يتطرق إليها المحو والاثبات قدر شعرة ، ولأجل ذلك لو أمكن الإنسان أن يتّصل به ، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف.
    وأمّا الثاني : فهو لوح المحو والاثبات الذي أشار إليه سبحانه ، بقوله ( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (3) فالأحكام الثابتة فيه ، أحكام معلّقة على وجود شرطها أو عدم مانعها ، فالتغيّر فيها لأجل اعواز شرطها أو تحقّق مانعها وربّما يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته ، ولكنّه ربّما يمحى ويكتب فيه الصّحة لفقدان شرط التقدير الأول أو طرؤ مانع من تأثير المقتضي.
    فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه ، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته ، فإنّ الشيء إذا قيس إلى مقتضيه ( الذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع ) يمكن تقدير وجوده ، ولكنّه بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته التي منها الشرائط وعدم الموانع ، يقدر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه ، وتحقّق موانعه.
    إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّه ربّما يتصل النبي أو الولي بلوح المحو والاثبات ، فيقف على المقتضى من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شيء
1 ـ الزخرف / 4.
2 ـ الحديد / 22.
3 ـ الرعد / 39.


(329)
ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه وذلك هو البداء في عالم الاثبات وإن شئت قلت : إنّ موارد وقوع البداء حسب الاثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت ، ولم يرد في الأخبار من هذاالقسم من البداء إلاّ موارد لا تتجاوز عن عدد الأصابع ، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم.

    تلميحات إلى البداء في الذكر الحكيم :
    1 ـ قال سبحانه :( فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيم * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى المَنَامِ أَنَّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أبَتِ أفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرينَ ) (1).
    أخبر إبراهيم ( عليه السلام ) ولده إسماعيل ( عليه السلام ) بأنّه رأى في المنام أنّهُ يذبحه ورؤيا الأنبياء ( كما ورد في الحديث ) من أقسام الوحي (2) ، فكانت رؤياه صادقة حاكية عن حقيقة ثابتة ، وهي أمر اللّه إبراهيم بذبح ولده ، وقد تحقّق ذلك الأمر ، أي أمر اللّه سبحانه به.
    ولكن قوله : ( اِنِّى أرى فِى المَنامِ أنِّى اَذْبحك ) يكشف عن أمرين :
    الف : الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق.
    ب : الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وانّ إبراهيم سيمتثل ذلك ، والحال أنّه لم يتحقق لفقدان شرطه ، وهو عدم النسخ ويحكي عن كلا الأمرين قوله : ( وفَدَيناهُ بِذَبحٍ عظيم ).
    وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه بأنه كيف أخبر خليل الرحمن بشيء من
1 ـ الصافات / 101 ـ 102.
2 ـ السيوطي : الدر المنثور 5 / 280.


(330)
الملاحم والمغيبات ، ثمّ لم يتحقّق ، وما هذا إلاّ لأجل أنّه وقف على المقتضي ، فأخبر بالمقتضى ، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامة ، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتصاله بلوح المحو والاثبات.
    2 ـ أخبر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام (1) ولكن العذاب لم يصبهم ، فما هذا إلاّ لأنّ النبي ، وقف على المقتضي ولم يقف على المانع وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبة نصوحاً رافعة للعذاب ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلَى حِينِ ) (2).
    3 ـ أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة ، كما روي عن ابن عباس حيث قال : إنّ موسى قال لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه واخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه (3).
    وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسى لأَخِيهِ هَارونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدينَ ) (4).
    فلا شك أنّ موسى اطّلع على الخبر الأوّل ولم يطّلع على نسخه وانّ التوقيت سيزيد ولا مصدر لعلمه إلاّ الاتصال بلوح المحو والاثبات.
1 ـ الطبرسي : مجمع البيان 3 / 135.
2 ـ يونس / 98.
3 ـ الطبرسي : مجمع البيان 2 / 115.
4 ـ الأعراف / 142.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس